نموذج الصكوك الجديدة في تونس: منقذ مالي أم عبء اجتماعي جديد

تونس - أثار نموذج الصكوك الجديدة جدلا في الأوساط الشعبية التونسية، وطرح حزمة من التساؤلات لدى المتابعين عما إذا كانت الصيغة الجديدة منقذا ماليا أم عبئا اجتماعيا جديدا على الدولة. وفي خضم استعداداتها لجلسة جديدة من العلاج الكيميائي ضد السرطان، تلقت هالة، امرأة ستينية، اتصالا مفاجئا من البنك يطالبها بتوفير السيولة اللازمة لتغطية عدد من الصكوك دون رصيد بقيمة تناهز 3 آلاف دينار.
وتتعلق تلك الصكوك بتقسيط تسديد فواتير المصحة الخاصة ومستحقات الأطباء الذين أمنوا لهالة قبل ثلاثة أشهر حصة للعلاج الكيميائي، في ظل نقص السيولة لديها ومحدودية جراية تقاعدها. وقبل أيام على انطلاق العمل بنموذج الصكوك الجديدة في تونس يوم الثاني من فبراير المقبل، سارعت المؤسسات والشركات والمصحات الخاصة وبقية المتعاملين الاقتصاديين بالإعلان عن رفض قبول الشيكات القديمة التي ألغاها القانون وإيقاف التعامل بها.
ويأتي ذلك بعد صدور القانون عدد 41 بتاريخ الثاني من أغسطس 2024 والمتعلق بتنقيح بعض أحكام المجلة التجارية الخاصة بالشيكات بهدف منع التداول نهائيا بالصكوك دون رصيد والتقليص من المخاطر المرتبطة بتلك الشيكات. وأفادت هالة التي أصيبت بسرطان الثدي في 2019 واكتشفت مؤخرا إصابتها بسرطان الرحم، بأن هذه الوضعية الجديدة ضاعفت معاناتها وخلقت ضغطا مزدوجا عليها لتجد نفسها حائرة بين معركة متشعبة ضد مرض خبيث وتكاليف علاج تثقل كاهلها، وبين وضعها المادي الصعب، خاصة بعد إلغاء العمل بالشيكات القديمة.
وقصد تجنب الوقوع في تتبع قضائي قد يدخلها ثنايا متاعب جديدة، قالت في تصريح صحفي “اضطررت إلى الاقتراض من أفراد من عائلتي بعد إلغاء الصكوك القديمة التي كنت أستعملها كغيري كآلية للدفع المؤجل عبر أقساط شهرية”، مضيفة أنها تقدمت رغم كل التزاماتها المالية السابقة بمطلب للحصول على قرض بنكي لمواجهة نفقات علاجها القادمة.
وبالنسبة إلى هالة أو غيرها من المواطنين أو أصحاب الشركات ممن كانوا يعتمدون على الشيكات دون رصيد كآلية للدفع المؤجل، طرح القانون الجديد تحديا جديدا على معاملاتهم التجارية، وحياتهم اليومية من خلال ما فرضه من إجراءات جديدة وتغييرات في إدارة وتقنين استعمالات الصكّ. وفي هذا السياق أكد عادل، وهو حرفي في مجال صناعة ونقش النحاس بالمدينة العتيقة بالعاصمة، أن قانون الشيكات الجديد سيحد من معاملاته لأنه كان يعتمد بشكل أساسي على الشيكات دون رصيد كآلية للدفع المؤجل لشراء المواد الأولية.
ويعتمد هذا الحرفي على الشيكات كوسيلة دفع مؤجلة لشراء المواد الأولية من النحاس بسبب غياب رأس مال كاف لديه ومحدودية دخله الذي بالكاد يغطي نفقاته ويلبي احتياجات أسرته في ظل غلاء الأسعار. وقال إنه “بعد صدور القانون الجديد وإلغاء التعامل بالشيكات القديمة، أجد نفسي اليوم في مأزق لم أكن أتصوره لأن المزودين الذين كانوا يتعاملون معي بالشيكات أصبحوا مؤخرا يطلبون مني الدفع الفوري.”
ويرى الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربال أن “منع تداول الشيكات دون رصيد طبقا للقانون الجديد ستكون له كلفة اجتماعية خاصة على الطبقات الوسطى والفئات محدودة الدخل التي تعيش بواسطة التداين والدفع المؤجل.” وأوضح غربال في تصريح صحفي أن “هذه الكلفة الاجتماعية الباهظة ستدفع ثمنها جميع الطبقات المتوسطة والضعيفة في تونس، ما عدا الذين يمتلكون سيولة نقدية كافية لا تربك معاملاتهم التجارية أو المالية من طبقة الأغنياء والمهربين.”
وبيّن أن “الشيك دون رصيد هو تعويل على الزمن من أجل تأجيل الدفع وفي هذه الوضعية يحقق الشيك الأمل للناس بشكل مؤجل”، مشيرا إلى أن “إلغاء العمل بالشيكات القديمة سيحدث ‘صدمة’ لدى العديد من الفئات الاجتماعية”، لافتا إلى أن “إصدار الشيكات بلا رصيد أو قبول التعامل بها سابقا خلق روابط اجتماعية مبنية على أساس الثقة بالتعاملات التجارية اليومية في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، لكن بإلغاء الشيكات القديمة ستنكسر تلك الروابط.”
ويعتبر الصكّ بدون رصيد، وفق ذات المتحدث، “مدخلا لتحريك الاستهلاك الذي يحرك بدوره النمو، لكن دخول العمل بقانون الصكوك حيز التنفيذ سيحد من الاستهلاك ومن المعاملات المالية والتجارية ما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية.” وقال الباحث في علم الاجتماع “أعتقد أن منظومة الاستهلاك ستتأثر بشكل كبير لأن الشيكات دون رصيد كانت تقوم مقام السيولة النقدية كوسيلة خلاص، وبالتالي وسط تدهور المقدرة الشرائية وضعف السيولة ستتراجع منظومة الاستهلاك بالمجتمع.”
ولاحظ أن تراجع منظومة الاستهلاك بدخول قانون الشيكات الجديد حيز التنفيذ سيتجلى في مختلف مظاهر الحياة، باعتبار أن الأفراد الذين كانوا يعتمدون على الشيكات القديمة كانوا يستعملونها في كل شراءاتهم حتى البسيطة منها. وتابع “هناك أفراد كانوا يعتمدون على الشيك بدون رصيد لشراء بدلة أو فستان أو أثاث أو خلاص عشاء في مطعم فاخر”، مؤكدا أن إلغاء التعامل بالشيك القديم “سيعري المظاهر الخداعة لبعض الأفراد”، وفق قوله.
وتوقع أن “الصك دون رصيد سيحد من نمو الاستهلاك بشكل عام وسيؤثر على العديد من الطبقات”، لكنه سيقلص أيضا مما أسماه بـ“الاستهلاك التفاخري الذي يعتمده البعض للظهور وكأنهم من طبقة ثرية بينما هم في حقيقة الأمر غارقون في الشيكات.” ومن وجهة نظره، فإن إلغاء التعامل بالصكوك القديمة سيضر بالاقتصاد الذي يقوم بالأساس على الخدمات، وبالتالي ستجد الشركات الصغرى والمتوسطة نفسها في مواجهة عراقيل وتحديات جديدة في ظل صعوبات التمويل.
وبيّن الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أن “السلوك التجاري لدى المواطنين والشركات الصغرى والمتوسطة سيتأثر بشكل ملموس بعد إلغاء العمل بالشيكات القديمة، التي كان ينظر لها كوسيلة دفع متداولة.” وقال في تصريح صحفي إن “أغلب عمليات الدفع تتم بواسطة الصكوك التي دخلت في سلوكيات المواطن التونسي وعملياته التجارية لخلاص شراءاته عبر أقساط في مدة زمنية محددة في ظل غياب السيولة النقدية للشراء بالحاضر.”
وأوضح أن “القانون الجديد للصكوك لا يسمح لأي شخص بالحصول على دفتر صكوك إلا بعد موافقة لجنة في البنك على ملفه”، مؤكدا أن “كل هذه الإجراءات ستحد من القدرة الشرائية للمواطن وستحد من نشاط المؤسسة.” ويرى الخبير الاقتصادي أن قانون الشيكات الجديد سيحد من معاملات الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد بشكل كبير على الشيكات كوسيلة تمويل قصيرة الأجل لتسيير أعمالها والتزود بالمواد الأولية “ما سيؤثر سلبا على نشاطها الاقتصادي.”
أما على المستوى الفردي، وفق الشكندالي، فإن إلغاء الصكوك القديمة سيفاقم أزمة الديون للأسر التونسية، التي قد تجد نفسها أمام قيود جديدة على وسائل الدفع المؤجلة. ووفقا لبيانات المعهد الوطني للإحصاء، تجاوزت ديون الأسر التونسية لدى البنوك 55 مليار دينار في عام 2023، مسجلة زيادة قدرها 1.2 مليار دينار مقارنة بسنة 2022.
◙ قانون الشيكات الجديد سيحد من معاملات الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد بشكل كبير على الشيكات كوسيلة تمويل قصيرة الأجل لتسيير أعمالها
وفي المقابل، قال الخبير الاقتصادي جمال الدين العويديدي إن تنقيح بعض أحكام المجلة التجارية الخاصة بالصكوك “أعاد الاعتبار للشيك كوسيلة خلاص بالنقد في حينه وليس ضمانة مالية.” واعتبر أن القانون الجديد للشيكات أعاد الأمور إلى نصابها، موضحا أن صدور القانون الجديد للشيكات جاء بعد مطالب وشكاوى عديدة من أشخاص وشركات تضررت سابقا بسبب الشيكات دون رصيد.
وأكد هذا الخبير أن منع تداول الشيكات بدون رصيد سيجنب المجتمع مصائب كبرى لأن المعاملات المالية والتجارية ستصبح وفق القانون الجديد بواسطة شيكات يتم سحبها بعد التثبت من الرصيد المالي لصاحبها. وحول الإشكاليات التي أحدثتها الشيكات بدون رصيد، أشار العويديدي إلى الأحكام السجنية التي تعرض لها العديد من الناس وهروب الكثير منهم إلى الخارج إلى جانب التأثيرات السلبية الأخرى كالتفكك الأسري والطلاق.
وبالرغم من إقراره بما يمكن أن يتسبب فيه قانون الشيكات الجديد من تأثيرات على الاستهلاك والقدرة الشرائية للمواطن التونسي بالنظر إلى تطور واقع المعاملات بالشيك في الاقتصاد، إلا أنه أكد أن تلك التأثيرات ستكون “محدودة”. وأضاف أن “حدوث بعض التأثيرات أفضل بكثير من حدوث مصائب اقتصادية واجتماعية كبرى”، في إشارة إلى العقوبات التي كانت مرتبطة بالشيكات، مضيفا أن مسألة الدفع المؤجل يمكن أن تحل عن طريق “الكمبيالات”.
وفي هذا الاتجاه، أوضح العويديدي أن “التعامل بالكمبيالة كآلية دفع مؤجل لها ضوابط وقادرة على أن تفي بالحاجة لأن استخدامها أسهل من الشيكات وهي وثيقة معتمدة قانونيا وتلزم صاحبها بالدفع دون تنصل.” ويمنع القانون المتعلق بتنقيح بعض أحكام المجلة التجارية الخاصة بالصكوك، تداول الشيكات دون رصيد كوسيلة دفع مؤجلة، حيث لم يعد الشيك أداة ضمان، بل أداة دفع نقدية تصرف فور تقديمها.
وفرض القانون الجديد شروطا صارمة للحصول على دفتر صكوك، حيث لا يمكن لأي شخص الحصول على دفتر شيكات إلا بعد موافقة لجنة مختصة صلب البنك. وتتضمن ورقة الصكّ الجديد وجوبا معلومات التحقق الإلكتروني ورمز الاستجابة السريعة الخاص بها وعناصر الأمان الضرورية للحفاظ على السر البنكي وتأمين المعاملة الإلكترونية، عبر منصة رقمية موحدة خاصة بالمعاملات بالصكّ تمكن المستفيد من الصكّ من التثبت الفوري من وجود رصيد كاف له أو من وجود اعتراض على خلاصه.