أيام قرطاج المسرحية منصة للعدالة والجمال والقضايا الإنسانية

ترفع أيام قرطاج المسرحية شعار "المسرح مقاومة والفن حياة"، تأكيدا على دعم القضية الفلسطينية والقضايا العادلة عالميا، حيث تمت دعوة مسارح مقاومة من فنزويلا والبرازيل مع الانفتاح على آسيا من خلال دعوة المسرح الصيني.
تونس – انطلقت الدورة الخامسة والعشرون لأيام قرطاج المسرحية مساء السبت بالمسرح البلدي في تونس تحت شعار “المسرح مقاومة والفن حياة” مع التركيز على الاضطرابات التي تجتاح المنطقة منذ أكثر من عام، بينما ركز عرض الافتتاح الصيني على قضيتي الوجودية والروحانية.
وافتتح المهرجان بعرض موسيقي قدّمه الفنان الفلسطيني شادي زقطان، بأغنية “يا ذيب”، وعرض مؤثر للأطفال جسّد معاناة أطفال غزة تحت الحصار والدمار، مترافقا مع مشاهد توثق الحرب الإسرائيلية على غزة.
وقال مدير أيام قرطاج المسرحية محمد منير العرقي في كلمته “ترفع هذه الدورة قيم الانتصار للقضايا العادلة والحق في الحياة، ونشر ثقافة العقول المستنيرة ضد الإبادة، وتدعونا إلى المقاومة ثم المقاومة، لذلك اخترنا أن يكون موضوع الندوة الدولية.. المسرح والإبادة والمقاومة، نحو أفق إنساني جديد.”
وأضاف أن برنامج هذا العام يتضمن عروضا رسمية فضلا عن عروض خارج المسابقة من تونس والعالم العربي وأفريقيا والعالم، حيث تمت دعوة مسارح مقاومة من فنزويلا والبرازيل مع الانفتاح على آسيا من خلال دعوة المسرح الصيني. وأشار إلى أن هذه الدورة ليست مجرد فعالية ثقافية وإنما منصة للعدالة والجمال والقضايا الإنسانية.
وقدمت مجموعة “بابا روني” لفنون السيرك عرضا صامتا بعنوان “أطفال من العالم” تضمن مشاهد من الحياة في فترة السلام قبل أن تطمسها الحرب في رسالة تضامن مع أطفال الأراضي الفلسطينية ولبنان. وجرى خلال الافتتاح تذكر مجموعة من الفنانين الذين رحلوا عن الدنيا هذا العام وهم السعدي الزيداني ومحمد مورالي وعبدالعزيز بلقايد حسين ومحجوبة بن سعد ومراد كروت وياسر الجرادي.
كما كرمت أيام قرطاج المسرحية يحيى الفايدي ومنير بن يوسف ومقداد الصالحي وآمال بكوش وفاطمة البحري ومحمد المديوني من تونس إضافة إلى مجموعة عيون الكلام الموسيقية والممثل السوري ممدوح الأطرش والكاتب المسرحي السعودي سامي الجمعان.
وتشمل العروض 12 عرضا في المسابقة الرسمية و35 عرضا في الأقسام الموازية، إضافة إلى 13 عرضا في قسم مسرح العالم، وعرضيْن في تعبيرات مسرحية في المهجر و10 عروض موجهة للطفل و4 عروض في مسرح الإدماج، إلى جانب 11 عرضا في مسرح الحُرّية الذي يُخصص لنزلاء السجون.
وقال الفنان الأردني علي عليان “المسرح فعل مقاوم بطبيعته نتيجة الأعمال أو المواضيع السياسية التي يقدمها، في جرأة عالية في طرح المواضيع بمختلف البلدان ليس فقط في أوروبا والولايات المتحدة وبلدان العالم أيضا في عالمنا العربي، ونحن في الأردن نقدم العديد من التجارب المسرحية التي تحاكي الواقع وبشكل صريح ومباشر وتُعنى بالقضية الفلسطينية، المسرح ككل هو فعل مقاومة قادر على أنه يقرأ الواقع ويستشرف المستقبل ويقدم وجبات فكرية ذكية كبيرة للمواطن العربي، ومنها أيام قرطاج المسرحية التي دائما تتحفنا بقراءتها لهذا الواقع وتقدم التجارب المسرحية المحلية والدولية والعربية التي أيضا فيها نبض الشارع.”
وصرح الممثل المسرحي التونسي عبدالمنعم شويات “أعتقد أنه طبيعي أن الفعل المسرحي في حد ذاته هو مقاومة يوميا وأي عمل تقاوم الداخلي إللي فيك وتقاوم ما هو مادي اقتصادي لتستطيع تخرج مسرحية، والدورة في حد ذاتها والاهتمام أيضا بالقضية الفلسطينية وبما هو صاير في لبنان يعني حاجة أعتقد كالعادة تونس دائما في هذه المسألة ما نجموش يتزايدوا علينا في الحكاية هذه، هكذا طبيعة الفنانين القائمين على الدورات وطبيعة البلد وطبيعة الشعب بتاعها.”
وأشاد المؤلف والمخرج المسرحي الليبي توفيق قادربوه المشارك بعرض “نجع الغيلان” بحفل الافتتاح معبرا عن سعادته بمشاركته الأولى “في أعرق المهرجانات العربية والأفريقية.” وقال قادربوه “رغم أن المسرح حديث العهد في ليبيا إلا أن العمل فرض نفسه وضمن مشاركة في هذه الدورة المميزة.” وأكد على أهمية طرح ما عاشته الشعوب قبل الحرب وبعدها من خلال خشبة المسرح وعبر تصور فني نابع من الواقع.
وبعد انتهاء مراسم الافتتاح بالمسرح البلدي جاءت أولى العروض على مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة مع العرض الصيني “عودة النجم” من تصميم وإخراج ليمي بونيفاسيو الذي يعمل منذ أكثر من ثلاثين عاما على التعريف بثقافة مجتمعات السكان الأصليين حول العالم.
ويستكشف العرض قضيتي الوجودية والروحانية ويعرض لأول مرة خارج الصين. ويدمج بين الرمزية والتجديد وقدم رؤية فنية بصرية عميقة، مستعرضا رحلة الإنسان الداخلية في بحثه عن هويته ومعناه الوجودي وسط تحديات العصر الراهن.
وسجّل هذا العرض العالمي الأول الذي تم تقديمه، حضور جمهور غفير من مسرحيين تونسيين وممثلي سفارة جمهورية الصين بتونس، ووفود عربية وأفريقية وأجنبية مشاركة في هذه الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية.
وتبرز السينوغرافيا في “عودة النجم” كأداة فنية مؤثرة استخدمها بونيفاسيو بذكاء شديد لخلق أجواء غامضة تتناغم مع موضوعات المسرحية، حيث تظهر في المشهد الافتتاحي شخصية وحيدة واقفة وسط الظلام في الجزء الخلفي للخشبة مع خلفية من النار المشتعلة التي تلتهم المساحة خلف هذه الشخصية. ويحمل مشهد النار الافتتاحي في طياته معاني متعددة كالدمار والتطهير ثم التجديد.
واستخدم المخرج السينوغرافيا كأداة قوية لسرد القصة، إذ سيطرت في عنصر الإضاءة الألوان الداكنة على المسرح لتعكس أعماق الوجدان الإنساني. ففي قلب هذا الظلام، ظهرت شخصية وحيدة مع بداية العرض محاطة بظلال عميقة وكأنها تعكس صراع الإنسان الأزلي بين النور والظلام. وقد كانت النار المشتعلة خلفها بمثابة شمعة تنير الظلمات، ترمز إلى الأمل في مسار البحث عن الهوية والانتماء في عالم متسارع. وقد بدت كل حركة، وكل نظرة، وكل كلمة، تحمل في طياتها دلالات عميقة، تدعو المتفرج إلى التأمل في ذاته وفي العالم من حوله.
وبينما تحيط الشخصية ظلال قاتمة، ينبعث من النار شعاع من الضوء، وكأننا بالمخرج أراد من خلاله بناء أحداث مسرحيته على جملة من المتناقضات أبرزها بين الظلام والنور، ليصور حالة الصراع الداخلي الذي يعانيه الفرد بين الخير والشر.
ويشير العرض إلى وحدة الإنسان في هذا العالم وهو يشعر بالعزلة رغم كثافة الحركة من حوله، فالظلام يعكس هذه العزلة بينما الضوء المنبعث من الواجهة الأمامية للخشبة يرمز إلى التوق نحو البحث عن معنى وهدف في حياة مليئة بالصراعات. وتتناغم هذه الصورة البصرية بقوة مع عنوان المسرحية “عودة النجم”، حيث بدت الشخصية مستعدة في رحلتها لإعادة اكتشاف نفسها، وعثرت على ضوء خافت وسط الظلام ليبقى الأمل في التجدد والبحث عن الذات هو المحور.
وعبر هذه الرحلة، حاول المخرج أن يجيب على أسئلة جوهرية وجودية: ما الإنسان؟ وما هو دوره في هذا العالم؟ وكيف يمكن أن يجد معنى لحياته؟ فمن خلال الشخصية الرئيسية التي تسعى جاهدة للعثور على هويتها، قدم العرض انعكاسا للتجارب الإنسانية المشتركة لاسيما في صراع “الهوية والحداثة”.
إن العودة إلى “الذات” أو “الهوية” أو “عودة النجم” لا تعني مجرد الرجوع إلى الماضي، بل هي رحلة من الداخل للبحث عن هوية أعمق وفقا لرؤية المخرج ليمي بونيفاسيو الذي يرى أن فكرة العودة إلى الجذور الثقافية التي يتبناها العرض ليست بالعودة الكلية إلى الوراء بل ينبغي على المرء استلهام القيم والحكمة من التراث والاستفادة منها في الحياة المعاصرة.
وإلى جانب السينوغرافيا بما هي تقنية مبتكرة في هذا العرض، حضرت الثقافة والهوية الصينية من خلال الأصوات والأغاني التراثية لجمهورية الصين الشعبية، والتي انبعثت من حناجر الممثلين لتُترجم الآهات أحاسيس الألم والمعاناة في هذه الرحلة الوجودية للإنسان المعاصر الذي فقد معناه وبات تائها مغتربا عن العالم.
وتنتهي مسرحية “عودة النجم” التي دام عرضها 90 دقيقة بفكرة العودة إلى الذات، فهذه الشخصية التي ظهرت في بداية المسرحية ألبسها المخرج زيّ رائد الفضاء لتعود إلى سمائها كما “النجم” الذي يعود إلى سمائه بعد رحلة طويلة ومضنية.
ويضمّن بونيفاسيو من خلال عمله “عودة النجم” جملة من الرسائل التي تدعو إلى البحث عن الذات، واستكشاف الهوية الحقيقية، من خلال التفكير في الجذور الثقافية وتوريثها للأجيال القادمة لتكون نجما ساطعا مرشدا لهم في هذا العالم المتسارع بالأحداث والمليء بالمتغيرات، مع الحرص على إيجاد توازن بين الماضي والحاضر والاستفادة من الحكم القديمة في مواجهة تحديات العصر الحديث، مهما كانت الصعوبات، ومهما كان سيلان الأنهار جارفا ومليئا بالمخاطر.