تيار الفساد القوي يجرف جهود الحكومة العراقية في محاربة الظاهرة

ظاهرة الفساد في العراق تثبت يوما بعد آخر مدى استشرائها وتغلغلها في مفاصل الدولة بشكل يجعلها أقوى من أي جهود لمحاربتها واجتثاثها، الأمر الذي يشيع حالة من اليأس لدى العراقيين ويعصف بآمالهم في الإصلاح بعد أن أحيتها وعود الحكومة الحالية بشأن محاربة الفساد ومعاقبة الضالعين فيه.
بغداد- تعصف التطورات المتسارعة في ملف الفساد في العراق بآمال محاربة الظاهرة التي كانت قد أحيتها الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمّد شياع السوداني الذي جعل لدى تسلمّه المنصب من تحجيم الفساد في مؤسسات الدولة ومعاقبة المتورّطين فيه ضمن أولويات عمل حكومته.
وفوجئ الرأي العام العراقي بتفجّر قضية فساد جديدة، في وقت ما تزال فيه الحكومة تواجه تداعيات ما يعرف بسرقة القرن وتدرّجها من عملية اختلاس لمبالغ كبيرة من أموال الأمانات الضريبية إلى فضيحة طالت مؤسسة القضاء بحدّ ذاتها وهزت مصداقية هيئة النزاهة المكلفة بمحاربة الفساد وأفضت إلى تغيير على رأسها باستبعاد رئيسها القاضي حيدر حنون وتعيين محمد علي اللامي خلفا له.
وتناقلت وسائل إعلام محلية ومواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية تسريبا صوتيا منسوبا لمدير عام هيئة الضرائب علي وعد علاوي وهو يتحدث عن قيامه بالتلاعب بالنسب الضريبية لصالح إحدى الشركات، قائلا لمخاطبه “المعاملة الأولى اليوم خلصت من أجل الدخول في المناقصات، وغدا سنسلمهم براءة الذمة”، ومطالبا الشخص الذي يدعى أبو فهد بالحذر لأنّ “العيون كلها مفتوحة علينا”، وفقا لما ورد في التسريب.
وباتت ظاهرة التسريبات لصيقة بقضايا الفساد والفضائح السياسية في العراق بما يدلّ على قيام حالة حرب خفية بين الفاسدين الذين يستخدمون التجسس على المكالمات الهاتفية وحتى الحوارات داخل المكاتب وغيرها وسيلة لتصفية الحسابات ضدّ خصومهم.
ويعني ذلك اتّخاذ الفساد في البلاد شكلا منظّما ومافيويا تنخرط فيه الشخصيات النافذة على شكل مجموعات تمتلك أذرعا لها في مختلف المؤسسات ما يجعل من مقاومتها وإخضاعها للمحاسبة والعقاب أمرا بالغ الصعوبة.
وضاعفت قضية علاوي الجديدة من حرج رئيس الوزراء المحرج أصلا من قضية شبكة التجسّس على سياسيين وأعضاء في البرلمان والتي كانت تدار من قبل موظفين في مكتبه، وكذلك من سرقة القرن التي حُمّلت حكومته جزءا من المسؤولية عنها على اعتبار أن المتورّط الرئيسي فيها قبض عليه ثمّ أطلق سراحه وسمح له بمغادرة البلاد قبل أن يحاكم أو يعيد الأموال المختلسة.
وسارع السوداني إلى محاولة تطويق القضية وأصدر أمرا بفتح تحقيق فوري بشأنها. وذكر مكتبه الإعلامي في بيان أنّ رئيس الحكومة “وجّه هيئة النزاهة بفتح تحقيق عاجل بالتسريب الصوتي المنسوب إلى المدير العام للهيئة العامة للضرائب، وتقديم النتائج في أسرع وقت تأكيدا منه على مكافحة الفساد التي تمثل إحدى أهم أولويات البرنامج الحكومي”.
وأعلنت هيئة النزاهة (مستقلة تخضع لرقابة البرلمان) من جهتها عن المباشرة بالتحقيق في التسريب. وقالت في بيان إنّ الأجهزة التحقيقية التابعة لها “باشرت عملية التحري والتقصي والتحقيق في المعلومات التي تضمنها التسريب الصوتي المنسوب إلى المدير العام للهيئة العامة للضرائب”.
◄ التلازم بين ظاهرة التسريبات الصوتية وقضايا الفساد والفضائح السياسية في العراق مظهر لحرب خفية قائمة بين كبار الفاسدين
ولفتت إلى أنّ تلك الأجهزة “تسعى حثيثا للتحقيق وتقديم النتائج بالسرعة الممكنة”، لافتة إلى أنَّها “ستتواصل مع الجهات المعنية لحسم القضية والتوصل إلى الحقائق بمهنية وحيادية”.
وأعلنت وزيرة المالية طيف سامي من جهتها عن فتح وزارتها لتحقيق مواز والإسراع بتقديم نتائجه. وذكر بيان للوزارة أن الوزيرة “أوعزت بتشكيل لجنة تحقيقية عاجلة بناء على توجيه رئيس مجلس الوزراء بحقّ مدير عام الهيئة العامة للضرائب، للوقوف على التسريب الصوتي المنسوب إليه وتقديم اللجنة الخاصة توصياتها بالسرعة الممكنة”.
ويعتبر ميدان الضرائب في العراق مجالا كبيرا للفساد مثله مثل باقي القطاعات الحكومية المدرّة للأموال بشكل مباشر والتي لطالما كانت مجال تنافس حادّ بين القوى الحاكمة من أحزاب وفصائل مسلّحة للسيطرة عليها عبر تعيين أعضاء تلك القوى في المناصب الهامة التي تشرف عليها وتديرها.
ومن المفارقات التي انطوت عليها قضيّة رئيس هيئة الضرائب أنّ الرجل كان يحظى بسمعة جيّدة تقول دوائر عراقية مطّلعة إنّها من صنع الجهات الحزبية التي يعمل لحسابها، دون أن يعلن انتماءه إليها.
وقد سبق لعلي علاوي أن حظي بتكريم هيئة النزاهة لعدة أعوام متتالية حين كان يرأس الإدارة الفرعية للضرائب في محافظة بابل.
وضمن التداعيات العاجلة للقضية بدأت الانتقادات تطال حكومة السوداني وتنصبّ على فشلها في محاربة الفساد والحدّ من تأثيراته على الحركة الاقتصادية والتنموية في البلاد.
واعتبر النائب معين الكاظمي عضو اللجنة المالية بمجلس النواب العراقي أنّ الحكومة لم تتقدم في مجال مكافحة الفساد وترشيد الدوائر وضبطها رغم توجهها العام نحو الإصلاح كما بيّنته في برنامجها الحكومي الذي صوت عليه البرلمان.
ونقلت وسائل إعلام محلية عن الكاظمي قوله “للأسف لازال الكثير من المسؤولين التنفيذين يتمادون بأساليبهم السابقة على الرغم من تدخل رئيس الحكومة في التفصيلات لتلك الدوائر، حيث أن التسريب الصوتي لمدير هيئة الضرائب يشير إلى مدى تغوّل الفساد في المؤسسات التي تدر الأموال لخزينة الدولة ومنها هيئة الضرائب وهيئة الجمارك ووزارة الاتصالات وهيئة الإعلام والاتصالات وغيرها من الدوائر التي تجبي الأموال”.
وتُضعف الفضائح وقضايا الفساد من موقف السوداني الذي لا يسلم من الصراعات السياسية والضغوط التي تحاول بعض الشخصيات الطامحة للحصول على منصب رئيس الوزراء مثل رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي تسليطها عليه لمنعه من مواصلة قيادة السلطة التنفيذية بعد الانتخابات القادمة المنتظرة سنة 2025.
وانتقد عضو لجنة النزاهة النيابية باسم خشان من جهته واقع النظام الضريبي في العراق واصفا الهيئة العامة للضراب بأنّها “من أفسد الدوائر الحكومية”.
وقال في تصريح لموقع المعلومة الإخباري إنّ “جميع دوائر الضرائب الموجودة في بغداد والمحافظات متورطة في الفساد”، معتبرا أن “النظام الضريبي في العراق غير واضح المعالم حيث لا توجد عقوبات صريحة للمتخلفين عن تسديد الضرائب.. ولذلك يتهرب الجميع منها، فضلا عن أنّ هناك خللا في عملية تدقيق الحسابات للأفراد والشركات”.
كما اتَّهَمَ موظفي الضرائب بتعقيد الاجراءات “وفقا لمبررات شخصية وعرقلة الإجراءات للحصول على مكاسب من هذا التعقيد”.
وعلى افتراض توفّر الإرادة السياسية في محاربة الفساد، فإنّ السلطات لا تمتلك بالفعل ما يكفي من الوسائل للتصدي للظاهرة ومواجهة أباطرتها النافذين في الدولة والقادرين على اختراق مختلف المؤسسات دون استثناء.
وكان قد أعلن مؤخرا عن إزاحة القاضي حيدر حنون من منصبه رئيسا لهيئة النزاهة المكلفة بمحاربة الفساد، الأمر الذي مثّل خلطا لأوراق الجهود المبذولة لمكافحة الظاهرة.
ميدان الضرائب في العراق يعتبر مجالا كبيرا للفساد مثله مثل باقي القطاعات الحكومية المدرّة للأموال بشكل مباشر
وأُرجعت إزاحة الرجل من رئاسة الهيئة إلى طلبه الاستقالة من المنصب، لكنّ جهات عراقية مطّلعة على الملف قالت إنّ ذلك جاء بمثابة نهاية طبيعية لمسار من الضغوط الشديدة التي تعرّض لها خلال الفترة الأخيرة ضمن تطورات ما يعرف بقضية سرقة القرن والتي شهدت منعطفات صادمة.
ومن مسؤول على محاربة الفساد تحوّل القاضي إلى متهم مطلوب للعدالة بعد صدور مذكرة قبض بحقّه على خلفية تسريبات صوتية تظهر تقاضيه لرشوة.
وبدأت متاعب القاضي مع تصريحات أدلى بها خلال مؤتمر صحفي عقده في أربيل مركز إقليم كردستان العراق واتّهم فيها زميله القاضي ضياء جعفر بالتلاعب في قضية سرقة القرن التي قال إنّ نطاقها يتجاوز بكثير الأمانات الضريبية وإنّ حجم الأموال المسروقة يفوق بكثير المبلغ المعلن عنه، ملمّحا إلى محاولات للتستّر على الجوانب الأخطر في القضية وعلى المتورّطين الحقيقيين فيها والذين قد لا يكون رجل الأعمال سوى مجرّد “عربة” لنقل الأموال التي استولوا عليها.