إيمان خليف.. وحرب المعايير الجندرية السرمدية

أوقفنا جميعًا الجدل العالمي الحاصل حول الهوية الجنسية للملاكمة الجزائرية إيمان خليف، التي ظلت حبيسة زوبعة من الاتهامات الدولية شكّكت بأهليتها في المشاركة في وزن الويلتر (66 كيلوغراما) للسيدات بأولمبياد باريس، وربما ما أشعل هذه الادعاءات هو دخول عدد من الشخصيات العامة في قائمة المشككين في جنس إيمان؛ مثل أيلون ماسك ودونالد ترامب ورئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني ومؤلفة سلسلة هاري بوتر الشهيرة جي كي رولينغ وغيرهم.
وعلى الرغم من إصدار اللجنة الأولمبية الدولية لبيانٍ استنكرت فيه المعلومات المضللة حول جنس إيمان، إلا أننا لا نكاد نرى منشورًا واحدًا على مواقع التواصل الاجتماعي أو المنصات الإعلامية الإقليمية والدولية حول إيمان إلا ويتهم فيه الكثير من المعلّقين إيمان بأنها رجل أو امرأة متحولة جنسيًا، مستندين إلى “بنيتها الجسدية الضخمة” أو “دموع” الإيطالية أنجيلا كاريني التي انسحبت بعد 46 ثانية من مباراتها مع إيمان، ناهيك عن حجم الإساءات المتداولة عبر الإنترنت والكتّاب والرياضيين الذي يدعون إلى إعادة النظر في جنس إيمان وإجراء المزيد من الفحوصات اللازمة للتأكد من هويتها الجنسية.
إيمان خليف ليست سوى ضحية واحدة للمعايير المجنسنة من بين آلاف الضحايا يوميًا، من الولد الذي يُتهم أنه بنت لحبه للطبخ أو لاستخدامه منتجات عناية بالبشرة أو الشعر
يُشير الجنس إلى السمات البيولوجية والفسيولوجية التي تميز الرجال والنساء عادةً، مثل تكوين الأعضاء التناسلية والوظائف البيولوجية، أما النوع الاجتماعي، أو ما يُعرف بـ”الجندر” فيتجذر في الأعراف الاجتماعية لا في البيولوجيا، إذ أنه ينبع من التصورات المسبقة للمجتمعات المتعاقبة ومما يحدث عند مقارنة الرجال بالنساء، لذا فالجندر ليس مبنيًا على الاختيار أو التفضيل؛ الأمر أشبه بشبح يُلازم الإنسان مدى حياته ليخبره كيف يتصرف وفقًا لجنسه، ويجعله يميّز بين الخصائص والسمات “الذكورية” و”الأنثوية”.
وتعتبر الأدوار “الجندرية”، أي المستندة إلى المعايير والتوقعات الاجتماعية حول السلوك النموذجي للفرد وبني جنسه، وجهات نظر المجتمع السائدة إزاء الكيفية الصحيحة التي يجب أن يتصرف بها الرجال والنساء، فمثلًا من الشائع والمقبول مجتمعيًا أن “الرجال هم من يعملون في الوظائف الفنية والهندسية” و”النساء أكثر توجهًا نحو وظائف الرعاية والتمريض”، و”الرجال لا يبكون وأكثر عقلانية” بينما “النساء أكثر عاطفية ويملن إلى البكاء”، أو مثلًا “الرجل هو المعيل” و”المرأة يجب أن تضع الماكياج”، كلها مجموعة من الأدوار التي يريد المجتمع من الرجال والنساء تحمّلها والقيام بها دون تفكير.
وتتمثل القوالب النمطية الجندرية هذه في وجود أفكار متوارثة جهلًا حول الأشخاص بناءً على جنسهم، ومن الأمثلة على ذلك أن “النساء تحب النميمة” و”الرجال أفضل في الرياضيات من النساء”، وكل هذه الأدوار الجندرية التي وضعتها المجتمعات على مر الأزمنة مرتبطة ببعضها البعض، وتقوّي بعضها البعض، وإذا لم يتخلص الفرد من تأثير هذه الأدوار عليه فلن يستطيع الوصول إلى إمكاناته الكاملة الحقيقية.
وكما ذكرنا سابقًا، فإن الجندر هو من يحدد الأدوار لكل شخص ارتكازًا إلى جنسه، وهذه الصور النمطية والسمات التي تجسّد الهوية “الأنثوية”؛ مثل النعومة والجسد النحيف المليء بالمنحنيات والتعرجات ووضع الماكياج والعاطفة الزائدة والضعف، هي التي أسست للهجمات الاعتباطية غير المنطقية الهائلة ضد إيمان خليف التي اتهمتها بأنها رجل وطالبت باستبعادها عن بطولات السيدات، فالبنية الجسمية العريضة والطول والعضلات هي سمات “ذكورية” يحملها الرجال فقط وفقًا لمنظومة “المرأة الناعمة والرجل الخشن”، وبالتالي فإن أيّ شخص يحمل هذه الصفات هو – بدون تفكير – رجل، أو امرأة “مسترجلة” أو “بوية”، وغيرها من المصطلحات المشابهة الخالية من المنطق.
التنشئة الاجتماعية التي ينشأ عليها الإنسان هي عملية تعلم اجتماعي، يتعلم فيها الفرد أدواره الاجتماعية، فتتعلم الأنثى تلقائيًا أنها كائن رقيق وضعيف وتتصرف وفقًا لذلك طيلة حياتها
وربما تدفعنا هذه الجدليات للتساؤل، هل فعلًا يجب أن يكون جسد المرأة مسطحًا وناعمًا وجسد الرجل معضلًا وخشنًا؟ وهل توجد ملامح شكلية محددة يتمتع بها كل من الرجل والمرأة؟ وهل كون المرء رجلا أو امرأة يُحدد بشكل جسده وتصرفاته؟ والإجابة هي بالطبع لا، فكيف يمكن أن تُعمم مجموعة من الصفات على جنس بأكمله يندرج تحته مليارات البشر؟ الموضوع بسيط جدًا، إنها التنشئة الاجتماعية من تشكّل الإدراك والتصنيف اللاواعي لهذه السمات، فنرى الجميع يميل لرؤية المرأة أفضل في الطبخ والرجل أفضل في تصليح السيارات، على الرغم من أنها مهارات غير منتقلة جينيًا وإنما مكتسبة، وبالتالي فيُمكن لأيّ من الجنسين أن يبرع فيها، حسب شغفه وميوله وقدراته.
التنشئة الاجتماعية التي ينشأ عليها الإنسان هي عملية تعلم اجتماعي، يتعلم فيها الفرد عن طريق التفاعل الاجتماعي أدواره الاجتماعية، والمعايير والقيم الاجتماعية، ويكتسب الاتجاهات وأنماط السلوك التي يوافق عليها المجتمع، وهي عملية مستمرة تبدأ ببدء الحياة، ولا تنتهي إلا بانتهائها، فتتعلم الأنثى تلقائيًا أنها كائن رقيق وضعيف وتتصرف وفقًا لذلك طيلة حياتها، بينما يتعلم الذكر أنه كائن شجاع وصلب ويتصرف وفقًا لذلك طيلة حياته، وبالنسبة إلى عملية تكوّن هذا الفكر التمييزي والسلوكيات المبنية على الجنس فهي تبدأ منذ ولادة الإنسان، عندما يظهر تفاضل الجندر بالإعلان عن المولود ولدًا أو بنتًا، فيبدأ الأهل بالتعامل مع الطفل حسب نوع الجنس، فالأمهات والآباء يهملون ويتجاهلون التعابير العاطفية مع أبنائهم الذكور، ويعززون الشعور بالضعف وقلة الحيلة والرقة لدى بناتهم، ويربون ابنهم الولد على أنه قوي وجريء، بينما ابنتهم على أنها حساسة ولطيفة.
إن إيمان خليف هي ليست سوى ضحية واحدة للمعايير المجنسنة من بين آلاف الضحايا يوميًا، من الولد الذي يُتهم أنه بنت لحبه للطبخ أو لاستخدامه منتجات عناية بالبشرة أو الشعر، إلى البنت التي تُتهم أنها ولد لحبها للرياضات القتالية أو امتلاكها عضلات أو شعر قصير، ناهيك عن الإساءات الغزيرة التي تنهال على الأولاد الذين يتصرفون بليونة وعاطفة والبنات اللاتي يتصرفن بمنطقية وحزم، أو الأولاد المحبين لأفلام الرومانسية والبنات المحبات لأفلام الأكشن، لتستمر بذلك قواعد لعبة الجندر، وتخلق لنا مزيدًا من الأشخاص الذين لا يتصرفون بطبيعتهم وإنما بمحركات اجتماعية غير مرئية تحدد لهم كيفية التصرف والكلام والعمل، ومزيدًا من الذكور المتحكمين المستقلين والإناث المستضعفات التابعات، ومزيدًا من العلل الاجتماعية الناتجة عن توريث الأدوار القائمة على الجنس.