محمد خيي.. تاريخ فني زاخر تحركه فلسفة عميقة تجاه الفن

الرباط- يتميز محمد خيي بقدرة استثنائية على تقمص أدوار متعددة تنتمي إلى عوالم درامية متنوعة، فمن خلال أعماله تنقل بين أدوار تاريخية تحمل طابعا ثقافيا وتراثيا مثل دوره في مسلسل “صقر قريش”، إلى أدوار درامية معاصرة تتناول قضايا اجتماعية وأسرية مثل دوره في سلسلة “سلمات أبو البنات”، وهذا التنوع يبرهن على مرونة أدائه وقدرته على استيعاب أبعاد الشخصيات المختلفة وتقديمها بشكل طبيعي يجذب المشاهدين ويجعلهم يشعرون بصدق تلك الشخصيات، كما أن تقمصه لشخصيات معقدة ذات خلفيات نفسية واجتماعية متنوعة يعكس مدى عمق دراسته للشخصيات قبل أدائها.
ورغم تنوع أدواره يظهر محمد خيي ميولا إلى اختيار شخصيات محددة ذات أبعاد إنسانية عميقة، مثل دور الأب الذي يحمل مسؤولية الأسرة ويواجه تحديات كبيرة كما في شخصية المختار في مسلسل “سلمات أبو البنات”، وهذا يعكس حرصه على تناول أدوار تحاكي حياة الناس اليومية وتلامس قضاياهم، ويبرز قدرته على التعبير عن مشاعر متضاربة، من الحنان الأبوي إلى الصرامة والحزم.
أداء تمثيلي خاص
لم يحصر محمد خيي نفسه في مجال فني واحد، بل قدم أعمالا مميزة في السينما، التلفزيون والمسرح، وهذا التنوع يعكس فهمه العميق لاختلافات الوسائط الفنية، حيث يتطلب المسرح حضورا جسديا وصوتيا قويا مع الاندماج الكامل في اللحظة، بينما تعتمد السينما والتلفزيون بشكل أكبر على التفاصيل الدقيقة في تعبير الوجه ولغة الجسد، فقدرته على التنقل بين هذه الوسائط بثقة واحترافية تظهر مدى مرونته كممثل واستعداده للتأقلم مع متطلبات كل وسيط فني، فعلى سبيل المثال في المسرحيات مثل “فاكطوطوم”، يبرز أداؤه الحركي القوي والتفاعل الحي مع الجمهور، بينما في أعماله السينمائية مثل “أندرومان من دم وفحم”، يعتمد على تقنيات الأداء الدقيقة لخلق تأثير عاطفي أعمق.
ويولي خيي اهتماما خاصا بتقديم أعمال تستلهم التراث الثقافي المغربي، ويجعل أعماله تحمل طابعا مميزا يعزز الهوية المغربية، مثل “الشعيبية” ومسلسل “حديدان في كليز”.
يقدم خيي شخصيات تعبر عن عمق المجتمع المغربي وتراثه الشعبي، وهذا التركيز على الثقافة المحلية يمنح أعماله طابعا خاصا ويجعله أحد الأسماء البارزة في الحفاظ على هذا التراث من خلال الفن، كما أن استخدامه للغة الجسد ونبرات الصوت المناسبة للشخصية يعكس دقة كبيرة في إيصال الروح الثقافية لتلك الأدوار.
وأظهر الممثل على مدى أكثر من ثلاثة عقود، التزاما مستمرا بمسيرته الفنية، مقدما أدوارا جديدة ومبتكرة تعكس تطورا مستمرا في أدائه، سواء في بداياته مع أعمال مثل “ظلال الماضي” و”الصعود إلى المنحدر الرمادي”، أو في أحدث أعماله مثل “سلمات أبو البنات” و”بين لقصور”. ظل خيي يحتفظ بجودة أدائه ويعمل على تطوير أدواته الفنية، فهذا الالتزام الطويل يشير إلى شغفه بالفن ورغبته في الاستمرار بتقديم قصص مؤثرة ومهمة للمشاهدين.
يعتمد هذا الممثل المغربي في أدائه على الواقعية المشبعة بالعاطفة، حيث يجيد استحضار تفاصيل دقيقة لكل شخصية، ويتميز باستخدامه المتوازن للغة الجسد، إذ تكون حركاته مدروسة بعناية لتعكس الحالة النفسية للشخصية، سواء كانت مفعمة بالحيوية أو مثقلة بالهموم، كما يعتمد على تعبيرات الوجه الطبيعية لديه، وهذا يسمح له بنقل مشاعر معقدة مثل الحيرة، الألم، السعادة، والغضب، بينما يظهر خيي اهتماما خاصا بالإلقاء، ويعبر عن الشخصيات بمخارج حروف واضحة ونبرات صوت تتناسب مع السياق الدرامي، وهذا النهج في الأداء يجعل شخصياته تبدو طبيعية ومقنعة وتساهم في جذب المشاهدين إلى عالمه.
قريب من الناس
• الممثل المغربي يعتمد في أدائه على الواقعية المشبعة بالعاطفة، حيث يجيد استحضار تفاصيل دقيقة لكل شخصية
• قدرة الفنان على التنقل بين فنون الدراما بثقة واحترافية تظهر مدى مرونته كممثل واستعداده للتأقلم مع كل فن
يعتبر محمد خيي حالة فنية متفردة ونموذجا حيا للإبداع المستمر والاحترافية العالية، ولد في قلعة السراغنة ونشأ في بيئة كان الفن فيها انعكاسا عميقا للروح والثقافة، وهو ما ساهم في تشكيل وعيه الفني منذ سنواته الأولى، واختار طريق الفن عن وعي مبكر وتحدّ للعقبات التي غالبا ما تواجه الفنانين الطموحين في مجتمعاتنا العربية.
بدأت مسيرته مع المسرح، تحديدا في الستينات، عندما انضم إلى فرقة “مسرح المغرب الحديث” بقيادة الطيب الصديقي، وهذه التجربة كانت بمثابة الحاضنة الأولى لإبداعه، حيث تعلم فيها ليس فقط الأداء، بل فلسفة المسرح ذاته كفن يعبر عن نبض المجتمع، وتميّز خيي بقدرته الفائقة على المزج بين الكوميديا والدراما، مقدّما شخصيات غنية تعكس تعقيدات الإنسان المغربي وتحدياته اليومية، وكانت هذه الفترة بمثابة تدريب مكثف شكّل ملامح مسيرته الطويلة، حيث جسّد شخصيات تركت بصماتها العميقة في الذاكرة المسرحية.
ويعتبر أداء خيي في المسرحيات أشبه بمرايا تعكس قضايا المجتمع، جعلته قريبا من الناس ومحط إعجاب النقاد، ولم يكن انتقاله من المسرح إلى التلفزيون والسينما مجرد صدفة أو تغييرا في الوسائط، بل كان تعبيرا عن تطور طبيعي لفنان يدرك أهمية التوسع في فضاءات التعبير الفني، إذ تميز بقدرته على استيعاب الفروقات الدقيقة بين التمثيل المسرحي والسينمائي، وهو ما انعكس في أدائه المتقن والمقنع على الشاشة، ففي التلفزيون.
كانت أدواره في مسلسلات مثل “جنان الكرمة” و”في قلب الظلام” و”أولاد الغربة” تجسيدا لتلك القدرة على الإمساك بجوهر الشخصية ونقلها بواقعية مدهشة، بينما في السينما ترك بصمته من خلال أفلام مثل “حب في الدار البيضاء” و”سميرة في الضيعة”، وفيلمه الأخير “قصة وفاء”، هذه الأفلام لم تكن مجرد أعمال ناجحة، بل كانت محطات أساسية أعادت ثقة الجمهور بالسينما المغربية.
أتقن خيي في السينما فن استبطان المشاعر والتعبير عنها بأسلوب هادئ ومكثف. أداؤه في فيلم “سميرة في الضيعة” كان مثالا حيا على هذا التوازن بين الحضور الجسدي العميق والاستبطان النفسي البارع، كان غوصا في أعماق الشخصية جعله يستحق جائزة أحسن تمثيل ذكوري في مهرجان الفيلم الوطني بطنجة.
شخصيات حقيقية
ما يميز محمد خيي ليس فقط تاريخه الفني الزاخر، بل فلسفته العميقة تجاه الفن، إذ يدرك أن الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو مسؤولية اجتماعية وأداة للتغيير، لذلك كانت أدواره دائما تعكس قضايا مجتمعه وتعبّر عن أحلامه وآلامه، سواء على خشبة المسرح أو الشاشة.
كان خيي دائما قريبا من الجمهور، يقدم له شخصيات حقيقية نابضة بالحياة، تحمل في طياتها معاني الإنسانية والتحدي، ويمكن القول إن محمد خيي يمثل مدرسة فنية قائمة بذاتها، وتجربة الانتقال الناجحة بين المسرح والسينما، والتنوع الكبير في أدواره، يجعلانه مرجعا للفنانين الشباب، إرثه لا يكمن فقط في الجوائز التي حصل عليها مثل أفضل ممثل عن دوره اللافت في الفيلم الروائي الطويل “المرجا الزرقا” للمخرج داوود أولاد السيد في الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي أو الأعمال التي شارك فيها، بل في كونه مشخصا من الدرجة الأولى، حيث يستطيع استحضار أي شخصية كمادة خام.
وتشمل فيلموجرافيا الممثل محمد خيي العديد من الأعمال في مجال التمثيل عبر سنوات طويلة، حيث شارك في 88 عملا ما بين مسلسلات وأفلام ومسرحيات، من أبرز أعماله الحديثة، نجد مسلسل “بين لقصور” في 2024 حيث جسد شخصية “لغندور”، وفيلم “صحاري سلم وسعى” في نفس العام، كما شارك في العديد من الأعمال المتميزة خلال السنوات الأخيرة مثل “سلمات أبو البنات” بأجزائه المختلفة من 2020 حتى 2023، وفيلم “شوك الورد” عام 2023 حيث أدى دور عبدالجبار، ومسلسل “أحلام سيتي” في 2021، وفيلم “أسرار الليل” في 2023، ومسلسلات عديدة مثل “البيوت أسرار”، “الدنيا دوارة”، “قضية العمر”، وكذلك في أفلام مثل “التكريم”، “عين الحق” و”إشاعة”. عرف بدوره البارز في مسرحيات مثل “فاكطوطوم” في 2015، وتظل مسيرته الفنية غنية ومتنوعة، مما جعل له حضورا مميزا في السينما والتلفزيون والمسرح.