الانتصار الكبير

هناك شخصيات قد نختلف معها، ولكن علينا أن نرفع لها القبعة تقديرا واحتراما. وبخاصة عندما تفاجئنا بقدرتها على الصبر والمجازفة وتحمّل الصعاب والقفز فوق العراقيل والإصرار على النجاح مهما كان صعبا أو مجاورا للمستحيل أو ربما هو المستحيل ذاته.
قبل ألف عام قال المتنبي "إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم". وقبل مئة عام قال أحمد شوقي "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا". يمتلك الإنسان قوة جبارة في داخله قد يعيش ويرحل عن الدنيا دون أن يكتشفها. فإذا أدرك سرها وحاز مفاتيحها ذلت أمامه العقبات ولان بين يديه الحديد.
النجاح الساحق الذي حققه دونالد ترامب خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة، يمكن اعتباره خير ترجمة للعبارة المأثورة المنسوبة للرسول، وهي ليست من الحديث، والتي تقول، "لو تعلقت همّة المرء بما وراء العرش لناله". تأكيدا على أهمية الإصرار والتحدي والتمسك بالهدف والنضال في سبيل تحقيقه.
الصورة ببساطة: رئيس سابق خسر امتحان الفوز بولاية ثانية، وتعرض للملاحقة الأمنية والقضائية، خضع للتحقيق ومثل أمام المحكمة، ودخل غرفة الاحتجاز، ووقف أمام كاميرا الجنايات لتلتقط له صورا تخص سجلّ سوابق. انقلب عليه مقربون، وتخلى عنه أصدقاء، وتبرأ منه جمهوريون من بني حزبه، وتحالف ضده مؤثرون من كل الاتجاهات. سخر منه نواب برلمانيون و كتاب ومحللون، وسعت الدولة العميقة إلى محاصرته بأن سحبت من أمامه جو بايدن وجاءته بكامالا هاريس عساها تطيح به بالضربة القضائية وهي التي التف حولها مشاهير الفن والإعلام ونجوم المجتمع ورجال الأعمال، واندفعت النساء لمساندتها بلمسة الولاء الأنثوي للقطع
مع المد الذكوري، وأجمعت استطلاعات الرأي على وضعها في صدارة نوايا التصويت في كامل أرجاء الولايات المتحدة بما في ذلك الولايات المتأرجحة. حتى المغنون والموسيقيون حذّروه من بث أعمالهم خلال حملته الانتخابية أو الرقص عليها أمام أنصاره.
واجه ترامب محاولتي اغتيال من قبل أشخاص يعتبرونه عارا على الولايات المتحدة. وجعل منه مناوئوه عرضة للسخرية من خلال الكاريكاتور والمسرح والسينما والإعلام والصحافة الساخرة وبرامج التلفزيون الكوميدية. كان فشله هدفا في داخل بلاده وخارجها. لكن الرغبة في الانتصار كانت أقوى لديه.
قرر الناخب الأميركي العادي والبسيط أن ينتصر لنفسه على النخب. ناخبون من كل التيارات قرروا التصويت لترامب لأنه كان واضحا في التعبير عن مشاغل ترتبط بحياتهم اليومية مثل اتساع دائرة الجريمة، وانتشار جحافل المهاجرين غير الشرعيين، وغلاء الأسعار، والبطالة. تلك الشعبوية التي وصموه بها واعتبروها أسوأ ما فيه، كانت طريقه إلى الفوز بثقة عشرات الملايين. رفض الناخبون الخضوع لعقلية المؤامرة التي كانت تقود برامج الديمقراطية. في العام 1984 انتخب الأميركان رونالد ريغن لكي يهزموا الشيوعية.. بعد 40 عاما، قرر الأميركان تسليم مقاليد الحكم لترامب ليعلنوا انتصارهم على الدولة العميقة.
ترامب هو أول رئيس للولايات المتحدة يخسر مراهنته على ولاية ثانية بعد انتهاء ولايته الأولى، ثم يصر على العودة بعد أربع سنوات ليفوز بها وهو في الثامنة والسبعين، ويعد بأنه سيترشح لولاية ثالثة وهو في الثانية والثمانين. الإصرار على النجاح هو الطريق إليه. وأحلام اليقظة هي التي تصنع ناقليها إلى حقائق على الأرض.