أكرم حسن منذر لـ"العرب": الرواية وسيلة لتغيير الواقع وصناعة الأمل

الكتابة رسالة وليست مجرد ترفيه وترف، هذا ما يؤكده الكثير من الكتاب، ولكنها من ناحية أخرى تحمل في أعماقها جانب التسلية، وإلا فإنها لن تجتذب القراء، إذ تقوم التسلية فيها على الأفكار والجماليات اللغوية والتشويق واستنطاق المجهول والمنسي وغيرها من أساليب. من الكتاب المؤمنين بهذا التمشي السوري أكرم حسن منذر الذي كان لـ“العرب” معه هذا الحوار.
“الأدب والفنون والجمال والحب هي طريق الخلاص لأرواحنا المعذبة”، بهذه العبارة يختصر الروائي السوري أكرم حسن منذر فلسفته الأدبية، التي تجلت بوضوح في ثلاثيته الشهيرة: “نزيف السنديان”، “قحطستان”، و”أشرعة الروح”. من خلال هذه الأعمال، لا يكتفي منذر بسرد حكايات أدبية، بل يقدم رؤية شمولية للحياة، تجمع بين التأريخ، النقد المجتمعي واستشراف المستقبل.
يستمد الكاتب أعماله من تجربة غنية تجمع بين التخصص الهندسي والاهتمام العميق بالثقافة والفكر الإنساني. يقول منذر “الهندسة هي أدب الحياة، والأدب هو هندسة الحياة. كلاهما يعكسان إبداعا ماديا وحسيا وروحيا”، مؤكدا على العلاقة الوثيقة بين دقة الهندسة وشاعرية السرد الأدبي.
ثلاثيته الروائية بدأت بـ”نزيف السنديان”، التي تعكس شموخ الإنسان وألمه، مستوحية رمزيتها من شجرة السنديان المتجذرة في تاريخ الأرض. تلتها “قحطستان”، التي تسلط الضوء على القحط الأخلاقي والفكري الذي يعانيه المجتمع، ثم جاءت “أشرعة الروح” لتفتح بابا نحو الأمل والخلاص، مؤكدة أن الحب والعمل هما أساس تجديد الروح الإنسانية.
إرادة البقاء
يمزج منذر في أعماله بين الواقعية والشاعرية، حيث يُعيد تشكيل الأحداث التاريخية بخيال حيّ يضفي على النصوص بعدا جديدا. ويرى الكاتب أن “الخيال هو الفضاء الرحب الذي نعيد فيه تشكيل الواقعة التاريخية لتصبح أكثر إنسانية”، مشبها الحياة بالشجرة التي تمتد جذورها إلى الماضي، بينما تحمل أغصانها وأزهارها المستقبل.
إلى جانب جمال اللغة وثراء السرد، يلتزم أكرم حسن منذر برسالة إنسانية وأخلاقية في أعماله. “لدينا دين أخلاقي تجاه أوطاننا وناسنا”، يقول، مشيرا إلى أن الأدب ليس ترفا بل وسيلة لإحداث تغيير إيجابي في المجتمعات. أما عن الواقع السوري فهو يمثل حجر الزاوية في إبداعه، فمن خلال نصوصه، يعبر عن وجع الوطن وأمله في المستقبل. يقول “نزيفنا المستمر ولوعتنا المشتعلة هي الدافع للمزيد من الإبداع، لأننا محكومون بإرادة البقاء والحب.”
رغم نجاح ثلاثيته، يرى أن الإبداع الأدبي رحلة مستمرة. مع كل نص جديد، يبحث عن معان أعمق وتجارب أكثر إثراء. “الكتابة هي غوص في بحار عاصفة”، يقول منذر، لكنه يؤمن بأن الغايات النبيلة تستحق كل المغامرات.
في حواره مع “العرب” يعلق في شهادته “الأدب ليس فقط انعكاسا للواقع، بل أيضا قوة دافعة لإعادة تشكيله، ووسيلة لإبراز أجمل ما في الروح الإنسانية.”
عن الإلهام الذي دفعه إلى اختيار عناوين ثلاثيته الروائية “نزيف السنديان”، “قحطستان”، و”أشرعة الروح”، وما مدى انعكاس تلك العناوين على مضمون كل رواية؟ يقول “أنا أقدم رأيي في الفن والأدب بشكل خاص والذي يتمحور حول نقاط عديدة أهمها أن الأدب هو شغف وجمال ورسالة، ويهدف أيضا إلى المتعة والفائدة والأنسنة.”
ويضيف “العرب سبق وأن قالت إن المكتوب يُقرأ من عنوانه، وهنا أقول إن العنوان الروائي الإبداعي يعكس بعضا من مضمون الرواية، ففي نزيف السنديان بعض من البوح بالوجع الذي
أصابنا وحلّ بأوطاننا عندما ينزف أبناؤها وتفقد بعضا من روحها، لكنها تبقى متماسكة وحية وشامخة مثل شجرة السنديان عميقة الجذور في التاريخ قوية البنيان في الحضور.”
ويتابع “في رواية ‘قحطستان’ ما يدل على القحط الفكري الأخلاقي والإنساني وليس القحط الجغرافي والبيئي فقط الذي ألمّ ببلادنا وحياتنا. وبـ’أشرعة الروح’ هنالك بارقة أمل وخلاص بالتفاؤل والعمل والحب الذي يعيد تشكيل حياتنا ويجمّل بقاءنا ويجعل لها قيمة ومعنى.”
أما عن الأبعاد التي تتضمنها الثلاثية، وهل كان هناك تصور مسبق عند البدء بكتابتها، أم تطورت الفكرة أثناء الكتابة؟ فيجيبنا منذر “هنالك أفكار وخطوط عريضة مسبقة عن أي عمل أدبي قبل أن يظهر للحياة، وعند الإبحار سعيا وراء مكنوناته الثمينة أجد نفسي في خضم أحداث تفرض شروطها وبين شخوص حية أُشكلها وتُشكلني نتعارك ونتحاور ونتصالح ونتعانق إلى أن يحين موعد ولادة النص الأدبي والذي يمتلك شخصية مختلفة عنا جميعا.”
لا شك أن عنوان “قحطستان” غريب ومثير للتفكير. تسأله “العرب”هل يمكن أن يوضح لنا المزيد عن دوافع اختيار هذا العنوان ودلالاته الرمزية؟ ليجيب الكاتب “قحطستان هي بلاد القحط والقحط ليس البيئي فقط بل الفكري والأخلاقي والإنساني والحضاري والذي يقود إلى الألم والفقد والمعاناة والخروج من التاريخ لكن على قيد الأمل بالتغيير نبقى وسنبقى.”
الرواية تتناول أبعادا مختلفة للقحط، ليس فقط البيئي بل الثقافي والاجتماعي. وبسؤاله كيف استطاع أن يوفق بين هذه الأبعاد المختلفة داخل النص؟ يقول “لكي يكون النص الأدبي إبداعيا لا بد له من التشخيص والواقعية وتفكيك النسيج المجتمعي الحياتي وإعادة تشكيله وفق رؤية مختلفة ثقافية فكرية إنسانية بلغة ترتقي بالمضمون والهدف.”
تمتاز أعمال منذر بأسلوب سردي يمزج بين التاريخي والشاعري. يتحدث عن هذا التوازن في كتاباته موضحا أن “اللغة هي روح النص الأدبي وشاعريتها هي التوق للجمال والحب، أما الاتكاء على المادة التاريخية فالقصد منه إعادة قراءتها وتقديمها وفق منظور يختلف عن السائد للعبرة المتعقلة وللفائدة الإنسانية الحالية والمستقبلية.”
أما عن الدور الذي يلعبه الخيال في إعادة بناء الأحداث التاريخية في رواياته، وسعيه أحيانا لإعادة صياغة التاريخ برؤية جديدة، فيقول “الخيال هو الفضاء الرحب الذي نُعيد فيه تشكيل الواقعة التاريخية والأشخاص ليكونوا أحياءً يرزقون يشبهون أحلامنا ويختلفون عنا بوجودهم المستقل. حياتنا مثل شجرة جذورها الماضي وحاضرها الجذع والأغصان ومستقبلها الأزهار والثمار ولن تكون الشجرة شجرة حية إلا بهذه الثلاثية، من هنا تستوقفني المادة التاريخية المطلوبة إعادة قراءتها بعقل وروية بعيدا عن العصبية والغاية غير النبيلة وبلا منطقية.”
رسالة الكاتب
في روايته “نزيف السنديان”، طرح الروائي السوري تساؤلات وجودية وسياسية عميقة. نسأله هل يرى أن الأدب وسيلة لمقاومة عبثية الحياة والوجود؟ فيعلق “الأدب والفنون والجمال والحب طريق الخلاص لأرواحنا المعذبة، فعل وإرادة وفلسفة وجود. نعم هو كذلك.”
وفي روايته الأخيرة “أشرعة الروح”، المكملة لهذه الثلاثية، والتي تفوق في حجمها كلا العملين السابقين اللذين لاقيا استحسانا كبيرا من قبل القراء، وما زالت بانتظار الإفراج عنها، نسأله ماذا أراد أن يقول من خلالها؟ ليشرح “أردت أن أقول نعم هنالك حب وحياة وأمل ونحن محكومون بالأمل كما قال المرحوم الكاتب المبدع سعدالله ونوس. إنه إرادة الوجود الواعي والعمل النبيل والغايات الفاضلة.”
أما عن كيفية تأثير الواقع السوري الحالي على توجهاته الأدبية، خاصة في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها الإنسان السوري، فيقول منذر “آه أتيت على بيت الوجع، إنه نزيفنا المستمر ولوعتنا المشتعلة وقلقنا الدائم، لكننا محكومون بإرادة البقاء والحب وبضرورة العمل مجتمعين متكاتفين كل بطريقته على بناء سوريا جديدة حرة بهية لكل السوريين وأنا متفائل بأن القادم أجمل.”
ونسأل الكاتب كونه مهندسا مدنيا وكاتبا، كيف تؤثر خلفيته المهنية على كتاباتك الأدبية؟ وهل تشعر بأن بين الهندسة والأدب تقاطعات؟ ليجيبنا “الهندسة هي أدب الحياة والأدب هو هندسة الحياة فكلاهما يقدمان الإبداع الحياتي المادي والجمالي والحسي والروحي. فأنا منهما ولهما.”
أما عن مصدر إلهامه الأساسي، وكيفية تعامله مع لحظات التوقف الإبداعي أثناء الكتابة، فيقر بأن “مصدر الإلهام الفطرة وتجارب الحياة والثقافة والمعرفة والحب والأم سيدة الوجود والخلق والبهاء. التوقف أو الوقفة هي لإعادة شحن الطاقات الملهمة للمزيد من الاستمرار في الإبداع وتقديم الأفضل.”
تسأل “العرب” منذر كيف يرى تفاعل القراء مع أعماله؟ وهل هناك انطباعات أو ردود فعل أثرت فيك بشكل خاص؟ فيقول “عندما تخرج الرواية من دار الطباعة والنشر تصبح كائنا مستقلا يملكه القارئ وأنا أستفيد من قراءته بعيون القراء المثقفين والنقاد، ولا غضاضة عندي على قسوة النقد أو ثنائه المهم أن يكون نزيها ومنطقيا وواقعيا. نعم هنالك إضاءات وقراءات عدة أثرت بي إيجابا وأغنت ما بعدها.”
نتطرق إلى الحديث عن النقد الأدبي اليوم إذا كان قادرا على مواكبة الإنتاج الأدبي الحديث وتحليل معانيه العميقة. يقول منذر “هنالك نقد لعموم القراء وهو هام بطبيعة الحال ونقد أكاديمي قلة من يتقنونه وغيابه يضعف الإبداع والارتقاء والتميز الأدبي والفني.”
ثلاثيته حققت نجاحا لافتا. نسأله هل يخطط لتوسيع هذا المشروع الأدبي إلى أعمال جديدة تحمل نفس الروح؟ فيقول “نعم لدي مشاريع أدبية جديدة والخوض في غمارها حقيقةً هي رحلة في بحار عاصفة وخطرة، لكن غايتها الجميلة النبيلة المأمولة والنفيسة تخفف من الصعاب لقنص الدرر.”
أما عن الرسائل التي يأمل أن تصل من خلال أعماله الأدبية إلى القارئ العربي والعالمي، فيؤكد أكرم حسن منذر “أشعر أن علي دينا أخلاقيا وإنسانيا لبلادنا ولناسنا وللعالم نوفيه بالعمل وبالإبداع الأدبي الذي يقدم رؤى وجمالا وفضيلة وحبا.”