هذه ليلتي

في الخامس من ديسمبر 1968 أطلقت أم كلثوم من على مسرح دار السينما قصر النيل رائعتها "هذه ليلتي" التي تعتبر أول أغنية عاطفية شدت بها بعد نكسة 1967، وهي من كلمات الشاعر اللبناني جورج جرداق وألحان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.
بعد حفلاتها في عدد من الدول العربية في إطار دعمها للمجهود الحربي، قالت أم كلثوم لعبدالوهاب إنها قررت أن تغنّي قصائد لشعراء عرب غير مصريين، فبادر بالاتصال بصديقه جورج الذي سبق لكوكب الشرق أن تعرفت عليه في العام 1965 خلال واحدة من جلسات الأنس مع الأصدقاء في لبنان الذي كان ملتقى مشاهير العرب في ستينات القرن الماضي.
روى الكاتب والفنان فارس يواكيم في "حكايات الأغاني" الصادر سنة 2013 أن "عبدالوهاب كان يحب جورج جرداق وشعره. وذات مرة أخبره أنه تكلم بالهاتف مع أم كلثوم وتبلغه السلام." وأضاف "لقد اتفقنا على أن تغني أم كلثوم قصيدة لك في الموسم القادم. وفكر الشاعر في كتابة قصيدة تليق بها. وقبل أن يشرع في ذلك، جمعته سهرة بعبدالوهاب في أحد فنادق مصيف بحمدون. وفيما هما جالسان، راح جورج يردد أبياتا من قصيدة عنوانها "هذه ليلتي" وما إن سمعها عبدالوهاب حتى قال، هذه هي القصيدة التي وصفها بأنها رائعة، حيث لأول مرة تبدو المرأة هي صانعة القرار، هي التي تقول: هذه ليلتي."
كانت هذه الأغنية من الأعمال النادرة التي تتغنى فيها أم كلثوم بالخمرة: يا حبيبي وأنت خمري وكأسي/ ومنى خاطري وبهجة أنسي/ فيك صمتي، وفيك نطقي وهمسي/ وغدي في هواك يسبق أمسي."
بعد استماعها للكلمات، قالت أم كلثوم، "الكلام الحلو لا وطن له. وأنا أحب أن أغني لكل شاعر مجيد." و أكدت "أنا أعجبت بالقصيدة، إنها رائعة حقا. وفيها أبيات كثيرة لا تفارق خاطري منذ أن استلمتها من أستاذنا الكبير عبدالوهاب. هذا هو الشعر الذي يجب أن يغنى ويجري في الخواطر وعلى الأفواه. الشوق الإنساني إلى كل الزمان وكل المكان وكل الحياة… كلام جديد وقديم معا… يا سلام على عمق الإحساس عندما تقول: سهر الشوق في العيون الجميلة/ حلم آثر الهوى أن يطيله/ وحديث في الحب إن لم نقله/ أوشك الصمت حولنا أن يقوله."
وأضافت "قلما يقع الإنسان على مثل هذه الأجراس الموسيقية المتكاملة التي يجدها في هذه القصيدة، فليست هناك كلمة واحدة إلا وهي نغمة عذبة،” رد عبدالوهاب "كما قلت لك يا ست، أربعة شعراء أخذوني بروعة النغم الشعري وهم: أحمد شوقي والأخطل الصغير وعلي محمود طه وجورج جرداق."
بعد حضوره حفل إطلاق الأغنية، قال جورج جرداق "لو مت الآن لما همني شيء، فقد فزت بكل شيء عندما جرى شعري على شفتي أم كلثوم،" كان الحدث بالنسبة إليه كبيرا وعظيما وخالدا، فمجرد أن يرتبط اسمه باسم كوكب الشرق فذلك هو منتهى النجاح والتفوق والتميز، وفوق ذلك فإنه طرق باب الخلود وتربع في محرابه.
في اليوم الموالي، كتب الناقد الفني البارز آنذاك جليل البنداري في "أخبار اليوم"، "اثنان بلغا هذا المستوى من الجمال الفني في الشعر، هما: المتنبي وجرداق، ولا غرابة في ذلك، فجرداق يجمع في أدبه وفي شخصه خصائص الشاعر والفيلسوف والرسام والموسيقي والمثقف العالمي."
وكتب الشاعر شوقي بزيع "من الظلم الفادح أن يختزل جورج جرداق في قصيدة عادية لم تكن لولا الشهرة الأسطورية لأم كلثوم لتلفت أحدا من القراء أو النقاد. ومن الظلم أن تكون صدفة لقاء الشاعر بالمطربة الشهيرة هي وحدها التي وفرت لاسمه هذا القدر من ذيوع الصيت. وهل كان جرداق، يشير إلى هذه المسألة بالذات في قوله ‘صدفة أهدت الوجود إلينا/ وأتاحت لقاءنا فالتقينا‘؟" مع كل ما يحمله البيت الشعري من لبس في الخطاب، مقصود أو غير مقصود، بين حبيبته المجهولة والمطربة التي وفرت له سبل الخلود فقول بزيع فيه وعليه، لأن الشاعر بقصائده التي تتردد على ألسنة الناس وتترنم بها الحناجر، وليس بتلك التي يعبث بها غبار الوقت في درج مكتب أو بين صفحات كتاب مهمل.