حدث سوري نادر يصعب التكهن بمآلاته

سقط النظام السوري، سقط بشار الأسد وانتهى حكم البعث في سوريا الذي عمّر طويلا و”آن لسوريا أن تستريح” كما قالها الكاتب الصحافي السوري علي قاسم، وهو الخبير بشؤون بلده الذي تربى وترعرع فيه. ذلك هو الحدث السوري النادر في مجمله الذي وإن بدا غريبا في أطواره وسرعة حدوثه لكن يصعب التكهن بمآلاته لجهة طبيعة الفاعلين فيه وأهدافهم والمستقبل الذي سيرسمونه لسوريا الغد. سوريا اليوم تعيش مرحلة ما بعد الأسد، مرحلة حرجة ودقيقة استنادا إلى ما وصفه الخبراء وكل المعلقين على الحدث السوري الذي جاء مباغتا وفي غفلة من الجميع.
من كان يتصور أن يسقط نظام الأسد بتلك السهولة، من اعتقد ذلك جازما قبل الإعلان عن هروب الرئيس السوري السابق وعائلته فهو واهم أو يقبل المغالطة، من كان يظن أن بشار قد يسمح بدخول أعدائه إلى قلب دمشق بتلك الصنعة الإخراجية “الرديئة” التي تفنّنت معظم القنوات التلفزيونية في نشرها للآلاف من السوريين وهم يتلاعبون بتماثيل الأسد الأب والأسد الابن في شوارع دمشق، على الطريقة العراقية بعد غزو العراق سنة 2003، والتي وجدت في الدوس على صورة النظام الذي جثم طويلا على نفوس السوريين متنفسا لآلامها وشدة غلّها عليه.
لكن ما يفوت بعض المحللين والخبراء أن الحدث السوري مر مرورا سريعا وكان معبّرا إلى درجة لا يمكن تخيلها، كيف لا ولم يعلن عن سفك دماء ولا عن قتل روح بشرية أو سقوط ضحايا خلال العمليات التي كانت تخوضها هيئة تحرير الشام بدءا من الهجوم على حلب وصولا إلى العاصمة دمشق. وحتى وإن سقطت أرواح فإن السبب كان عرضيا أو ربما لم يكن مرتبطا بالمسار الثوري في حد ذاته.
بالعودة إلى الحدث السوري، فإن أبرز ما يستفاد منه كونه وإن حقق راحة نفسية للسوريين الذين تخلصوا من إرث بائد لنظام لم يعد ينفع، نخشى أن يفتح المنطقة على "شرور" تتربص بها
أغلب الثورات العربية كانت دموية بدءا من الثورة التونسية في 2011، مرورا بثورة 25 يناير في مصر، فليبيا وصولا إلى المد الثوري الذي بلغ سوريا في مارس 2011 التي آن لها أن تتحرر أخيرا بعد مخاض عسير من القتل والتهجير زمن حكم الأسد الذي راهن على فعل كل شيء من أجل أن يبقى في السلطة، فقتل وعذب واستباح وشرّد الملايين من السوريين في كل أصقاع العالم من أجل شيء وحيد ألا وهو أن يبقى على رأس النظام. لكن خروجه أو انسحابه أو لنقل هروبه في النهاية كان مخاتلا للجميع. انسحب الرئيس السوري هذه المرة في هدوء تاركا وراءه كمّا من التساؤلات المحيرة عن مآلات الدولة السورية مستقبلا. سوريا التي عرفت عبر التاريخ بحضارتها وحاراتها وأزقتها التي يشتهي زوارها أن يعاودوا الرحلة إليها في كل زمن وكل وقت.
ما إن أعلن عن سقوط النظام حتى دخل “الفاتحون الجدد” يتقدمهم زعيمهم الروحي أبومحمد الجولاني الذي أبى إلا أن يظهر أمام الكاميرات وهو يؤدي الصلاة في الجامع الأموي في دمشق. مباشرة وفي اليوم التالي وككل ملف تضعه الإدارة الأميركية ضمن أولوياتها تنسيقا وتطبيقا على الميدان بدا أن الاسم الحركي لم يعد يتطابق مع مشروعها في سوريا ولا مع من أوكلت لهم هذه المهمة وسرعان ما تم الاتفاق إعلاميا على ضرورة العودة إلى الاسم الأصلي لقائد الثورة السورية الجديد والمنتصر على نظام الأسد وبدأت مرحلة تصحيحية يقودها الإعلام العربي والغربي اللذان أصبحا يخاطبان الجولاني باسمه الحقيقي أحمد الشرع فيما اكتفت إدارة البيت الأبيض بتصريح مقتضب للرئيس المغادر جو بايدن يعلن فيه أنه آن الأوان لمراجعة قرار تصنيف هيئة تحرير الشام على لوائح الإرهاب. دلالة أخرى على كيفية التعاطي مع الحدث السوري الذي اختزل في بضعة أيام كانت كفيلة بسقوط نظام عمّر لعقود وسرعان ما خلفته إدارة جديدة أبدت تفهما ظاهريا لواقع السوريين في الداخل وأولئك المهجّرين قسرا خارج الوطن إمعانا في شد الرأي العام إليها وتطبيقا لبروتوكول ربما يكون ممضى سلفا بأن تكون الخطوات على الأرض محسوبة بدقة شديدة.
بدورها خاطبت تركيا السوريين بعقلية المنتصر وأكدت على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان أنها كانت “فاعلة خير” من أجل سوريا والسوريين. أردوغان الذي كشف منذ إعلان سقوط النظام أن لا نية لديه للبقاء في سوريا وأن همّه الوحيد هو محاربة أعداء الدولة التركية على الحدود، يدرك جيدا أنه بانهيار النظام في دمشق فإن الساحة ستكون تفرعاتها أكبر لمزيد نشوء تنظيمات أكثر تهديدا من حزب العمال الكردستاني، لا بل إن المد سيكون مضاعفا بين سوريا والعراق تتوسطهم تركيا المذعورة من المد الإرهابي كما يسميه المسؤولون الأتراك.
بالعودة إلى الحدث السوري الذي وإن بدا لافتا للاهتمام في حيثياته وكيفية التخطيط له وطريقة تنفيذه، فإن أبرز ما يستفاد منه كونه وإن حقق راحة نفسية للسوريين الذين تخلصوا من إرث بائد لنظام لم يعد ينفع، نخشى أن يفتح المنطقة على “شرور” تتربص بها.