فيلم حياة الماعز: حالة فردية أم واقع مجحف

بغض النظر عن إشكاليات الفيلم إلا أن الأساس الذي قامت عليه القصة هو الواقع الذي يعيشه أكثر من 8 ملايين جنوب آسيوي في دول مجلس التعاون الخليجي بمستويات متفاوتة بالطبع.
الأربعاء 2024/09/18
مشهد صادم.. ولكنه واقعي

شاهدت، مثل الكثيرين غيري، فيلم “حياة الماعز” (The Goat Life) الأكثر إثارة للجدل مؤخرا، والذي يتناول تجربة نجيب وصديقه حكيم، وهما عاملان من الهند يكافحان لشراء تأشيرة عمل في السعودية في أوائل تسعينات القرن الماضي، واللذين أُجبِرا فيما بعد على العبودية من خلال رعي الماعز في ظروف قاسية لا إنسانية في الصحراء، على يد رجل بدوي، في غياب أبسط مقومات الحياة الإنسانية.

وعلى الرغم من أن الكثيرين اعتبروا الفيلم أجندة مسيّسة لتشويه صورة العرب أو المسلمين أو البدوي السعودي، إلا أنه يصوّر حالة شخص واحد بدليل وجود شخصيات هندية أخرى في نهاية الفيلم والتي تحظى بمعيشة لائقة ووظيفة في فندق، مما يعني أنهم لم يمروا بنفس التجربة التي مرّ بها أبطال القصة، لكن التساؤل الحقيقي ليس إن كانت حالة نجيب فردية أم شائعة، بل، لماذا نجيب بالذات الذي قرر البدوي خطفه وإيهامه بأنه كفيله الحقيقي؟ لو كان بسبب “جهله” باللغة العربية أو الإنجليزية كما تدعي العديد من الآراء، فلماذا لم يختطف البدوي أي شخص آخر لا يتكلم العربية أو الإنجليزية، فرنسي أو هولندي أو برازيلي مثلا؟

جميع الترقيعات التي تحاول البُعد عن نواة المشكلة لا تنجح في ذلك، فبغض النظر عن إشكاليات أهداف الفيلم، إلا أن الأساس الذي قامت عليه القصة هو الواقع الذي يعيشه أكثر من 8 ملايين جنوب آسيوي في دول مجلس التعاون الخليجي، بمستويات متفاوتة بالطبع، فبغض النظر عن الحبكة الدرامية وتفاصيل القصة وربما المبالغات لأغراض سينمائية أو سياسية، إلا أن لبّ المشكلة يظل حتى يومنا هذا يُشعل فتيل آلاف القصص التي نعرفها ولا نعرفها، وهذا اللبّ هو – ببساطة يدركها جميع من قطنوا في دولة خليجية ولو لشهر واحد – تطبيع التمييز ضد الهنود، والآسيويين بشكل عام، وتطبيع تجريدهم من إنسانيتهم، وفقا لما هو شائع بالطبع، فالعديد من الخليجيين يضربون مثلا استثنائيا في الرحمة والإنسانية، وهم غير مشمولين في حديثي هذا.

◄ الوعي الاجتماعي حول الآسيويين يجعل منهم مجرد آلات للعمل، والأغلبية ترفض تقبلهم كبشر، وهو ما يؤثر على حياتهم الاجتماعية في المدارس وأماكن العمل والشوارع والتعاملات اليومية وفي الأماكن العامة

إن لم يكن ذلك الواقع، فكيف جرؤ الكفيل الخاطف على اختطاف وتعنيف شخص في مكان عام، واحتجازه في الصحراء لأعوام دون خشية من أي شيء؟ بل اتضح أنه فعل الشيء ذاته مع هندي آخر كبير السن، ما يعني أنه احتجزه لأعوام طويلة أضعاف المدة التي قضاها بطل القصة في الصحراء، فكيف تمكّن من فعل ذلك منذ سنوات والنجاة بفعلته؟ حسنا، هل كان ليفعل الشيء ذاته مع شخص ينتمي إلى جنسية مختلفة؟ بالتأكيد لا، فهو يعلم كل العلم أن لا أحد سيحاكمه مجتمعيا أو سيستنكر أفعاله أو حتى يسأله “لماذا تُعامل العامل بهذه الطريقة؟”، وهو يعلم أن كل ما يفعله مقبول اجتماعيا بل ويتم تلقين الأطفال استحقار الجنسيات الآسيوية واعتبارهم في مستوى أدنى منهم بكثير، بغض النظر عن مهنتهم وعمرهم، وهذه هي طبيعة المجتمعات العنصرية التي تقوم على العبودية الحديثة وانتهاك الإنسانية ضد ذوي الياقات الزرقاء لكي تنهض.

حسنا، دعنا من المجتمع، حتى لو كان القانون سيقف مع نجيب وينصره، فالمجتمع وتصوراته وتقاليده تغلب وتسود على أي قانون، ما منح البدوي القوة والجرأة الكاملة لاستعباد إنسان فقط لأنه “هندي”، وكلمة “هندي” تُعتبر مسبة وإهانة في دول الخليج على نطاق واسع بل ويتم النظر إلى المنتمين إلى الجنسية الهندية على أنهم ناقصون الأهلية البشرية، وتنتشر الكثير من الصور النمطية التي تجعل أي شخص يعيش في دول الخليج يحتقر ويزدري أي هندي بشكل تلقائي، سواء كان فردا أو صاحب عمل، وهي أيضا نفس المعاناة التي تعيشها عاملات المنازل، والعاملون في الإنشاءات والوظائف البسيطة، والذين غالبا ما يعيشون واقعا مريرا مماثلا لواقع نجيب، فإما يتعرضون للعنف والذل والرفض والنبذ أو حتى يقعوا ضحية الاتجار بالبشر والعزلة والاعتداءات الجسدية واللفظية والجنسية.

أما من يعتقدون أن الفيلم يبالغ في تصويره للأحداث، فبرأيي أن الفيلم يصوّر العديد من الانتهاكات المستمرة حتى اليوم حتى لو كانت القصة وهمية، مثل السيطرة المطلقة على حياة العمال التي يتيحها نظام الكفالة، وتفشي انتهاكات الأجور التي تعزز ثقافة استعباد الهنود، وعزلة رعاة الأغنام بشكل عام، وغياب إشراف الجهات المعنية، والتعرض للحرارة الشديدة في وظائف مثل البناء ورعي الماشية، وبعيدا عن جدليات مصداقية قصة الفيلم أو الغرض منها فإن رمزية الفيلم في معانيها الإنسانية الدقيقة لا يختلف عليها اثنان من الأحرار الطبيعيين غير المشوهين بالآفات والعلل المجتمعية.

◄ التمييز على أساس الجنسية أو الوظيفة أو الجنس أو العرق أو اللون أو الدين أو النسب هو نهج شائع في جميع أنحاء العالم، تماما كما أن الإنسانية والمساواة هي نهج الكثيرين أيضا

وقد أظهر الفيلم صورة السعودي المجرم القاسي (الكفيل المزيف) وصورة السعودي الطيب الذي ساعد نجيب في طريق نجاته، وهي طبيعة الحال في جميع دول العالم، الشرقية منها والغربية، الصغيرة والكبيرة، الديمقراطية والاستبدادية، النامية والمتقدمة، فهناك الإنسانيون واللاإنسانيون في كل منها، هناك الكريم الصالح والخبيث الفاسد، والطيب السخي والسفاح الظالم، لذلك فإن الفيلم لم يستهدف قولبة السعوديين وتنميطهم بسمات قبيحة، أو إظهار تقصير معين في الأجهزة الدولية القانونية، أو فشل في التشريعات، وإنما كشف معاناة الآلاف مثل نجيب، وأوضح ما يكمن وراء التمييز ضد الهنود من دساتير مجتمعية تطبّع العنصرية ضد أعراق وجنسيات محددة ممن لا تعتبر أي قيمة لهم.

لقد ركز أغلب منتقدي الفيلم على ما يفعله من “تسييس” لمشكلة اجتماعية لمصالح معينة، لكن ألم يتساءلوا عن “جذور” هذه المشكلة الممتدة لثلاثين عاما بعد مغادرة بطل الفيلم السعودية، ولمَ أضحت مشكلة اجتماعية في المقام الأول؟ أنا لا أتكلم هنا عن القانون أو غياب السلطة التشريعية، وإنما أتكلم عن مجتمعات يجري التمييز الطبقي والعرقي في أنسجتها، لا تمنح اعتبارا بشريا كاملا لجميع الأفراد، وبالتالي فإن هؤلاء الأفراد يعرفون أن لا قيمة لهم وأن جميع أقرانهم يُعاملون نفس المعاملة، فلا يفكرون باللجوء إلى القانون حتى لو كان سينصفهم، فهم يعلمون أن قيمة الإنسان في بعض المجتمعات ولدى بعض الأفراد تكمن في كتيب ملون اسمه الجنسية، وأن “الإنسان” لا يُعتبر إنسانا إلا بضوابط وشروط محددة.

ولعلني لن أعقّد الأمر وأستعير قصصا من واقع الحياة أو أشير إلى مظاهر التمييز التي تفضح انتهاكات مرعبة يعاني منها العمال الوافدون، لكن ما أقوله هو ما فضحته وفاة 6500 عامل من الهند وباكستان ونيبال وبنغلاديش وسريلانكا في قطر بعد فوزها باستضافة كأس العالم في العام 2022، من أصل 30 ألف عامل أجنبي تم استقدامهم للعمل على بناء سبعة ملاعب لاستضافة نهائيات كأس العالم بالإضافة إلى مطار جديد وشبكة مترو وسلسلة من الطرق وحوالي 100 فندق، وما فضحه أيضا مسلسل ورواية “ساق البامبو” لسعود السنعوسي، وللأسف مثل هذه الانتهاكات القائمة على الجنسية والعِرق لا تزال واسعة الانتشار، أكثر مما يود المنتقدون على مواقع التواصل الاجتماعي الاعتراف به مهما استخدموا أساليب الـ“ماذا عنيّة” كقول إن دولهم “على الأقل ليست فيها أسواق بيع وشراء العبيد”، أو إن هناك “نماذج جيدة لماذا يتم تغطيتها في الأفلام؟”، كلها عبارات لا تنتقص من الحقيقة التي يتناولها الفيلم، فبالطبع ليست هناك أسواق للعبيد في دول الخليج كنيجيريا وموريتانيا، وهناك نماذج متميزة يُحتذى بها للرجل السعودي، لكن كل ذلك لا يضيف أو ينتقص من الحقيقة.

◄ على الرغم من أن الكثيرين اعتبروا الفيلم أجندة مسيّسة لتشويه صورة العرب أو البدوي السعودي، إلا أنه يصوّر حالة شخص واحد بدليل وجود شخصيات هندية أخرى في نهاية الفيلم والتي تحظى بمعيشة لائقة

ولن أتطرق إلى الذين ينتقدون الفيلم ويصفونه بأنه يحاول وضع صورة نمطية سلبية للسعوديين، وفي الوقت ذاته تجد تفسير انتقادهم هو أن “السعودية أطيب شعب”! كيف ينتقدون الفيلم لأنه يفرض صورة نمطية وهم في الوقت نفسه يريدون وضع صورة نمطية أخرى؟ لماذا يرون أن الصورة النمطية السلبية مرفوضة لكن الإيجابية مقبولة؟ إن رفض التنميط يعني أنك ترفض حتى الصور النمطية الإيجابية، لأنك ترفض مبدأ التعميم وتوحيد مجموعة من البشر بصفات محددة فقط لأنهم ينتمون إلى نفس الدولة.

جميعنا نعلم أن هناك العديد من الآسيويين الذين يعيشون بأفضل حال في الدول التي يهاجرون إليها، ولا يتعرضون للتمييز مباشرة، ولا للعبودية الحديثة، لكن الوعي الاجتماعي حولهم يجعل منهم مجرد آلات للعمل، والأغلبية ترفض تقبلهم كبشر، وهو ما يؤثر على حياتهم الاجتماعية في المدارس وأماكن العمل والشوارع والتعاملات اليومية وفي الأماكن العامة، حتى إن كلمة “هندي” إلى يومنا هذا لا تزال مرادفة للجهل في تلك الدول، أو وصفا للرائحة الكريهة أو الغباء، وهذه هي ثمار تناقل المعتقدات والقاذورات الذهنية من جيل إلى آخر، ونتاج التنشئة الاجتماعية التعصبيّة للمجتمعات المتوالية، فتكون العادات والتقاليد ليست إرثا طيبا يجمع الناس على المحبة وإنما موروثات متعفنة تغذي العقول بالكراهية والعنصرية تجاه مجموعات محددة.

أنا لا أدعو إلى التصفيق لفيلم “حياة الماعز” واتخاذه مرجعا لفهم حياة المهاجرين في بعض الدول، وإنما أردت اتخاذه كانطلاقة للتأكيد على الحقيقة التي أحاول نقلها، وهي أن التمييز على أساس الجنسية أو الوظيفة أو الجنس أو العرق أو اللون أو الدين أو النسب هو نهج شائع في جميع أنحاء العالم، تماما كما أن الإنسانية والمساواة هي نهج الكثيرين أيضا، لكن المهم ألا يترك أي شخص عقله للمجتمع ليحشوه بالمعتقدات والصور النمطية التي تهدف فقط إلى جعله صورة طبق الأصل من “الإنسان” النموذجي وفق معايير المجتمع، ولا يسعني سوى أن أختتم حديثي بقول أبي العتاهية “نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية.. طفلُ الملوك هنا، كطفل الحاشية.. ونُغادر الدنيا ونحن كما ترى.. متشابهون على قبور حافية”.

9