تصحيحات حول "تهريب المسرح خارج الرقابة البعثية"

مسرحيون سوريون يكشفون حقيقة علاقتهم بالرقابة.
الاثنين 2024/12/30
مكان العرض فرضته طبيعته (عرض "مسرحية")

مع سقوط النظام في سوريا ارتفعت أصوات المثقفين والفنانين السوريين لتفضح ما عاشوه من أهوال القمع والرقابة، ولكن بين تلك الشهادات ما لا يمثل حقيقة ما حدث بالفعل، بل ويرقى إلى المغالطة، خاصة ما جاء حول الرقابة التي كانت مفروضة على المسرحيين وعروضهم ما اضطرهم إلى عرضها بأشكال سرية، بينما الواقع يؤكد عكس ذلك. 

يعاني معظم كتاب ومخرجي المسرح في سوريا، على قلتهم، من الرقابة، التي لا تكتفي بالرقابة على النص وإنما تتجاوزه لتتأكد من مطابقة العرض للنص، إلى حد أن تطلب من بعض المخرجين توقيع تعهد، كما حصل مع المخرج زين طيار مخرج مسرحية “الغنمة”.

أجبر الرقيب المخرج على التوقيع على تعهد بـ”عدم الإساءة لشخص السيد الرئيس وحذف التعميم الخامس الذي يوضح قدوم الرئيس، وفي ما يتعلق بتشبيه عموم الشعب السوري بالغنم إيجاد حلول لذلك، وعدم التعرض لموضوع القضية الفلسطينية وما يجري في غزة”، رغم ذلك وكما يؤكد طيار تم عرض المسرحية بطلب من الأستاذ عماد جلول.

عروض غير سرية

تعرفت شخصيا على الرقابة وسذاجة قراراتها التي كنت أسمع عنها، حين تقدمت لمديرية المسارح والموسيقى في دمشق بنصي “الوشم”، الحاصل على جائزة التأليف الأولى من “أيام القاهرة للمونودراما” في عام 2019، للموافقة عليه، لكن النص الذي دخل إلى الرقابة بعد أن تكلفت طباعته من ثلاث نسخ ورقية، لأن الرقيب لا يمكن أن يقرأ إلكترونيا، ضاع، ولم أعرف رسميا هل تم قبوله أو رفضه، وحين سألت زميلي في المعهد جوان جان، وهو الرقيب الأساسي على النصوص، تذكر ذلك النص، وتذكر أنه مر عليه، وأجابني حينها، ما هذا النص؟ ومن يهمه اليوم أن يعرف كيف يعيش السوريون؟

كلنا يعرف أنه لا يمكن أن نقدم أي عرض مسرحي في أي مكان، سواء ضمن المسارح التابعة للمسرح القومي، أو حتى في الأماكن البديلة، إلا بعد الحصول على موافقات الرقيب، وموافقات أمنية، ويسري الأمر حتى على حفلات الأعراس والعزاء وحفلات أعياد الميلاد.

لكن مقال الكاتب والمخرج السوري سامر محمد إسماعيل بعنوان “عن تهريب المسرح خارج الرقابة البعثية… أقبية صارت فضاءات عرض بديلة” الذي يتعلق بالرقابة، رغم أنه يؤكد أنها أحد أهم العقبات التي تعترض الكتاب والمخرجين المسرحيين في سوريا، لكنه لسوء الحظ اختار أمثلة مسرحية لم تعترض عليها الرقابة، أو لم تقف في وجهها، واختار أصحابها الأماكن البديلة لأسباب فنية لا رقابية.

يستشهد إسماعيل بالعرض الذي قدمته فرح الدبيات بعنوان “مسرحية” في عام 2021، قائلا إن أعضاء “تجمّع هيك الفنّي” قاموا بتهريب عرضهم المسرحي إلى داخل بيت في متاهة الحارات الدمشقية، وإن العرض “شكّل تواطؤا بين الجمهور والقائمين عليه، قبل أن يكون بمثابة بيان احتجاج على تعذيب المعتقلات واغتصابهن في سجون النظام.”

لكن مخرجة العمل تقول لـ”العرب”، “لم أتمكن من العرض على خشبة مسرح الحمرا، أو حتى القباني، لأنه لم يسمح لي بتقديم العرض هناك بشكل مجاني، لأنه كان تجربتي الإخراجية الأولى، وعُرض علي حينها استئجار أحد المسارح، لكن ذلك كان صعبا ومكلفا، فكان الحل أن توجهت للعرض في البيت العربي الذي كنت أقيم فيه، مع تعديل النص إخراجيا ليتناسب مع ظروف البيت و’الميزانسين’، أما بخصوص النص نفسه فكان قد حصل على موافقة رقابية سابقة بطبيعة الحال، إضافة إلى موافقات الأمن الوطني، وغيرها من الموافقات، نظرا إلى أن التجمعات ممنوعة في الأماكن غير المخصصة للتجمع.”

تضيف الدبيات “العرض قدم باسم تجمع تابع لنقابة الفنانين، لذا ساعدني النقيب حينها في الحصول على بعض الموافقات، أما عن دخول الجمهور بتلك الطريقة الخاصة والمميزة، فكان له علاقة بطبيعة العرض المبني على وجود مُخرج في الطابق العلوي للبيت ليمثل السلطة، بينما كان الجمهور يمثل المجتمع، والمُخرج كان يخبر أبطاله أنهم في مكان مقفل، ولا يمكنهم معرفة ما يحدث في الخارج.”

تطرق المقال أيضا إلى عرض أسامة حلال، الذي يعد من أهم العروض التي كانت تؤسس لتجربة “مسرح الشارع”، والذي قدمه تجمع “كون” في نفق باب شرقي في دمشق في عام 2007، بعنوان “جثة على الرصيف”، وفي حوار سابق مع أسامة حلال، نشر في مجلة المسرح بالشارقة، تكلم عن تلك التجربة التي كانت تريد أن تذهب بالمسرح إلى الجمهور، وكيف أنها كانت عفوية، وجعلت الناس يدركون معنى المسرح.

◙ في سوريا لم يكن ممكنا تقديم أي عرض مسرحي في أي مكان إلا بعد الحصول على موافقات الرقيب

يقول حسام الشاه، وهو أحد أبطال العرض الرئيسيين لـ”العرب”، “قدم العرض في النفق لأسباب درامية تتعلق بتطوير مفهوم مسرح الشارع، وذلك بعد الحصول على موافقة محافظة مدينة دمشق. العرض أعيد تقديمه على دار الأوبرا السورية، في القاعة متعددة الاستعمالات في عام 2011، قبل اندلاع التظاهرات.”

أماكن مختلفة

ربط إسماعيل في مقاله أيضا بين تجربة أسامة حلال وتجربة وليد قوتلي في مسرحية “بانتظار البرابرة” في 2010، مشيرا إلى أنها قُدّمت في ساحة صغيرة بحي المزّة الدمشقي لأسباب رقابية، لكن العرض حصل على موافقة رقابية، وشارك في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ممثلا عن سوريا، واستضافه لاحقا منتدى الاثنين المسرحي، قدم في غاليري “آرت هاوس” الذي كان قد افتتح حديثا كفندق ومطعم وغاليري للمعارض التشكيلية، وكان حضور العرض مقابل مبلغ كبير نسبيا، وهذا وحده يثبت أنه لم يكن عرضا مهربا، فكيف يكون عرضا مهربا ويطلب مالا من جمهوره؟

يكتب إسماعيل “تباعا، صارت العروض المهرّبة تقليدا عند العديد من المسرحيّين السوريين”، مشيرا إلى تقديم آنا عكاش عبر مشروعها “مراية” أكثر من عرض في هذا السياق داخل أحد الأديرة. لكن عكاش تؤكد أنها لم تقدم أي عروض داخل أديرة، وتقول لـ”العرب”، “حصلت على منحة ‘آفاق’ من الصندوق العربي للثقافة والفنون، لتقديم ورشة عن فن الحكواتي، واضطررت إلى زيارة الأمن الوطني لأطلب تأشيرة دخول إلى الأراضي السورية للفنان المصري حسن الجريتلي، ما يسمى بالموافقة الأمنية، وقمت بعقد ندوة له في بيت ألبرتو اليسوعي، وهي مؤسسة ثقافية تابعة لـ’الجيزويت’، وليست ديرا، وذلك لأن الجريتلي كان ضيفا مقيما فيها لمدة 15 يوما.”

يعرج إسماعيل أيضا على تجربة الفنانة السورية نورا مراد، وتجمع “ليش”، والتي عرضت مسرحية “ألف مبروك” في عام 2009، في سراديب قلعة دمشق، ومسرحية “إذا ماتوا انتبهوا” في عام 2010، في قبو “غاليري مصطفى علي” في حارة اليهود الدمشقية. في حين تقول نورا مراد “لا يمكن تقديم أي عمل مسرحي في سوريا، سواء في المسارح الرسمية أو في الأماكن البديلة، من دون الحصول على موافقة مديرية المسارح والموسيقى، والتي ترسل بدورها لجنة لمشاهدة العرض قبل يوم أو اثنين من افتتاحه، والعروض الوحيدة التي لا تشاهدها الرقابة هي عروض طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية.”

أما بالنسبة إلى فرقة “ليش” فإنها لم تتعاون أبدا مع المؤسسات الحكومية، ليس بسبب الرقابة، وإنما بسبب أنها اختارت منذ التأسيس أن تكون جزءا من الحركة الفنية المستقلة، كما لم تتعرض لأي مشكلة رقابية طوال فترة عملها المستمرة لقرابة 25 عاما، كما أن خيار تقديم عروضها في الأماكن البديلة كان فنيا بحتا، وبعد عرضيها “بقاء” في 2016، و”معانقات” في 2018، عادت الفرقة لتعرض ضمن القاعة متعددة الاستعمالات في دار الأوبرا السورية لأسباب تتعلق بصعوبة العمل في الأماكن البديلة في ظل الظروف الأمنية والاقتصادية السيئة.

وذكر إسماعيل التجربة التي أنجزها المخرج أسامة غنم مع فرقة “مختبر دمشق المسرحي”، وتحديدا عرض “حدث ذلك غدا”، والذي قدم في حي مئذنة الشحم بالبلدة القديمة. بينما يؤكد الفنان محمد آل رشي، وهو أحد أبطال العرض، أن أسباب اختيار المكان كانت فنية بحتة، وليست بسبب الرقابة كما يشير كاتب المقال.

وبالمثل يؤكد المخرج سامر عمران أن اختياره تقديم عرض “المهاجران” في ملجأ حربي بحيّ القزّاز في دمشق “كان بكل بساطة لأسباب فنية. ما حدا حكى معنا شي.” في حين أن تجربة سمير عثمان الباش في أحد الأقبية بمدينة جرمانا في ريف دمشق، عبر دعوات شخصية لجمهور لا يتجاوز عدده ثلاثين متفرّجا، فهي أيضا معلومة خاطئة لأن عروض تلك المدرسة المرخصة من قبل نقابة الفنانين لا يتم التدقيق فيها كثيرا، ويمكن أن تمر بدون موافقات أمنية، نظرا إلى أن معظمها عروض صفوف انتقالية للطلبة، وقلة عدد الجمهور الذي يبلغ بالحد الأدنى ستين متفرجا يعود لضيق المكان، وعادة تكون الدعوة عامة ويتم الحجز مسبقا من قبل من يرغب بالحضور.

كما أن ما قيل عن عرض مسرحية “أكاديمية الضحك” يناقض التساهل الرقابي إزاء النص والعرض، رغم ما يحمله من جرعة نقد حادة، إذ قدم لأيام على خشبة مسرح القباني وبعض المحافظات السورية، كما أعيد عرضه في مهرجان بجاية المسرحي في الجزائر بدعم من مديرية المسارح، يقول الباش “كنت بطبيعة الحال أتحايل على الرقابة للحصول على الموافقة، ويمكنني القول إن بعض المراقبين كان يعمل لصالحنا وعلى رأسهم الأستاذ عماد جلول مدير المسارح، والكثير من العروض التي قدمتها في الأكاديمية تم عرضها لاحقا على مسارح المديرية في كل من دمشق والمحافظات.”

ربما كان الأجدر بالكاتب والمخرج سامر محمد إسماعيل، صاحب الفيلم الشهير “لآخر العمر” إنتاج 2020، الذي أخرجه باسل الخطيب وأنتجته الهيئة العام للإذاعة والتلفزيون، أن يكتب لنا موضوعا أكثر جاذبية، حول ذكاء وتحايل بعض الكتاب والمخرجين مع الرقيب للحصول على موافقة لعروضهم.

مسرح سري

13