"حفل كولونيا": قصة الألبوم الأكثر مبيعا في عالم موسيقى الجاز الارتجالية

50 عاما على تسجيل ألبوم البيانو المنفرد الأسطوري لكيث جاريت.
السبت 2025/01/25
عازف بيانو فريد

يمر هذا العام نصف قرن على التسجيل الشهير لحفل العازف كيث جاريت في مدينة كولونيا الألمانية، الحفل الذي قلب معايير موسيقى الجاز الارتجالية، والذي رغم عدم رضا غاريت عنه إلا أنه صار علامة فارقة في مسيرته تشهد على عبقريته الفنية رغم كل الظروف الصعبة التي نظم خلالها الحفل.

كولونيا (ألمانيا) - يصنف كيث جاريت البالغ من العمر اليوم 79 عاما، أحد أكثر عازفي البيانو تأثيرا في القرن العشرين، حيث كان يعزف من اللاشيء، معتمدا على الارتجال، ولطالما أكد أن أفضل حفلاته كانت تلك التي لم يكن يعرف فيها ماذا سيعزف في اللحظة التالية.

ورغم نجاحاته الكبرى في جعل اسمه رائدا في عالم الموسيقى إلا أن مسيرته لم تكن سهلة، بل تخللتها الكثير من التحديات، ومن بينها تلك التي واجهها خلال حفله الشهير في مدينة كولونيا الألمانية عام 1975، والتي حولت حفله إلى أكثر ألبوماته شهرة. فما الذي حصل؟ لقد كانت الرحلة التي قطعها عازف البيانو الأميركي كيث جاريت بالسيارة في الرابع والعشرين من يناير من عام 1975، طويلة، كما ازدادت سوءا بسبب معاناته من آلام في الظهر.

ولأسباب فنية، صار من غير الممكن أن يقوم جاريت بالعزف على البيانو فوق خشبة المسرح في دار الأوبرا بمدينة كولونيا الألمانية. وكان عازف موسيقى الجاز على وشك أن يلغي العرض، ولكنه لم يفعل ذلك. وعلى الرغم من – أو ربما بسبب – تلك الظروف المحبطة، صار التسجيل الخاص بهذا العرض تحديدا، واحدا من الألبومات المنفردة الأسطورية.

ألبوم عزز انتشار الارتجال

◙ ارتجالات جاريت تستمد من تقاليد موسيقى الجاز وأنواع أخرى بما في ذلك الموسيقى الكلاسيكية والموسيقات الشعبية العرقية
◙ ارتجالات جاريت تستمد من تقاليد موسيقى الجاز وأنواع أخرى بما في ذلك الموسيقى الكلاسيكية والموسيقات الشعبية العرقية

يعتبر ألبوم “كولن كونسرت” أو الذي يعرف أيضا باسم “حفل كولونيا” المنفرد، الأكثر مبيعا في عالم موسيقى الجاز على الإطلاق، حيث حظي ببيع نحو 4 ملايين نسخة حتى الآن. ومن المقرر أن يتم قريبا عرض فيلم يدور حول الظروف الخاصة التي كانت محيطة بالحفل، في دور العرض، تحت اسم “كولن 75” مع الممثلة الألمانية الشابة مالا إيمده (28 عاما).

وبعد مرور خمسين عاما على إقامة الحفل، لا يزال العرض محاطا بالكثير من الغموض، ويكاد يكون من المستحيل تحديد الأجزاء الحقيقية من أحداثه. وعلى أي حال، تقول القصة إن العرض الذي نظمته الطالبة فيرا برانديس (18 عاما)، كان على وشك الإلغاء، حيث لم يتوفر للعازف الشاب جاريت البيانو الكبير الذي طلبه، ولم يجد إلا بيانو أصغر بكثير ينتظره على خشبة المسرح.

ووفقا لبعض الروايات بشأن العرض، فقد كانت مخارج الصوت في البيانو الأصغر حجما، غير مضبوطة أيضا وكان في حالة سيئة، ورفض جاريت تقديم العرض. وبدا أن الحفل سيُلغى. ثم تمكن متخصص في شؤون البيانو من جعله قابلا للعزف. ويقال إن الطالبة برانديس تمكنت من إقناع جاريت، الذي كان يبلغ من العمر 29 عاما آنذاك، بالعزف في اللحظة الأخيرة.

ويقال إن جاريت قال لبرانديس “سأعزف، ولكن من أجلك أنت فقط.” وبقي جمهور الحفل، الذي بلغ عدده نحو 1400 متفرج، دون أن يلحظ أي شيء. وأقيم الحفل الذي نفدت تذاكره بالكامل في دار الأوبرا بكولونيا.

ويبدأ الحفل بجاريت، الذي بدا مزاجه لطيفا من جديد، جالسا أمام البيانو، حيث كان يعزف صوت نغمات مشابهة لجرس إشارة الاستعداد لبدء الحفل، الذي كان قد نبه للتو الجمهور إلى ضرورة الجلوس على مقاعدهم، وهو ما تسبب في إطلاق موجة من الضحك بين الحضور. وعلى مدار 26 دقيقة، تتكشف القطعة الافتتاحية للعرض وتستمر لبعض الوقت، قبل أن تنتهي بقوة بعد الوصول إلى ذروتها.

حقق الألبوم الذي تم طرحه في نوفمبر من عام 1975، تحت العلامة التجارية “أي.سي.أم”، وهو عبارة عن تسجيل حي مدته ساعة كاملة، نجاحا تجاريا كبيرا منذ الوهلة الأولى. وظهر على الغلاف البسيط للألبوم، جاريت وهو يعزف على البيانو، باللونين الأسود والأبيض.

وكان الألبوم علامة فارقة أيضا من حيث أنه جعل موسيقى الجاز المرتجلة تحظى بشعبية لدى جمهور عريض. ووضع عزف جاريت، الهادئ والمتناغم والتأملي في بعض الأحيان، نبرة جديدة في عالم موسيقى الجاز، في وقت كان لا يزال متأثرا بشدة بموسيقى الجاز الحرة، التي كانت سائدة في ستينات القرن الماضي. ومن المحتمل أن تكون القيود التي فرضها البيانو الصغير على جاريت، قد تسببت أيضا في إطلاق قوى إبداعية جديدة فيه.

حفل تذكاري

◙ الألبوم كان علامة فارقة من حيث أنه جعل موسيقى الجاز المرتجلة تحظى بشعبية لدى جمهور عريض

بدأ جاريت مسيرته مع آرت بلاكي وانتقل لاحقا للعب مع تشارلز لويد ومايلز ديفيس، منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي، وكان أيضا قائد مجموعة ويقدم أداء منفردا في موسيقى الجاز وموسيقى الجاز المدمجة والموسيقى الكلاسيكية. تستمد ارتجالاته من تقاليد موسيقى الجاز وأنواع أخرى، بما في ذلك الموسيقى الكلاسيكية الغربية والبلوز والموسيقات الشعبية العرقية.

في عام 2003، حصل جاريت على جائزة بولار للموسيقى وكان أول من حصل على جوائز في الموسيقى المعاصرة والكلاسيكية. وفي عام 2004، حصل على جائزة ليوني سونينغ للموسيقى.

والفنان المولود في العام 1945، في رصيده نحو 100 ألبوم موسيقي، لكنه منذ سنوات لم يعد يقدم حفلات موسيقية بسبب مشاكل صحية، حيث عانى بسبب “حفل كولونيا” لفترة طويلة. وأصيب جاريت بجلطتين متتاليتين الأولى في فبراير 2018 والثانية في شهر مايو من العام نفسه، والتي أصابته بشلل جزئي حيث أفقدته القدرة على التحكم في يده اليسرى وصار العزف بالنسبة له أمرا شديد الإيلام، فهجره.

وكتب فولفغانغ ساندنر في مؤلفه عن سيرة كيث جاريت الذاتية، أن عازف البيانو اللامع قطع الاتصال به لفترة طويلة عندما وصف الحفل بأنه أحد أعظم نجاحاته، حيث إنه لا يعتبر الحفل مثاليا، ولم يستطع تفسير النجاح الهائل الذي حققه التسجيل الخاص به. ولم يقترب سوى عدد قليل من الكتاب من جاريت مثل ساندنر، الذي لم يتابع عن كثب مسيرة جاريت  منذ ستينات القرن الماضي فحسب، بل أتيحت له الفرصة لزيارته في منزله في الولايات المتحدة.

في السيرة الذاتية، المليئة بالتحليل الموسيقي التفصيلي، جمع الكاتب معلومات جديدة عن الخلفية العائلية لجاريت، ويستكشف الكتاب عمل جاريت مع موسيقيين آخرين، وخاصة أعضاء الرباعيات الأميركية والأوروبية وثلاثي المعايير، ويرصد تطور حفلاته المنفردة، ويحقق أيضا في عمله في المجال الكلاسيكي، بالإضافة إلى الموسيقى الأصلية للغاية التي أنشأها في أستوديو منزله. كما يغطي ارتباطاته بشركات التسجيل المختلفة والمنتجين، ولاسيما علاقته التي لا مثيل لها مع شركة “أي.سي.أم” ومؤسسها مانفريد إيشر.

وحتى بعد مرور 50 عاما على إطلاقه، لا يزال تسجيل حفلة كولونيا مفضلا بين الكثيرين من عشاق موسيقى الجاز وعازفي البيانو، وقد تم نسخ الحفل بالكامل على شكل نوتة موسيقية، وقام خبراء الموسيقى بتدريسه بعناية. وإحياء للذكرى السنوية للحفل الأسطوري، أقام عازف البيانو البريطاني دوريان فورد حفلا تكريميا بكولونيا الجمعة.

وباتخاذ حفل أقامه جاريت في عام 1964 كنقطة انطلاق له، يحاول فورد محاكاة “حفل كولونيا” من خلال ارتجالاته الخاصة. وتم قبول حضور الزوار الذين حضروا حفل جاريت قبل 50 عاما، مجانا.

14