"مثل نبي يتوسل معجزة" يقف الشاعر محاولا إنقاذ الواقع

لم تعد القصيدة الحديثة تقف بشاعرها في حدود الشكوى من المجهول والخوف منه، كما غادرت الفخريات القديمة التي تغلق الذات على عوالم مغايرة حتى داخلها، وبذلك اتسعت المساحة أمام الشعراء للاشتباك مع واقعهم من زوايا مختلفة منها التاريخي والواقعي واليومي والمهمل والمهمش والثقافي والسياسي والأسطوري وغيرها من التقاطعات التي نجدها ماثلة بدقة في مجموعة “مثل نبي يتوسل معجزة” للشاعر العراقي سلام مكي.
منذ الاستهلالات الأولى والعنوان العام تضعنا مجموعة “مثل نبي يتوسل معجزة” للشاعر العراقي سلام مكي إزاء تجربة تؤسس لفضاء شعري يستثمر فيه الشاعر أكثر من وسيلة، وتوجه لتتويج نصوص تعتمد على نسق يرتكز على التشفير الموحي واستثمار جماليات الانزياح والخوض في الغرائبية على مستوى الصورة الشعرية والتأطير الترميزي، ومحاولة إيجاد مشتركات مع المتلقي عبر الإحالات والإشارات المتنوعة منها التاريخية والدينية، وإضفاء السؤال الوجودي كبعد من أبعاد القصيدة.
ولعل براعة الشاعر في التعامل مع اللغة والصورة الشعرية وترحيل المعاني وتحريك الدلالات جعل النصوص تكتسب نوعا من الجذب والاستهواء من قبل المتلقي، وهو يتشابك مع نصوص تضفي غموضا شفيفا يحرك ويحفز طاقة الاستجابة الانفعالية عند المتلقي، وتشتغل النصوص بعيدا عن المباشرة والتداولية التقليدية في محاولة لنص شعري مغاير وعميق ودال.
اشتغال آخر للمعنى
لم تتمركز المجموعة حول موضوعات محددة وتقليدية، إنها تحرث في أرض بكر وتمزج السؤال بالرؤية والتخييل بالواقع والحقيقة بالرمز عبر متوالية من النسق الصوري الذي غالبا ما يتمحور حول رسم صورة فوق واقعية وتقترب من الإرهاصات السريالية أو الغرائبية، كآلية لتحريض الذهن وتجاوز الواقع الذي لم يعُدْ واقعيا متناغما مما يجعل التناول أو التمثل يحاكي هذه العدمية الداخلية التي تختزل اغتراب الذات واختلال الرؤى مما يستدعي النظر إليها من زاوية المغايرة، ليكون السؤال أكثر إلحاحا والرؤية أكثر وضوحا، ومن أجل إنتاج أفكار ومعان على مستوى هذا الاشتغال المتقدم.
ونلحظ روح الاقتحام والنزوع اللامألوف لصنع مجسمات صورية ترميزية تعيد إنتاج الواقع، وتعيد اكتشاف السؤال الوجودي الذي يمكن أن يخلق النصوص حتى تتحول هذه التوصيفات إلى صياغات تعبيرية تثير الإغراء والتعمق في الإشارات المعرفية والدلالات الرمزية ومزج الواقع بالحلم، والحلم بالكابوس والماضي بالحاضر والحقيقة بالزيف، وهذه القصدية في استثمار واستحضار الثنائيات وصولا إلى متخيل شعري منتج للصور والدلالات والرموز والإحالات والانثيالات، مع تأطير لمتعة القراءة المعرفية للقصيدة، فالقصيدة حتى في تناولها للمرأة – في هذه المجموعة – فإنها تتناولها في نسق خاص ورؤية مغايرة، وليس بقصدية الروح الغنائية والغزل والجسدانية المستهلكة.
يقول الشاعر: “تفتش في حقيبتها/ عن بقايا رجل/ أيقن أنه مثل شجرة/ لم يغرسها أحد./ امرأة لا تتذكر سوى النزال الأول/ وكيف أن مياه اليأس/ تجمعت في غمدها/ حتى استحال بركة/ تنتظر صبيا./ امرأة/ تدري بأي أرض تموت/ لكنها لا تدري/ كيف توقف السيول/ التي بللت ركبتيها.”
هذه هي صورة الأنثى وهي تغرق في واقع مأزوم، والشاعر يرصد صورا غير نمطية.
ولعل من الملامح المهمة في هذه المجموعة أنها تزاوج بين النصوص الطويلة، وما تتطلبه من قدرة على السبك والرؤية المتواترة والمتسعة، وبين النصوص المختزلة التي تقترب من القصيدة القصيرة أو الإضاءة السريعة الخاطفة كما في نص “السقف العاري”، يقول مكي: “قلت: ما تلك بيمينك أيها القدر؟/ قال هي أيامك أتوضأ بها../ فرحت بعيدا/ عن الحي الذي ولدت فيه.”
نلحظ في الاستهلال إحالة أو تناصا مع آية قرآنية واضحة الدلالة فأردفها بإحالة إشارية “أتوضأ بها”، ونجد مثل هذه القصدية في التوظيف عبر التناص أو الإشارة أو الإحالة، وتفكيك المتداول باتجاه دلالة وتوليد المعاني والصور الجديدة مثل قصيدة “الجنائز المعلقة” كإعادة صياغة لتسمية “الجنائن المعلقة”، ذلك الأثر من الحضارة البابلية، إذ تكتسب الدلالة المضادة للمعنى السائد وقلبه باتجاه رؤية لواقع هو النقيض الذي جعل “الجنائن” تتحول إلى “جنائز”، واستثمر الشاعر الجناس بين الألفاظ لتكوين دلالة جديدة وبؤرة فنية في العنوان.
ويواجهنا أكثر من نص يتناول موضوعة الوحدة أو العزلة الموحشة، وهي إشارة ضمنية إلى اغتراب الذات الإنسانية في واقع متصدع وملتبس، وهو يحاول التماهي مع الآخر الذي يعاني هو الآخر من الشعور بالوحدة. نقرأ في نص “ما لم يقله جلجامش”: “أنا وحيد إلا منك/ فلنكن وحيدين/ ولا تفرقنا إلا الحياة.”
ونلحظ اشتغالا آخر لمعنى الاغتراب والوحدة والتيه في أجواء تسلب الإنسان كثيرا من كينونته في نص “غيمة في المرعى”: “أنا الطائر الذي يتعثر بالسماء/ الليل الذي يخدش النهار بكآبته/ الأغلال التي تزقزق فوق أغصان الحرية/ أخشى أن أحلق في سماء جرداء/ فأغوص في كثبانها المتلألئة في المساء/ أخشى أن أتجشأ أحلامي/ فأبقى وحيدا.. أخشى أن أسقط في واديك الأخضر/ فتنتزع الريح قلبي/ فلا أتذكر منك سوى/ أنني/ أعيش وحيدا.”
نجد أن تحولات النص تغوص في رحلة متعثرة وموسومة بالأسوار والعقبات والتناقضات، والذات القلقة التي تبحث عن تماسكها وتحليقها وهي تصطدم بأسوار وحواجز تعتقل التوق إلى الحرية والانتشاء، وقد تصل النصوص في تحولاتها إلى إدانة الوهم والخطيئة والزيف، وكل القبح الذي يعاضل التوق الإنساني، ففي نص لافت ودال مثل “ما لم يقله جلجامش”، الذي استعير كرمز أسطوري (ملمحي) ودلالة عميقة، وكأن الواقع المأزوم يحتاج إلى حكمة قديمة وغائبة.
المغايرة بحماس
يقول مكي: “للذين أوقدوا الدمع في عيني/ للذين/ زينوا جدران قلبي/ بلافتات الحداد/ للذين/ أوهموا القمح أنني/ مطر…/ والثياب أنني جسد/ والميت أنني قبر/ والحلم أنني ليل./ للذين زينوا الأشواك بالضفائر/ والأقلام بالرصاص/ والوجوه بالنحيب/ للذين ينتفون الريش / ثم يطلبون الطيران/ للذين يحملون نعشا/ ثم يطلبون التصفيف/ للنجمة التي استفاقت/ أواخر النهار.”
تواجهنا متواليات الخيبة في هذا النص المؤطر بانتباهه وترحيل الإحالة إلى المنطق والرمز الميثولوجي، فهل تحول الواقع إلى ميثولوجيا مضادة؟ أو مقلوبة؟ وبات الأمر يحتاج إلى “جلجامش” جديد ليعيد المنطق إلى الواقع المختل الذي افتقده، وكل المقاطع (للذين…) هي استعارة لعدمية بشرية تشعر أنها تحولت إلى حراك سيزيفي وعناء يفتقد المعنى، ويتحول إلى تمرين في اللاجدوى واللامعنى، يغيب الإنسان في متاهة ليس فيها أيّ بريق للنجاة لأنه يعيش في واقع رث انقلبت فيه القيم على رأسها.
ونجد ولع الشاعر سلام مكي في الخوض عبر متواليات وصور وإحالات التناقض الذي يضفي رؤية داخلية (باطنية) للواقع الذي يسكنه التناقض ويتجسد ذلك في نص بعنوان “أريد حائط مبكى أتكئ عليه”، ونلحظ وفي العنوان إحالة فيها الكثير من الدلالة، يكتب الشاعر: “أريد أن أعانق الريح/ وأقطف كل الأزهار البرية/ لأقدمها لامرأة لا أعرفها/ أريد أن أجمع ضوءها المتساقط في الطرقات/ لأصنع منه منطادا يحلق في جسد ما/ لأصنع حلوى للأطفال/ ونبيذا للسكارى/ وصليبا للرهبان/ وموعدا للعاشقين/ أريد كأسا من إعانة/ وسوطا من الإسطبل/ وسريرا من المبغى/ أريد حائطا أبكي عليه.”
◙ النصوص الشعرية لم تتمركز حول موضوعات محددة وتقليدية، إنها تحرث في أرض بكر وتمزج السؤال بالرؤية والتخييل بالواقع
نلحظ في النص تكرارا أفاد التوكيد، وجعل الفكرة تتوالد في الخوض في ثنائيات التناقض. وليس غريبا أن تتكرر مفردة “الحلم” في الكثير من النصوص، فالحلم يعد فضاء تفرضه المساحة المكتظة بالاختلال والغربة وتوالي الخسارات كما في نص “هذه ليست حياتي”، نقرأ: “طالما حلمت بأغصان وردية/ ترسم لي ظلا أتوكأ عليه/ وتسكب في الأنهر الزرق رحيقها/ لذا../ سأقطف كل جسد يتدلى أمامي/ حتى لو كان يابسا.. لا رماد فيه.”
ولعل كل قصدية وإرهاصات التنوع سواء في التناصات أو الإحالات نجدها صياغات مؤطرة بديناميكية احترفها الشاعر في إحداث الانزياح على مستوى التركيب والصورة، مما يجعل الدلالة تقترب من التشفير والتأويل والترميز، وهو اشتغال برع فيه الشاعر عبر نصوص مهمة في هذه المجموعة، مما خلق فضاءات انزياحية تحقق كثيرا من الفنية وإنتاج الأفكار والرؤى والتشابك مع واقع يتطلب هذا النوع من التعالق معه، لسبر غوره، وتفكيك بنيته المأزومة.
وتتبدى الروح الغرائبية في الكثير من النصوص التي ترتكز على هذا الاشتغال الانزياحي في نص “الغرق على العشب”، إذ تبدو الغرابة استهلالا في العنوان الذي يمثل النص الموازي ليمتد في أفق القصيدة، ناسجا صورا تعتمد التحليق والغرابة بقصدية التماس مع لحظة قلقة، يقول مكي: “في ذلك اليوم المخصي/ كنت محمولا على/ أكتاف الموتى…/ أحمل رأسي بيدي/ والمارة يلقون التحية الأخيرة/ عليّ.”
ونواجه تكثيفا في الصورة الشعرية المؤثرة في نص “لست وحيدا.. معي رؤوس كثيرة مقطوعة”، والعنوان وحده يثير الرعب والفانتازيا السوداء، فالشاعر يتعمد زج مسحة أو إشارة الاستفزاز المرعب كتمهيد استهلالي للخوض في تفاصيل النص: “لست سوى أنا/ فلم الخوف؟!/ أنا الذي طرقت العقبان/ ذات حلم/ أنا الذي كان له أن يولد/ في هذه الأزقة المكتظة بالصراخ والعويل/ الأزقة التي لا تسترها/ سوى لافتات الحداد/ والدماء المتيبسة/ دعيني أمسك شعرك الأبيض/ وأنا باق في غربتي.”
مجموعة “مثل نبي يتوسل معجزة” تقترح فرضية المغايرة بحماس وباشتغال وقصدية وعي شعري يوظف كثيرا من المتاح التعبيري ونسق الانزياح، ويفعل المتخيل الشعري بالصور والمعاني والدلالات المضادة، توكيدا للذات الإنسانية التي تعاني المكابدة والوجع في واقع متصدع افتقد كثيرا من جمالية التناغم والتماسك.