جيهان البحار.. من سيناريست إلى مخرجة متمكنة

السيناريست والمخرجة المغربية تصنع أعمالها الجماهيرية مازجة الكوميديا بالدراما.
السبت 2024/12/21
اسم بارز في الساحة السينمائية المغربية

الرباط - بعد سنوات من التمرس في الكتابة السيناريستية، اجتهدت وانتقلت جيهان البحار إلى عالم الإخراج، وأخرجت أفلاما قصيرة مثل “الروح التائهة” و”شيفت + حذف”، أثبتت موهبتها في تقديم رؤية سينمائية خاصة بها، فهذه الأفلام القصيرة كانت بمثابة منصة لتجربة تقنيات سردية وبصرية من رؤيتها، استطاعت من خلالها استحقاق صفة المخرجة السينمائية المتقنة.

بعدها بزغ نور فيلمها الطويل الأول “في بلاد العجائب” الذي أكد وثبت اسم المخرجة بعدما رسخته كسيناريست، فالعمل الذي جمع بين الكوميديا والدراما تناول قصة سيدة ثرية تجد نفسها مضطرة إلى العيش مع عائلة فقيرة في جبال الأطلس، وهو ما أتاح لها استكشاف التفاوتات الاجتماعية والثقافية في المجتمع المغربي، فالفيلم كان عملا جماهيريا وحقق نجاحا معقولا وترك أثرا في أسلوب إخراجها على لسان من أشادوا بقدرتها على تقديم حكاية مغربية بنكهة إنسانية فكاهية.

أسلوب خاص

البحار نموذج للمرأة المغربية التي استطاعت أن تفرض حضورها في مجال ليس فيه مساواة كافية بين الجنسين

لعل أحد أبرز ملامح أسلوب جيهان البحار هو قدرتها على المزج بين الكوميديا والدراما بتفكير ذكي ومعقلن، فهذا المزج في غاية الأهمية سينمائيا ودراميا لأنه يستهدف الجمهور بالدرجة الأولى، ولا يبالي بما سيكتبه النقاد، ومن يفكر بهذه الطريقة يفهم جيدا كيف يقنع الجمهور المغربي بأعماله، فحتى في كتابة أعمالها التلفزيونية مثل “الفاميلا” و”لوزين”، ركزت على قضايا اجتماعية معقدة من خلال مواقف يومية بسيطة، وفي نفس الوقت تناولت قصة أم مكافحة تسعى للحفاظ على ترابط أسرتها رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مقدمة شخصيات قريبة من الواقع الشعبي المغربي.

أما في فيلمها السينمائي الأخير “على الهامش”، فقدمت ثلاث قصص حب لأشخاص مهمشين يتقاطعون بشكل غير متوقع، وهذا يعكس حساسيتها تجاه قضايا الفئات الأقل حظا في المجتمع، وهنا تظهر قدرتها على تحويل المواقف الإنسانية البسيطة إلى قصص تحمل أبعادا رمزية وعاطفية عميقة، وأسلوب إخراج هذا الفيلم متطور ومتقدم على فيلمها “في بلاد العجائب”، من حيث اختيار ترتيب المشاهد واللقطات خاصة، فمن يشاهدهما معا يدرك أن هناك اجتهادا واضحا في كيفية تناول الكوميديا والدراما في فيلم واحد يستهدف جمهور القاعات من جهة، ويستهدف لجان التحكيم ونقاد المهرجانات من جهة ثانية.

بناء على هذا الاجتهاد انتزعت المخرجة حصتها من جوائز المهرجانات التي شاركت فيها، سواء على مستوى الكتابة السيناريستية أو على مستوى أداء الممثلين، كما نالت نجاحها في القاعات السينمائية أسابيع بالجملة تباعا.

تركز البحار في أعمالها على القضايا الاجتماعية التي تستهدف شرائح واسعة من الجمهور المغربي، ففي مسلسل على سبيل المثال “نصف قمر”، تناولت قضية تبديل الأطفال عند الولادة، وهو موضوع يفتح الباب أمام تساؤلات حول الهوية والانتماء والعلاقات الأسرية، أما في مسلسل “الإرث”، فقد طرحت تعقيدات العلاقات الأسرية والصراعات التي تنشأ حول الميراث، في معالجة درامية تجمع بين التوتر العاطفي والتحليل الاجتماعي، بينما في مسلسل “السر المدفون”، خاضت في غمار الجريمة والغموض، مقدمة حبكة بوليسية حول تعقيدات النفس البشرية وصراعاتها الداخلية، وهذا التنوع في المواضيع يعكس شمولية رؤيتها الفنية وقدرتها على التكيف مع مختلف الأنماط السردية.

صانعة أفلام فرجوية

إتقان الكوميديا صنع جماهيرية المخرجة
إتقان الكوميديا صنع جماهيرية المخرجة

إن تجربة جيهان البحار عصامية واجتهادية واضحة، فانتقالها من كتابة السيناريو إلى الإخراج يعكس شغفها بتقديم رؤيتها كاملة، من النص إلى الصورة، ففي كل عمل تقدمه تبدو حريصة على تحقيق توازن بين الجوانب الفنية والجماهيرية، حيث تحرص على أن تكون أعمالها ممتعة وذات قيمة فكرية في الوقت نفسه، بينما تتعامل مع كل مشروع كفرصة لاكتشاف جديد، سواء من حيث المواضيع التي تطرحها أو التقنيات التي تستخدمها، ففي مسلسل “اليتيمة”، مثلا، قدمت قصة فتاة تواجه قسوة الحياة بعد أن تكتشف أن من ربّاها استولى على ميراثها، في معالجة درامية واقعية تماما، لكن إذا ما قارنته مع  الشريط “ما كانش على البال”، تجد عالما آخر مختلفا حول حكاية طبيب جراح تضطره الظروف إلى العودة إلى جذوره.

وتمثل البحار نموذجا للمرأة المغربية التي استطاعت أن تفرض حضورها في مجال لا يزال يواجه تحديات متعلقة بالمساواة بين الجنسين، لكن من خلال أعمالها تفرض وجود صوت نسائي قوي ومؤثر يعكس تطلعات وقضايا المرأة المغربية، ولعل مزجها بين الكوميديا والدراما وبين التقاليد والحداثة، يجعل من أعمالها مرآة تعكس تعقيدات المجتمع المغربي الشعبي وتناقضاته الفكاهية بطبعها، فهي صانعة أفلام فرجوية، تحمل رؤية ورسالة، تسعى من خلال كل عمل تقدمه إلى استحضار الفكاهة والدراما.

وتظل جيهان البحار اسما بارزا في الساحة السينمائية المغربية، حيث تقدم أعمالا تجمع بين المعقولية والبساطة في الطرح، وتخاطب مختلف شرائح الجمهور، ومسيرتها الغنية والمتنوعة تجعل منها نموذجا للإبداع المحلي الذي عاجلا أم آجلا سيسطع نوره خارج المغرب، لأنه يستلهم جذوره من الواقع المغربي ليقدم حكايات ذات أبعاد إنسانية يعيشها جميع الناس.

لعل أحد أبرز ملامح أسلوب جيهان البحار هو قدرتها على المزج بين الكوميديا والدراما بتفكير ذكي ومعقلن

تساهم المخرجة المغربية في إغناء المشهد الفني بأعمال تحمل بصمتها الخاصة، وترسخ مكانتها واحدة من أبرز صناع السينما في المغرب، فهي تمتلك تجربة فنية تمتد لأكثر من عقدين من الزمن، وهي تجربة غنية تجمع بين الكتابة الدرامية والسينمائية والإخراج، من كاتبة سيناريو قبل أن تخوض غمار الإخراج، ما منحها فهما عميقا للتقنيات السردية والبصرية التي ستوافق الجمهور المغربي وهذا ما يميز أعمالها.

وانطلقت جيهان البحار في رحلتها الفنية بعد دراستها الجامعية في شعبة السمعي البصري من عالم السيناريو المهني، فصاغت سيناريوهات لأفلام سينمائية وتلفزيونية حظيت بإشادة وقبول من الجماهير، ولعل من أبرز أعمالها السينمائية “للأزواج فقط” مع المخرج حسن بنجلون و”حد الصداقة” مع عادل الفاضيلي، بالإضافة إلى الفيلم الطويل “بين الأمس والغد” لسعد الشرايبي، وهذه الأعمال مع رواد السينما المغربية وحدها كافية لتصبح مخرجة متمكنة من أدوات اشتغالها، وتعكس حسا دراميا وقدرة على بناء شخصيات واقعية بأبعاد نفسية واجتماعية متشابكة.

كما ساهمت في كتابة العديد من “السيتكومات” الرمضانية التي حققت نجاحا كبيرا لدى الجمهور المغربي مثل “للا فاطمة 2” و”ياك حنا جيران”، وهي تجارب تلفزيونية أظهرت اجتهادها في تقديم حكايات يومية بلمسة فكاهية شعبية، فتلك الكتابات كانت بمثابة مختبر إبداعي طورت من خلاله أدواتها السردية وأتقنت تحويل رؤيتها في الكتابة إلى رؤية إخراجية.

قضايا اجتماعية حساسة

تركز البحار في أعمالها على القضايا الاجتماعية
تركز البحار في أعمالها على القضايا الاجتماعية

يواصل فيلم “على الهامش” للبحار تحقيق نجاح لافت في القاعات السينمائية المغربية، حيث تجاوز عرضه عشرة أسابيع متواصلة، وهذا الإنجاز النادر في المشهد السينمائي المغربي، يعكس التفاعل العميق بين الفيلم وجمهوره بفضل قصته التي تجمع بين الدراما والكوميديا السوداء، وأداء فريق العمل المنسجم.

ويستعرض الفيلم قضايا اجتماعية حساسة عبر ثلاث قصص متقاطعة، تركز على شخصيات تعيش على هامش المجتمع، وتحاول مواجهة تحدياتها بطرق مختلفة لتحقيق أحلامها البسيطة، ويعتمد هذا العمل على أسلوب سردي متوازن يجمع بين العمق العاطفي وخفة الكوميديا، ما جعله يشد انتباه المشاهدين، وشارك في بطولة الفيلم نخبة من الممثلين المغاربة من بينهم ماجدولين الإدريسي وعزيز دادس وهند بنجبارة وخليل أوباعقي وفاطمة الزهراء بناصر وعبداللطيف شوقي.

وهذا العمل الذي يتميز برؤية إخراجية دقيقة، عالج قضايا حساسة بروح فنية معقولة، وقد أشاد النقاد بالسرد السينمائي الذكي الذي أظهر معاناة الشخصيات دون افتعال أو استعراض وبأسلوب يعكس الواقع بكل تفاصيله، بينما قدمت هند بن جبارة وخليل أوباعقي أداء جيدا.

تجربة البحار عصامية واجتهادية واضحة فانتقالها من كتابة السيناريو إلى الإخراج يعكس شغفها بتقديم رؤيتها كاملة

تضع جيهان البحار الهامش في قلب السرد مقدمة عملا لا يخفي شيئا من الواقع القاسي. بأسلوبها الجريء، تركز على ويلات الفقر والجشع وتعيد إلى الأذهان روح الكوميديا الاجتماعية الهدافة.

وحظي الفيلم بسلسلة من الجوائز والتكريمات في المهرجانات الوطنية والدولية، ففي الدورة الرابعة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة فازت ماجدولين الإدريسي بجائزة ثاني أفضل دور نسائي، بينما نال خليل أوباعقى جائزة أفضل دور رجالي، كما فازت المخرجة جيهان البحار بجائزة أفضل سيناريو، بالمشاركة مع نادية كمالي، بفضل النص الجيد الذي جمع بين الدراما والطرح الكوميدي الهادف.

ونافس الفيلم في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط ومهرجان سلا الدولي لسينما المرأة، حيث حصل على جائزة الضفة الأخرى المخصصة للأفلام المدافعة عن قضايا المرأة، بالإضافة إلى جائزة أفضل دور رجالي لخليل أوباعقى لثاني مرة، كما توج الفيلم بجوائز في مهرجانات عالمية، مثل جائزة الجمهور في مهرجان الفيلم المغاربي بهولندا، وجائزة لجنة التحكيم بمهرجان نابولي الدولي بإيطاليا، إلى جانب مشاركته في مهرجانات مرموقة مثل مهرجان ساليرنو بإيطاليا والمهرجان الدولي للفيلم بمراكش.

8