الكاتب العراقي أزهر جرجيس لـ"العرب": الأدب لا يغير العالم، لكنه يفتح أعيننا على ما يجري

"وادي الفراشات" للروائي العراقي أزهر جرجيس حكاية يمتزج فيها الخيال بالواقع، والتراجيدي بالكوميدي، وكأنها مواجهة من زاوية أخرى بين الإنسان وكل الحواجز التي تعوقه لتحقيق ذاته وإنسانيته. وقد نجح العمل في اجتذاب القراء والنقاد على حد السواء، فيما ينافس على أبرز جائزة روائية عربية. "العرب" كان لها هذا الحوار مع أزهر جرجيس عن روايته وعوالمها الخفية.
في السابع من يناير الجاري كشفت الجائزة العالمية للرواية العربية النقاب عن قائمتها الطويلة، والتي جاءت بواقع ست عشرة رواية لكتّاب من مصر ولبنان والعراق وسوريا والجزائر وموريتانيا والبحرين.
وقد كانت من بين هذه الروايات المرشحة رواية “وادي الفراشات” للكاتب العراقي أزهر جرجيس، الصادرة عن دار الرافدين بالاشتراك مع منشورات مسكيلياني، وهي المرة الثالثة التي يترشّح فيها جرجيس لقوائم “البوكر” إذ سبق وأن ظهرت روايته “النوم في حقل الكرز” في القائمة الطويلة لعام 2020، بينما وصلت روايته الثانية “حجر السعادة” إلى القائمة القصيرة، بل كادت تخطف الجائزة بحسب مراقبين.
“وادي الفراشات” عنوان شاعري ومثير للتساؤل، تسأل “العرب” أزهر جرجيس كيف اختاره؟ وما الرسالة التي أراد إيصالها من خلاله؟ ليجيبنا “يشكل العنوان تحديًا كبيرًا بالنسبة إلى الكاتب؛ حيث ينبغي أن يكون مفتاحًا لفهم مضمون الرواية، أو على الأقل تلميحًا لمضامينها، وفي الوقت ذاته عامل جذب للمتلقي، وبين الأمرين منزلق خطير.”
الشاعرية والقسوة
يضيف “لعلني أتفق معك في أن ‘وادي الفراشات’ عنوان شاعري يرمز إلى الهشاشة والجمال، غير أنهما جمال محاط بالمآسي وهشاشة قابلة للكسر، تمامًا كما هي حال الشخصيات في الرواية. ما أردت إيصاله في الواقع من خلال الجمع بين ‘الفراشات’ التي ترمز للأحلام والرغبة في التحليق، ومكان الحبس والعزلة الذي يمثله الـ’وادي’ هو أننا حتى في أكثر الأماكن ظلامًا نستطيع العثور على الجمال، لكن المحنة تكمن في القدرة على الاحتفاظ به.”
شخصية عزيز عواد في الرواية كانت مؤثرة ومعقدة، وغالبا ما تكون مثل هذه الشخصية مستلهمة من الواقع الشخصي للكاتب أو من شخصيات يعرفها، يعلّق جرجيس “عزيز هو مزيج من عدة أشخاص، بمن فيهم أنا. أعتقد أن كل كاتب يضع شيئًا منه في بطله، لكن عزيز يمثل أكثر من ذلك. هو انعكاس لجيل كامل من الشباب العراقيين الذين عاشوا سنوات من القهر الاقتصادي والاجتماعي. الكثير مما مر به عزيز هو جزء من تجربة شخصية عايشتها أو شهدتها خلال حياتي. أردت أن أُبرز صراعه الداخلي بين الرغبة في حياة أفضل والاستسلام للواقع القاسي.”
الحب بين عزيز وتمارا كان محور الرواية، لكنه أيضًا كان مليئًا بالصراعات. يتحدث الروائي عن العلاقة بينهما ونهايتها المفتوحة قائلا “العلاقة بين عزيز وتمارا تمثل حبًا حقيقيًا، لكنه واقعي بما يتطلبه من تضحيات ويواجهه من قيود. أردت أن أقول من خلال قصتهما بأن الحب ليس عاطفة وردية مجردة، وإلا لما كان كافيًا لتجاوز العقبات المادية والنفسية. أما النهاية، فلطالما رغبت في أن يشارك القارئ في رسم مصير الشخصيات، لذلك جعلتها مفتوحة نوعًا ما. وبشكل عام فإن الحياة لا تعطينا نهايات محددة، لذلك يأتي غموض المصائر بمثابة اعتراف بقلة الحيلة تجاهها، بل وبعدم اليقين فيها.”
نلاحظ حضورًا قويًا لشخصية خال عزيز، جبران في الرواية، حول دوره البارز وإن كان يمثل شيئًا أعمق في العمل، يشدد جرجيس على أن جبران ليس مجرد خال لبطل الرواية، عزيز عواد، بل هو رمز الحكمة الذي يفتقده الأخير في حياته. هو نوع من الضمير الحي لعزيز، وهو مصدر القوة والإلهام في الرواية، متابعا “أردت أن أُظهر من خلاله كيف يمكن لشخص واحد أن يكون نقطة ضوء في حياة مليئة بالظلام. بالمحصلة؛ جبران المكتبي هو الشخص الذي يُحاول إنقاذ من حوله عبر المعرفة، لكنه في الوقت نفسه يدرك أنه لا يستطيع تغيير العالم.”
اللغة المستخدمة في الرواية كانت غنية بالشاعرية رغم الطابع الواقعي القاسي، ويشير الكاتب إلى أن هذا التناقض كان متعمدًا تمامًا. ويقول لـ”العرب”: “أردت أن أخلق توازنًا بين قسوة الواقع وجمال اللغة. هذا التناقض يعكس الحياة نفسها؛ حتى في أصعب الأوقات، هناك لحظات من الجمال والتأمل. اللغة الحيويّة في الرواية ليست مجرد تزيين، بل هي جزء من النسيج السردي الذي يُبرز المشاعر الداخلية للشخصيات.”
رسالة الأدب
الرواية تحمل الكثير من النقد الاجتماعي لقضايا مثل الفقر والقهر الاجتماعي وضغوط التقاليد. حول رؤيته لدور الأدب في تناول هذه القضايا، يقول الروائي العراقي “الأدب يجب أن يكون صوت المجتمع، مرآة تعكس مشاكله وآلامه. بالنسبة إلي الكتابة ليست هروبًا من الواقع، بل مواجهة له. لقد حاولت من خلال ‘وادي الفراشات’ تسليط الضوء على القضايا التي يواجهها الناس يوميًا، كانعدام الفرص، وصعوبة تحقيق الأحلام في بيئة مليئة بالعراقيل. صحيح أن الأدب عاجز عن تغيير العالم، لكنه يستطيع أن يفتح أعيننا على ما يجري، كحد أدنى.”
أما عن ملخص رسالة “وادي الفراشات” إذا أردنا أن يكون في جملة واحدة، فيقر جرجيس بأنه من الصعوبة بمكان تلخيص رواية بجملة واحدة، مستدركا “لكن يمكنني القول إن هذه الكلمات كانت تراودني وأنا أرسم خطة الرواية، وعندما انتهيت من الكتابة دوّنتها على مظروف المسودّة: ‘رغم العثرات يظل المرء قويًا ما دام محاطًا بأحبته.”
تسأله “العرب” كيف كان شعوره أثناء كتابة الرواية؟ وهل كانت هناك لحظات شعر فيها بأنه يعيد النظر في مصير الشخصيات؟ ليجيبنا “بحق كانت رحلة شاقة ومليئة بالمشاعر المتضاربة. شعرت أحيانًا بأنني أعيش مع الشخصيات، وكنت أتساءل إن كنت أعطيها مصائر عادلة. لكن في النهاية، تركتها تتحدث بطريقتها الخاصة، ما جعل القصة أكثر واقعية وإنسانية.. أو هكذا أظن.”
أما عن المشروع الأدبي القادم الذي يعمل عليه، وإن كان سيواصل الكتابة في نفس الإطار الواقعي، فيقول “أعمل حاليًا على إنجاز مشروع جديد يحمل طابعًا واقعيًا كذلك، غير أنه يتناول قضايا من منظور مختلف. أحب الواقعية لأنها تتيح لي الغوص في أعماق الشخصيات والمجتمع، لكنني أفكر أيضًا في استكشاف أشكال سردية أخرى.”
وفي كلمة أخيرة يقول أزهر جرجيس “أشكر كل من قرأ الرواية وشاركني هذه الرحلة. أؤمن بأن القارئ هو الشريك الحقيقي للكاتب، وأن الكلمات لا تعيش إلا عندما تجد من يتأملها ويفهمها. أتمنى أن يجد كل قارئ في ‘وادي الفراشات’ شيئا من نفسه.”