"إلى أي مكان، عزيزي".. سبعون رواية صغيرة تمتد لأجيال

نحتاج دائما إلى آراء الكتّاب في الأدب والحياة وخاصة إلى خارطة ما يقرأونه من كتب والأماكن والأحداث، نستدل من خلالها على فرادة تجاربهم كما نرحل معهم لاكتشاف عوالم نجهلها كان لها الفضل في تكوينهم ونحت بصماتهم الخاصة، لكن أن تكون طريقة العرض إبداعية هي الأخرى أمر نادر كما يقدمه الكاتب النمساوي كريستوف رانسماير.
كتاب “إلى أي مكان، عزيزي” لكريستوف رانسماير يجمع 70 رواية صغيرة تسلط الضوء على رحلات الكاتب وتأملاته الشخصية، حيث تأخذ القارئ عبر أماكن متنوعة من القطب الشمالي إلى جنوب إفريقيا، مع استعراض للتاريخ والذكريات، من آثار النازية إلى قصص الخمير الحمر.
يستخدم رانسماير شخصية “لوركان”، وهو انعكاس ذاتي للكاتب، لاستكشاف القصص المنحوتة في الطبيعة والموروثة عبر الأجيال. النصوص متشابكة بتفاصيل دقيقة وأسلوب سردي عميق يتجاوز الزمان والمكان. يبرز الكتاب كإضافة بارزة لمسيرة رانسماير الأدبية، التي تجمع بين السرد الإبداعي واستكشاف جوهر القصص الإنسانية.
بطاريق ونازيون
في كتابه يقود كريستوف رانسماير القارئ عبر 70 رواية صغيرة تسلط الضوء على محطات من مسيرته الإبداعية، بينما يجوب العالم بأسره. وفي نفس الوقت، يكشف الكتاب عن الكثير من الجديد. لنبدأ بقصة شخصية، لأن هذا يناسب الكتاب. في المرحلة الثانوية، كنا نلعب لعبة تبادل الهدايا كل عام قبل عيد الميلاد. بهذه الطريقة، حصلت في الصف الثامن على رواية كريستوف رانسماير “مرض كيتاهارا” التي كانت قد صدرت حديثاً آنذاك كهدية من معلمتي. قرأت الجملة الأولى “كان هناك قتيلان أسودان في يناير من البرازيل،” وابتلعت كل سطر بعدها.
كانت واحدة من تلك التجارب الأدبية في فترة الشباب التي تبقى في الذاكرة لعقود، مثل رحلة كبيرة. ومع مرور الوقت، قرأت كل كتب رانسماير الأخرى، وكان على كل منها أن يقارن بتلك التجربة الكبيرة.
في الربيع الماضي، بلغ الكاتب المولود في “فيلس” بالنمسا العليا والذي جاب العالم السبعين من عمره. وصدر الآن كتابه الجديد “إلى أي مكان، عزيزي”، الذي يضم 70 نصاً أطلق عليها “روايات صغيرة”. هذه النصوص غير مرتبطة بخيط سردي واضح، لكنها جميعاً لها شيء مشترك بطريقة ما. يرافق كل نص صورة أو اثنتين بالأبيض والأسود، مشاهد صغيرة توضح تفاصيل القصة بدلاً من أن تكون مجرد توضيح لها.
الشخصية الرئيسية في هذه “الروايات الصغيرة” تدعى “لوركان”، وهو شخصية بديلة للكاتب، كما نعرف من المقدمة. “لوركان” اسم أيرلندي غيلي يعني “المقاتل البري”، حيث عاش رانسماير لفترة طويلة في أيرلندا. مع لوركان، نسافر إلى القطب الشمالي على متن كاسحة جليد نووية، ومن هناك إلى الجنوب إلى البطاريق ذات النظارات على شواطئ رأس الرجاء الصالح، ومن جزيرة روبنسون كروزو التشيلية إلى جزيرة الفصح، ومن طوكيو إلى البحر التيراني.
ويتتبع الكاتب آثار جرائم النازية في رواية أخرى إذ نجد أنفسنا معه على شاطئ البحر التيراني حيث تقع مدينة “غايتا” الساحلية، هناك توجد قلعة تاريخية حيث سُجن مجرم الحرب النازي والتر ريدر في شقة كبيرة مطلة على البحر. كان مسؤولاً عن قتل آلاف المدنيين.
في نصوص الكتاب، يذكرنا رانسماير كيف حصل ريدر، بعد تدخلات من الكنيسة والدولة، على تخفيفات للعقوبة، وفي عام 1985 سُمح له بالعودة إلى النمسا، حيث استُقبل من قبل وزير الدفاع آنذاك فريدهم فريشينشلاجر بمصافحة.
حتى في سلسلة جبال “توتن”، التي يعرفها رانسماير منذ طفولته، يجد لوركان، وسط جمال الطبيعة القاسي، آثار الوحشية النازية. في أحد النصوص، يتحدث عن أول رحلة له إلى قمة “تراونشتاين” كطفل صغير مع والده: “هناك، دفع نحو ثلاثين ألف عامل بالسخرة تحت حكم أدولف هتلر الأنفاق في الصخور…” وفي نص آخر، يتحدث عن لوركان البالغ وهو يبحث عن مخابئ الكهوف التي لجأ إليها المضطهدون من النازيين في الجبال.
◙ بجمل طويلة تتلوى كالمسارات ووصف متألق يفتح رانسماير عيون القارئ على الطبيعة والبشر والحيوانات والتواريخ
في “بنوم بنه”، يأخذ بحار لوركان إلى برج عظمي زجاجي ويُريه جمجمة والده المحطمة، الذي قُتل أمام عينيه على يد جواسيس الحمير الحمر، وضُرب حتى الموت ودُفن حياً. لاحقاً، يتمكن الابن من استعادة رفات والده ووضعها في هذا البرج: “لإحياء ذكرى الجحيم والتأكيد على ألا يتكرر ما حدث مرة أخرى،” كما يقول هو دوين، “إن الإناء أو المقبرة لضحايا فرديين لا تكفي.”
لا يتناول هذا الكتاب فقط آثار الدماء التي خلفها الإنسان وراءه، بل يتناول أيضاً جوهر القصص التي تُروى عبر الأجيال أو تُنحت في المناظر الطبيعية على شكل قبور، أو نقوش، أو منحوتات، أو مبان. في عدة مواضع، يتحدث النص عن محاولة الوصول إلى أعماق الصحارى والجبال، وأيضاً الموسيقى والقصص. “بعد كل هذه الليالي المشرقة تحت الشمس، كانت كابينة لوركان تضاء في هذه اللحظة فقط من خلال شاشة الحاسوب المحمول، حيث كان يحاول يومياً الكتابة للوصول إلى عمق القصة.”
لوركان مراقب مشارك، يتدخل بأقل قدر ممكن، ولكنه يأخذ موقفاً عند الضرورة. هذا يذكر بشخصية كرتونية أدبية للكاتب الإيطالي هوغو برات “كورتو مالتيز”، القبطان بدون سفينة، الذي يسافر حول العالم وحتى عبر الزمن، وله إحساس بالعدالة ويظل دائماً هائماً.
الجملة التي تحمل عنوان الكتاب “إلى أي مكان، عزيزي” يجدها لوركان كغرافيتي في محطة إنغولشتات. وعندما يرى الشخص ويحاول التحدث إليه، يهرب الأخير: “كان صوت كرات الخلط في العلب لا يزال مسموعاً عندما اختفى الكاتب في الليل."
ذكريات بلا حزن
"إلى أي مكان، عزيزي” هو كتاب ذكريات بلا شجن. ترتبط النصوص بتقارير رانسماير للصحف مثل “جيو” و”مريان”، والتي كانت بداية مسيرته الأدبية، وبعضها موجود في مجموعة “الطريق إلى سورابايا” (1997). يكشف بعضها أيضا عن تاريخ الإنتاج لبعض رواياته مثل “العالم الأخير” أو “رعب الجليد والظلام”. وغالبا ما تظهر طفولته في هذه النصوص.
مع عدد هذه الروايات الصغيرة، قد يعتقد البعض أن الكاتب يشير إلى عمره. لكن كتابه “أطلس رجل خائف”، الذي صدر عام 2012، جمع أيضاً 70 قصة قصيرة من جميع أنحاء العالم.
بجمل طويلة تتلوى كالمسارات ووصف متألق، يفتح رانسماير عيون القارئ على الطبيعة والبشر والحيوانات. غالباً ما يتجنب النص نبرة الزمن، فتبدو الحكاية كما لو أنها تُروى لنا من الماضي البعيد. بدلاً من استخدام كلمة “إنترنت”، يكتب رانسماير عن “الشبكة الكبيرة”، التي يبحث فيها لوركان مراراً وتكراراً ليجد العديد من نسخ القصة، ولكن دون إجابات نهائية.
وما إذا كانت هذه النصوص روايات صغيرة فعلاً فالأمر متروك للنقاش. من ناحية، لا يهم هذا الأمر كثيراً، ومن ناحية أخرى، يحب رانسماير تجربة الأشكال الأدبية ودفع حدودها دون الالتزام بقواعدها. من المؤكد أن تأخر صدور هذا الكتاب عن عيد ميلاده السبعين لنصف عام ليس مصادفة. لأنه، كما يقول رانسماير نفسه، رغم أن الكثير فيه ذاتي، إلا أنه بحث عن مسافة زمنية بينه وبين ذاته، واستخدم شخصية “لوركان” لذلك. تبقى الإجابة على السؤال الأول: كيف يقرأ رانسماير اليوم بعد كل هذه السنوات؟ الجواب بسيط: بامتياز.
وكريستوف رانسماير هو كاتب وروائي نمساوي بارز، وُلد في 20 مارس 1954 في بلدة فيلس بولاية النمسا العليا. يُعتبر واحداً من أبرز الأدباء النمساويين المعاصرين، واشتهر بأسلوبه السردي العميق والغامر الذي يمزج بين الخيال والواقع، ويطرح مواضيع إنسانية عميقة تتناول التاريخ والثقافة والطبيعة. درس الفلسفة والإثنوغرافيا (علم الشعوب) في جامعة فيينا. عمل في بداياته كصحفي ومحرر أدبي قبل أن يتفرغ للكتابة الأدبية بشكل كامل.. وعاش لفترة طويلة في بلدان مختلفة، منها أيرلندا، التي ألهمته العديد من أعماله.
من أبرز أعماله “العالم الأخير”، “مرض كيتاهارا”، “رعب الجليد والظلام”. رواية مستوحاة من الاستكشافات القطبية، حيث يمزج بين التاريخ والمغامرة. “أطلس رجل خائف” مجموعة من القصص القصيرة والتأملات التي تدور حول السفر والمغامرات والإنسانية.
يتسم أسلوب رانسماير بالاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، واللغة الوصفية الغنية، واستكشاف الجوانب الفلسفية والإنسانية للحياة. غالباً ما يعبر عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويستخدم شخصياته لاستكشاف القضايا الأخلاقية والتاريخية. وسبق أن حصل على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، منها: جائزة فرانز كافكا، جائزة هاينريش بول، وجائزة شيلر الألمانية.
كريستوف رانسماير هو أحد الأصوات الأدبية المميزة في الأدب الأوروبي الحديث. يجمع في أعماله بين التأمل الفلسفي والخيال السردي، مما يجعله كاتباً فريداً يعكس الجوانب المعقدة للإنسانية والعالم من خلال رواياته وقصصه.