صحافيون يستعيدون أسماءهم الحقيقية بعد نزع عباءة الأسد عن الإعلام السوري

سوريا تحتل المرتبة ما قبل الأخيرة في تصنيفها لحرية الصحافة لعام 2024.
السبت 2024/12/21
سوريا الجديدة تحتاج كل الأصوات

دمشق - مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري الرسمي نفسه مرتبكا في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود وتلوّن بألوان علم الاستقلال ذي النجوم الثلاث الذي تتخذه المعارضة شعارا لها، كما أفصح الصحافيون عن أسمائهم الحقيقية بعد سنوات من الكتابة بأسماء مستعارة خوفا من القمع.

وخلال عقود، قيّد حزب البعث ومن خلفه عائلة الأسد، الحريات كافة في البلاد، بينها حرية الإعلام والتعبير. وخلال سنوات النزاع، حوّل النظام الإعلام إلى أداة لترويج سردياته، وفرض قيودا على عمل الصحافيين المستقلين وحدّ من دخول الصحافيين الأجانب. ومنذ العام 2020 توقف إصدار الصحف الورقية تماما في البلاد.

وإثر وصول فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام إلى دمشق في 8 ديسمبر وإعلانها الإطاحة بنظام بشار الأسد، توقفت وكالة الأنباء السورية “سانا” عن النشر لأكثر من 24 ساعة. ولم يواكب التلفزيون الرسمي الأحداث الميدانية المتسارعة، مكتفيا ببث مقاطع مسجلة من الأرشيف.

وبعد ساعات من الإرباك، ظهرت عبارة “انتصار الثورة السورية العظيمة” على الشاشة، مرفقة بدعوة المواطنين والمقاتلين إلى المحافظة على الممتلكات العامة.

وبعد وقت قصير، أطلت مجموعة من تسعة أشخاص عبر شاشة التلفزيون من أستوديو الأخبار. وتلا أحدهم بيانا نسبه إلى “غرفة عمليات فتح دمشق”، أعلن فيه “تحرير مدينة دمشق وإسقاط الطاغية بشار الأسد.”

إعلاميون في وسائل حكومية وخاصة سارعوا إلى حذف كل ما "يثبت تورطهم" بعلاقة مع النظام السابق

في اليوم اللاحق، نشرت وكالة سانا صورة جديدة لحسابها على تلغرام، يغلبُ عليها اللون الأخضر ونجمات العلم الثلاث إعلانا للبداية الجديدة. ثم استأنفت نشر الأخبار نقلا عن إدارة العمليات العسكرية والوزارات.

وسارع إعلاميون يعملون في وسائل حكومية وخاصة إلى تبديل صورهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وحذف كل ما من شانه أن “يثبت تورطهم” بعلاقة مع النظام السابق.

وبادرت صحيفة الوطن الخاصة المقرّبة من السلطات والتي تمتعت بهامش نقد نسبي مقارنة مع وسائل الإعلام الأخرى منذ تأسيسها عام 2006، صبيحة سقوط النظام، إلى الإعلان عن أن “الإعلام السوري والإعلاميين لا ذنب لهم.”

ونقلت عن ناشرها ورئيس تحريرها وضاح عبدربه أن الصحيفة التي تصدر عبر الإنترنت، كانت تنفّذ “التعليمات فقط.. كنا ننشر الأخبار التي يرسلونها لنا وسرعان ما تبيّن الآن أنها كاذبة.”

ومنذ ذلك الحين، تنقل الصحيفة الأخبار الصادرة عن الإدارة السياسية الجديدة في البلاد. وقال عبدربه لوكالة فرانس برس عبر الهاتف “بعد التواصل مع المسؤولين الجدد في وزارة الإعلام، أكدوا لنا أن بإمكان فريق العمل أن يستمر في عمله.”

وتابع “نتمنى في المستقبل أن نعود إلى الطباعة خاصة أن سوريا هي الدولة الوحيدة التي لا تصدر فيها صحيفة واحدة.”

حزب البعث ومن خلفه عائلة الأسد قيّد خلال عقود الحريات كافة في البلاد، بينها حرية الإعلام والتعبير

وبخلاف وسائل الإعلام الأخرى، أعلنت إذاعة “شام.إف.إم” الخاصة وقف برامجها الإخبارية وتغطيتها بصورة مؤقتة “ريثما تصبح الحالة العامة مستقرة وآمنة وتسمح بنقل الأخبار.”

وبعد يومين، أعلنت الإذاعة التي تأسست في دمشق عام 2007 توقفها عن العمل بشكل كامل. وقال مؤسس ومدير الإذاعة سامر يوسف “بقرار من وزارة الإعلام في حكومة الإنقاذ، توقّف بث إذاعة شام.إف.إم.”

وتابع “ينتظرنا مصير مجهول، نحن وجميع وسائل الإعلام التي كانت تعمل تحت سيطرة النظام السابق.”

وبقي يوسف وحيدا في مقر الإذاعة يتفقد الأجهزة وغرفة التحرير التي خلت من جميع الموظفين، ليقفل بعدها باب المؤسسة.

وأوضح “لديّ نحو سبعين موظفا وخلفهم سبعون عائلة وهم من ضمن آلاف الأشخاص الذين يعملون مع وسائل إعلام كانت تعمل ضمن مناطق سيطرة النظام.. جميعهم ينتظرهم مستقبل مجهول وفي مهب الريح.”

وبعد هجوم بدأته في 27 نوفمبر من محافظة إدلب التي كانت تسيطر على أجزاء منها، تمكّنت هيئة تحرير الشام وفصائل معارضة متحالفة معها من السيطرة تدريجا على مدن كبرى في البلاد من حلب شمالا وحماة وحمص في الوسط، وصولا إلى دمشق.

النظام حوّل الإعلام إلى أداة لترويج سردياته، وفرض قيودا على عمل الصحافيين المستقلين وحدّ من دخول الصحافيين الأجانب

وتحتل سوريا بحسب منظمة مراسلون بلا حدود، المرتبة ما قبل الأخيرة في تصنيفها لحرية الصحافة لعام 2024.

ونشرت وزارة الإعلام في 13 ديسمبر بيانا أثار قلق صحافيين كانوا يعملون تحت مظلة النظام، أكدت فيه عزمها محاسبة “جميع الإعلاميين الحربيين الذين كانوا جزءاً من آلة الحرب والدعاية لنظام الأسد الساقط، وساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في الترويج لجرائمه.”

وعاودت منصات ومواقع محلية النشر عبر منصاتها المختلفة بشكل تدريجي، وبعضها لا يزال “يتحضر ويستعد للانطلاقة مرة أخرى” مثل قناة سما الخاصة التي كانت ممولة من رجل الأعمال السوري والنائب في البرلمان محمّد حمشو.

لكن عناصر مدنية بحماية هيئة تحرير الشام دخلوا إلى المحطة وانتشروا فيها، وطُلِب من الموظفين العودة إلى عملهم وفق ما أفاد أحدهم طالباً عدم الكشف عن اسمه.

ويثير توجه السلطات الجديدة مخاوف الصحافيين الذين شكل عملهم لسنوات طويلة في وسائل إعلام محسوبة على النظام مصدر رزقهم.

وقال مدير مكتب دمشق لرابطة الصحافيين السوريين (المعارضة) بسام سفر “لا يمكن محاسبة أيّ إعلامي إلا إذا ثبت أنه مشارك في الدم، وهذه قضية لا يمكن غفرانها وهو مطلوب للعدالة.”

"شام.إف.إم" أوقف برامجها الإخبارية وتغطيتها بصورة مؤقتة ريثما تصبح الحالة العامة مستقرة وآمنة وتسمح بنقل الأخبار

وأضاف “علينا أن نسعى إلى مصالحة الإعلاميين باتجاه تأسيس حالة إعلامية جديدة تعتمد على الحرية وشرعة حقوق الإنسان.”

في المقابل بدأ الصحافيون السوريون، الذين ظلوا صامتين لفترة طويلة في ظل نظام الأسد القمعي، في التخلص من أسمائهم المستعارة واستعادة أسمائهم الحقيقية في عمل رمزي للتحرر في أعقاب سقوط الطاغية.

وأثناء انزلاق سوريا إلى الفوضى في عام 2012، اعتمد العديد من الصحافيين والناشطين أسماء مستعارة لحماية أنفسهم وعائلاتهم من الانتقام الوحشي للنظام. ولسنوات كان التحدث علنًا يعني المخاطرة بالاضطهاد أو السجن أو ما هو أسوأ من ذلك.

وقال زهير المصري، الصحافي المقيم في لندن والمعروف سابقاً باسم زهير الشمالي “في الماضي، كان النشطاء والصحافيون يستخدمون أسماء مستعارة لتغطية هويتهم لأسباب تتعلق بالسلامة لأن معظمهم، وأنا منهم، كان أفراد أسرهم عالقين في سوريا وغير قادرين على المغادرة.”

وأوضح المصري لصحيفة عرب نيوز “الآن بعد أن أصبحت سوريا حرة، بدأ الكثير من الأشخاص في استخدام أسمائهم الحقيقية التي تم قمعها وإخفاؤها خوفًا من انتقام قوات الأمن.”

والمصري، الذي فر من منزله في حلب عام 2018 بعد الهجمات الكيمياوية التي شنها النظام، هو واحد من العديد من الصحافيين الذين يكشفون الآن عن هوياتهم الحقيقية.

وهناك شخصيات بارزة مثل ملاذ عساف مدير البرامج في قناة حلب اليوم التابعة بشكل غير رسمي للمعارضة، ورامي جراح المعروف سابقاً بالاسم المستعار ألكسندر بيج، يناقشون الآن مستقبل سوريا علناً دون خوف من الانتقام.

ما لا يقل عن 717 صحافياً وإعلامياً قتلوا بين مارس 2011 ومايو 2024، فيما اعتقل أو اختطف 1358 شخصاً

وشاركت الصحافية منال السهوي، التي حققت في تجارة الكبتاغون غير المشروعة في سوريا وعلاقاتها بعائلة الأسد، قصتها على فيسبوك في وقت سابق من هذا الشهر.

وكتبت “منذ سنوات كتبت أكثر من 150 مقالاً إضافة إلى عملي اليومي في موقع درج. اعتقدت أن اسمي سيكون مخفيًا إلى الأبد. لقد عملت على عشرات التحقيقات والتقارير الحقوقية والمدونات ومقالات الرأي، مؤمنة أن الحقيقة يجب أن تُقال، حتى لو بقينا في الظل.”

وكشفت أنها استخدمت الاسم المستعار كارمن كريم، وأضافت “أتمنى فقط ألا أعود إلى الكتابة تحت اسم مستعار مرة أخرى.”

وأفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن ما لا يقل عن 717 صحافياً وإعلامياً قتلوا بين مارس 2011 ومايو 2024، فيما اعتقل أو اختطف 1358 شخصاً.

وحتى أولئك الذين فروا إلى الخارج عاشوا في الكثير من الأحيان في ظل الخوف الذي يلوح في الأفق من المدى البعيد للنظام.

وذكر عساف “من المعروف أن النظام لم يستهدف الأفراد فحسب، بل استهدف الأقارب أيضًا. لذلك، لا يمكننا أبدًا العمل بأسمائنا الحقيقية.” وأضاف في مقابلة أجريت معه مؤخراً “أنا شخصياً لم تكن لدي الشجاعة للقيام بذلك.”

ومع ذلك، لم يكن الصحافيون وحدهم هم الذين تم إسكاتهم في نظام الأسد. ولسنوات عديدة، لجأ العديد من المواطنين العاديين إلى استخدام أسماء مستعارة عند مشاركة قصصهم مع وسائل الإعلام، خوفًا من انتقام النظام القاسي.

والآن، بعد سقوط الأسد، يسيرون في شوارع دمشق بإحساس متجدد بالحرية ويستعيدون حقهم في التعبير عن أنفسهم علانية.

وقال المصري “كان استخدام اسم مزيف بالنسبة إلى العديد من السوريين جزءًا من قمع هويتهم ومن هم حقًا كسوريين.” أما الآن فلم يعد هذا هو الحال.

5