الإمام والبروفيسور.. تفكيك غائب في زمن التيه

عندما التقى شيخ الأزهر أحمد الطيب بالمفكر الأميركي جيفري ساكس الأستاذ بجامعة كولومبيا، وفي الخلفية الحرب الهائلة حيث العرب والمسلمون في جهة ومن تصدر لتمثيلهم فيها (إيران والميليشيات الدينية المسلحة) والأخرى الولايات المتحدة والغرب ووكيلتهم إسرائيل، افترضتُ طرحا تفكيكيًا يفسر ما يجري من تحولات ضخمة ومواجهات كونية، ومن ثم استخلاص نقاط مفصلية تضع العالم على سكة الهدنة، تُفيق المتطرفين من نوبة الجنون، وتشرح للشعوب كيف الطريق إلى الحقوق بحق عن استحقاق وجدارة.
والأهم تعفي الإسلام والعروبة من تحمل هزيمة افتراضية قاسية في ظل اختلاط الحابل بالنابل، وهنا لم يفشل فحسب من رفعوا شعار “الإسلام هو الحل” بل يُزلزَل ويُهزَم من زعموا أنهم “حزب الله” وأنهم الغالبون وأن عدوهم “الشيطان الأكبر”.
مسّ البروفيسور ساكس أثناء اللقاء طرفَ العصب التفكيكي عندما نقض تقديس الغزو والتدمير وقتل الأبرياء من خلال إبراز النصوص الدينية التوراتية ونبوءات الصهيونية المسيحية، ولم يكن بحاجة لتعريفه بما يعرف بشأن ولاء ودعم رؤساء الولايات المتحدة لإسرائيل، إنما كان المفترض أن يُقابَل تفكيكه للحالة الدينية المتطرفة لدى اليمين اليهودي المتطرف بتفكيك للحالة الإسلامية المتطرفة، للوقوف على مساحة سلام واعتدال وتسامح وتعايش مشتركة.
◄ تحدث الإمام الأكبر مع البروفيسور ساكس عن الرؤساء الأميركيين الديمقراطيين والجمهوريين الذين يتسابقون في دعم إسرائيل، فهل فكك المعلومة المعروفة للجميع وأعادها لجذورها
تكمن المعضلة في تطرفين، أحدهما: حداثي متقدم معرفيًا وتقنيًا من المرجح أن يُبهر ذويه بانتصاراته الحربية لدرجة لا يُستبعد معها أن ينضم إليه اليهود العاديون الذين لم يثقوا يومًا في الصهيونية، لا استشعارًا فحسب للخطر الوجودي إنما للتنعم بوعود مشروع “إسرائيل الكبرى” وسياقات السيطرة على احتياطات النفط والغاز البحرية الضخمة والمجمعات السكنية عالية الجودة، وفقًا لدراسة أمير ويتما.
في مقابل تطرف لا يتوافق مع العالم الحديث وغير قادر على حل المشاكل السياسية والمعضلات الحياتية والاقتصادية والثقافية في القرن الحادي والعشرين، ناهيك عن حل أزمة أمة، وعندما يتصدر لمواجهة بعنوان حضاري، سنيًا كان أم شيعيًا، يجلب لذويه كوارثَ بلا حصر.
تكمن المعضلة أيضًا في تيار رجعي يحول دون تحديث العالم الإسلامي والعربي ودأب على دفعه إلى الوراء لجعله متوافقًا معه، وإذا كانت الآلة العسكرية الصهيونية قد ارتكبت أقسى الجرائم وقتلت عشرات الآلاف من المسلمين والعرب، فمشاريع الإسلام السياسي السني والشيعي ارتكبت في حقهم عددًا لا يُحصى من الفظائع ولا تزال تفعل.
وهي حالة مركبة ومتشابكة يلزمها تفكيك كونها تجمع بشكل عبثي بين المقاومة والأدلجة وبين ادعاء تلبس فعل التحرير وفرض الظلامية وبين إطلاق صبياني هستيري أهوج لمشروع مزعوم عنوانه “التحرير الكبير” والتسبب برعونة وهزلية وخفة وانعدام مروءة في أكبر نكبة للمسلمين والعرب في العصر الحديث، ما يستدعي من الإمام القائم بمهام إفهام العوام، لا تثقيف البروفيسور الزائر ولا التنفيس السياسي بلا أثر منتظر، رد الشعوب إلى رشدها وحجزها عن الهاوية ودفعها باتجاه العلم وتعلم أصول السنن وكيف يصبحون أقوياء في عالم يأكل فيه القوي الضعيف.
◄ بداية الطريق في اكتساب احترام النفس والآخر والتحول إلى مؤثرين في السياسة والفكر والثقافة والاقتصاد، لا أدوات تخريب وتدمير وإضعاف
الأجدر بشيخ الأزهر أن يصوغ للضعفاء المُنتهكة حقوقهم المُهانة كرامتهم الممحوقة مكانتهم المنحوتة أحزانهم وآلامهم على خطوط النزوح المسحوبين عميانًا وراء مُغويين ضالين يشيعون أنهم يقاتلون باسم الرب والمُستباحة ساحاتهم من الأعداء والخصوم، برنامج عمل أوليا ومفاهيميا يُحدِث لهم شقًا في صخرة أوجاعهم الصلدة ليقفوا على أول طريق مواكبة ومسايرة تفوق من يظنون أنهم قادرون على أن يطفئوا نورَ الله بأفواههم.
ليشرح الإمام لأمته بشأن المعضلات الكبرى؛ فهل التغييرات السياسية الضخمة والتحولات الحضارية ومشاريع التحرير تطرأ كما هو مذكور في القرآن بقانون الدفع الإلهي ما يعني التنافس الحضاري والتشارك في التحديث والعصرنة “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض” أم بدفعهم إلى التهلكة ودفنهم بالآلاف تحت الأنقاض وإلقائهم في المحرقة؟
ومن يقوم بفعل التغيير ويضطلع بالمسؤوليات الكبرى؟ هل هم من استوفوا شرائط الإتقان والإحسان والصدق والفرادة والعبقرية والنقاء والتجرد أم من كذبوا في كل شيء ونهبوا كل شيء وحرفوا وزيفوا كل شيء حتى تأويل النص المقدس ليوافق أطماعهم في السلطة؟
ليصارح الإمام الأمة التي نسيت عدد ركعات صلاة الفتح بأنها في الطريق الخطأ والمظلم والمسدود والملعون وراء أصحاب عقول ضحلة وإمكانات بسيطة ظنوا أنفسهم قادة وسموا أنفسهم سادة، فيما الطريق الصواب يبدأ بخطة عامة تزيح هذا العبث وتهدئ وتبرد الأجواء وتدخلهم في هدنة طويلة إلى حين ترتيب الأوراق واستعادة تماسك الدول والمجتمعات ولملمة الجراح والخروج من تأثيرات النكبة والصدمة الحضارية الكبرى وتعلم الدروس، وبالتالي الدخول في شراكة مع من يملكون زمام القوة ومقاليد العلم والمعرفة ويتصدرون مشهد قيادة العالم.
ليس البروفيسور ساكس هو المحتاج لتثقيف وتعليم، المحتاج هم المسلمون حول العالم ليعلموا أن مسألة تحويل الحضارة الغالبة عن مكانها القيادي، ومشاركتها على الأقل في القيادة وإدخال العرب والمسلمين إلى حيز المنافسة والندية الحضارية أكبر بكثير من تصورات المتهورين المغامرين وقادة ميليشيات الحرب بالوكالة، ولا يمكن تسويتها إلا عبر تمهيد حضاري وعبر نضال طويل المدى من شأنه تطوير قدرات المسلمين حول العالم وتعظيم إمكاناتهم.
◄ البروفيسور ساكس مسّ أثناء اللقاء طرفَ العصب التفكيكي عندما نقض تقديس الغزو والتدمير وقتل الأبرياء من خلال إبراز النصوص الدينية التوراتية ونبوءات الصهيونية المسيحية
لا نقبل ولا نرضى بانتصار تطرف على تطرف، أيًا كانت الجهة المنتصرة، بل حتى إذا انتصر التكفيريون والإسلاميون سنة كانوا أم شيعة ففي انتصارهم نقمة على المسلمين كونه رخصة لفرض حكم بدائي ينتمي للعصور الوسطى ببرامج رجعية متخلفة لا برؤى نهوض وتقدم.
بداية الطريق في اكتساب احترام النفس والآخر والتحول إلى مؤثرين في السياسة والفكر والثقافة والاقتصاد، لا أدوات تخريب وتدمير وإضعاف، وقد تساءل مفكرون عما يمكن أن تشكله الجماعات والميليشيات التكفيرية الإسلامية والأحزاب الطائفية من تهديد لإسرائيل، وما الذي بحوزتها لتضغط به لاسترداد الحقوق والمقدسات والأرض وقد ساهمت نفسها في إسقاط المؤسسات والجيوش العربية.
تحدث الإمام الأكبر مع البروفيسور ساكس عن الرؤساء الأميركيين الديمقراطيين والجمهوريين الذين يتسابقون في دعم إسرائيل، فهل فكك المعلومة المعروفة للجميع وأعادها لجذورها، إذ أن صهاينة اليوم هم أبناء وأحفاد الذين جمعوا أنفسهم من الشتات وكسبوا تأييد العالم وقاموا بتمويل الهجرة إلى فلسطين، ليس هذا فحسب بل سيطروا على المال وقدموا للعالم اختراعات مذهلة، منها القنبلة النووية التي جعلت أميركا تنتصر في الحرب العالمية الثانية والتي توصلت إليها عبقرية آينشتاين اليهودي.
تخيلت المفكر والسياسي اللبناني الراحل شارل مالك حاضرًا في لقاء الإمام الطيب والبروفيسور ساكس مرددًا مقولته التي تعود إلى العام 1949 “يجب ألا نغتر بمواردنا الطبيعية وموقعنا الإستراتيجي؛ لأنهما من العوامل التي يمكن التغلب عليها، فالرهان فقط على الإنسان ولن يكون للعرب وزن إلا إذا أصبح الإنسان العربي مؤهلًا لأن تستشيره الحكومات الغربية في الصناعة ومختلف العلوم، وأن يصبح نتاج المفكر العربي والعالم العربي موضوعَ تدريس في جامعات الغرب”.