الشيخ خالد بن محمد.. وشجرة الصداقة المزدهرة بين الإمارات والهند

عندما غرس الشيخ زايد والشيخ محمد والشيخ خالد ثلاث شجرات في ساحة الحديقة في راج غات، هناك قبالة ضريح المهاتما غاندي، كانوا يرمزون إلى صداقة حقيقية تزداد مع الأيام توهجًا وازدهارًا.
الخميس 2024/09/12
لبنة جديدة في جدار عالٍ للعلاقات الموثوق بها

عندما قام الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، القائد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، في الرابع من يناير من العام 1975 بغرس شجرة الصداقة في ساحة الحديقة بمنطقة راج غات بالعاصمة الهندية، كان يؤسس لعلاقات استثنائية في أبعادها الإستراتيجية مع دولة كانت على مدى التاريخ شريكًا أساسيًا لشعوب جزيرة العرب والخليج في مختلف مجالات الحياة، ورافدًا مؤثرًا في البنية الثقافية والحضارية بدول المنطقة.

في 11 فبراير 2016، أي بعد 41 عامًا من مبادرة الشيخ زايد، غرس ابنه الشيخ محمد، من موقعه آنذاك كولي لعهد أبوظبي ونائب للقائد العام للقوات المسلحة، شجرة ثانية للصداقة في ذات الساحة، وأكد أن زيارة الوالد المؤسس التاريخية لجمهورية الهند عام 1975 كانت منطلقًا أساسيًا لكل ما شهدته العلاقات بين البلدين الصديقين من تطور وتقدم خلال العقود الماضية. كما شكلت زيارة رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1981 نقلة نوعية أخرى في مسار العلاقات بين البلدين الصديقين.

اختار الشيخ زايد والشيخ محمد غرس شجرتي الصداقة بما تحملانه من رمزية الحياة المزدهرة وخصوبة العلاقات بين البلدين، ومن إصرار على أن تستمر تلك العلاقات في النمو والاخضرار، وأن تحملا رسالة للأجيال القادمة مفادها أن روابط الصداقة بين الإمارات والهند تبقى عنوانًا لتعاون وتضامن متواصلين بما سبق في التاريخ من عراقة وما يلحق من شراكة إستراتيجية عميقة.

◄ الهند تعد أول دولة تعقد معها الإمارات شراكة اقتصادية شاملة في فبراير عام 2022، وهي الشراكة التي تأتي ضمن إستراتيجية الدولة لإبرام شراكات اقتصادية شاملة مع أهم الشركاء التجاريين

في التاسع من سبتمبر 2024، زار الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، ساحة الحديقة وسقى شجرتي الصداقة اللتين غرسهما جده ووالده، ليؤكد وصول الرسالة إلى قارئيها. فالشجرتان اليانعتان المزهرتان بالمعاني الإنسانية السامية والنبيلة، ستبقيان هناك بالقرب من ضريح المهاتما غاندي تشهدان على أصالة العلاقات ومتانة الروابط بين البلدين والشعبين. وقد ينطق الشجر بما يبلغ الحكمة إلى عقول البشر. في ختام الزيارة، دوَّن الشيخ خالد في سجلّ كبار الزوار أن ذكرى المهاتما غاندي ستبقى خالدة في قلوب أبناء وطنه وشعوب العالم بتضحياته التي أرست قيم المحبة والسلام، وهي القيم النبيلة والمبادئ السامية نفسها التي جسّدها الوالد المؤسِّس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بعطائه ونهجه الإنساني.

من أهم ما يجمع بين الهند والإمارات فلسفة السلام التي طالما آمن بها الشيخ زايد، وتحولت على يد الشيخ محمد إلى رؤية إستراتيجية تتشكل عبرها سياسة الدولة في تكريس مفاهيم البناء الثقافي والحضاري والنضال اليومي في سبيل عالم يسوده التسامح والتضامن، ويعتمد الحوار في حل مشاكله، ويدافع عن قيم السلام والمحبة، ويتخذ من مقولة المهاتما غاندي “لا يوجد طريق للسلام، السلام هو الطريق” منهجًا في إدارة العلاقات بين الأفراد والجماعات، كما بين الدول والشعوب والحضارات. وهو القائل ذات يوم من أمام ضريح زعيم الهند الكبير “ما أحوج العالم اليوم إلى المبادئ والقيم التي جسدها الراحل غاندي والتي ارتكزت على العدالة والسلام والمساواة ونبذ العنف”، و”هي ذاتها المبادئ السامية التي نؤمن بها في دولة الإمارات والتي غرسها فينا رجل عظيم هو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان”.

غرس الشيخ خالد شجرة الصداقة في منطقة راج غات ليكون صاحب مبادرة الجيل الثالث في تأكيد على أن مدرسة زايد محافظة على أصولها، وأن الشيخ محمد السائر على خطى والده كان جديرًا ليس فقط بحمل أمانة الحكم وإنما أمانة الفكرة وفلسفة البناء الحضاري وفق تجربة سياسية تحولت إلى مدرسة في الواقعية والاعتدال، وهو ما يجسده الشيخ خالد في النسج على منوال الجد والوالد بروح الشباب الطموح الذي تجذر في بيئته واتسعت به الرؤية لينفتح على العالم بروح الإضافة للحضارة الإنسانية.

شكلت زيارة الشيخ خالد بن محمد إلى الهند لبنة جديدة في جدار عالٍ للعلاقات الموثوق بها، وقد أشار خلالها إلى أهمية اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين في تحفيز وتيرة التنمية الاقتصادية الشاملة، وأكد حرص دولة الإمارات على مواصلة تطوير العلاقات الاقتصادية مع الهند، وتعزيز حركة التجارة الخارجية، وتسهيل الوصول إلى الأسواق الرئيسية، من خلال تبنّي منظومة اقتصادية داعمة للأعمال والاستثمار. كما شدد على أهمية اتفاقية الشراكة في تعزيز تعاون البلدين في القطاعات الحيوية المختلفة، بما يعكس تطلعات قيادة البلدين بدعم التعاون الإستراتيجي، ودفع عجلة مسيرة التنمية الاقتصادية المستدامة بين البلدين، وشهد تبادل عدد من اتفاقيات التعاون الإستراتيجي، وإطلاق مبادرات جديدة تهدف إلى تعزيز روابط العلاقات الاقتصادية المتينة بين البلدين الصديقين.

◄ هناك تقدير واحترام متبادلان بين البلدين، انطلاقًا من قراءة علمية وعملية للتاريخ والجغرافيا ومن وعي عميق بدور كل منهما في مسيرة المنجز الحضاري والعطاء الإنساني

كان واضحًا أن الشيخ خالد ينطلق في زيارته إلى الدولة الصديقة من رؤية والده الذي أكد في مناسبات عدة أن “جمهورية الهند بما لها من ثقل سياسي واقتصادي وبشري كبير تعد قوة إقليمية ودولية مؤثرة لها دورها المهم في قضايا الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي، وأن دولة الإمارات العربية المتحدة تتطلع إلى إسهامات هندية فاعلة في مواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه المنطقة والعالم وإيجاد حلول عادلة للمشكلات والأزمات والتوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل ما يميز سياسة الهند الخارجية من توازن وحكمة وما تتمتع به جمهورية الهند من قبول واسع سواء كان إقليميًا أو عالميًا”.

علينا أن نتذكر أن أكبر جالية أجنبية في دولة الإمارات هي الجالية الهندية بحوالي ثلاثة ملايين مقيم يشغلون حوالي 50 في المئة من سوق العقارات في الدولة، بما يشير إلى أن الإمارات ليست فقط بلدهم الثاني وإنما المؤثّر الإيجابي في حياة الملايين من الهنود الآخرين ممن يستفيدون مباشرة أو بشكل غير مباشر من تحويلات العمالة الهندية التي تبلغ سنويًا حوالي 13 مليار دولار أميركي. قال الشيخ محمد بن زايد “إن دولة الإمارات حكومة وشعبًا تقدر إسهامات الجالية الهندية في دولة الإمارات العربية المتحدة وما قامت به من دور مهم في المراحل المختلفة التي مرت بها عملية التنمية في دولة الإمارات وتثمّن دورها في تعميق الروابط الشعبية بين البلدين الصديقين وتمتين قاعدة المصالح المشتركة التي تفتح آفاقًا أرحب لمستقبل العلاقات الثنائية”.

أدى ذلك إلى المزيد من دعم علاقات الود القائمة بين البلدين، حتى أن الهند باتت تعد من الأسواق الخمسة الكبرى المصدرة للسياحة إلى الإمارات التي استقبلت ما يقارب خمسة ملايين سائح هندي خلال عام 2022 بزيادة قدرها 900 ألف زائر مقارنة بعام 2021، في ما تشهد حركة الطيران بين البلدين أكثر من 1800 رحلة شهريًا عبر الناقلات الوطنية الإماراتية. كما ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين ليصل إلى 85 مليار دولار بين عامي 2022 و2023. وتطور إجمالي التجارة الخارجية غير النفطية بينهما بنسبة 3.94 في المئة من 51.4 مليار دولار أميركي في عام 2022 إلى 53.4 مليار دولار في عام 2023، بينما بلغ إجمالي التدفقات الاستثمارية الإماراتية إلى الهند نحو 16.2 مليار دولار للفترة من 2019 إلى 2023 وخاصة في قطاعات تأمين المستقبل برؤية المئوية، وفي مقدمتها الطاقة المتجددة، والمعادن، والبرمجيات، وخدمات تكنولوجيا المعلومات، والمواد الكيميائية، وتصنيع المعدات الأصلية للسيارات، في حين بلغت استثمارات الهند في الإمارات 7.76 مليار دولار خلال الفترة ذاتها.

وأكدت زيارة الشيخ خالد إلى الهند على جملة من المعاني والرسائل المهمة من بينها:

◄ الشيخ زايد والشيخ محمد اختارا غرس شجرتي الصداقة بما تحملانه من رمزية الحياة المزدهرة وخصوبة العلاقات بين البلدين، ومن إصرار على أن تستمر تلك العلاقات في النمو والاخضرار

أولًا: هناك تقدير واحترام متبادلان بين البلدين، انطلاقًا من قراءة علمية وعملية للتاريخ والجغرافيا ومن وعي عميق بدور كل منهما في مسيرة المنجز الحضاري والعطاء الإنساني، وكذلك من تقارب واضح في نظرة قادة وزعماء البلدين إلى العلاقات بين الدول والشعوب واحترام ثقافات الأمم وتقبل الرأي العام والانطلاق في مخاطبة العالم بمفردات السلام والحوار والتضامن.

ثانيًا: إن العلاقات بين البلدين كانت لها أبعاد حيوية منذ آلاف السنين، وهي ليست وليدة اللحظة، ولكن ما حدث منذ منتصف السبعينات أن الشيخ زايد أعطاها إطارها السياسي الممنهج بأبعاد اقتصادية وثقافية وإنسانية تحولت إلى نموذج يُحتذى في مسارات العلاقات بين الدول. ثم جاء الشيخ محمد ليضيف إليها ترجمته الفعلية لفلسفة التضامن والسلام باحترام كامل لخصوصيات الجالية الهندية في بلاده، ولاسيما الجالية الهندوسية التي وجدت واحة أمان كامل تمارس فيها شعائرها وفق منظومة فكرية في بلد منفتح على ثقافات الشعوب بكل الاحترام للمقيم والزائر أو لمن يرنو عن بُعد لمجتمع إنساني لا يفرّق بين أبنائه مهما اختلفت الأعراق والألوان والألسنة والعقائد.

ثالثًا: تعد الهند أول دولة تعقد معها الإمارات شراكة اقتصادية شاملة في فبراير عام 2022، وهي الشراكة التي تأتي ضمن إستراتيجية الدولة لإبرام شراكات اقتصادية شاملة مع أهم الشركاء التجاريين، في ضوء “مشاريع الخمسين”. وقد شهدت زيارة الشيخ خالد إلى هذا البلد توقيع مجموعة من الاتفاقيات والشراكات الإستراتيجية بين جهات ومؤسسات إماراتية وهندية من القطاعين العام والخاص، تماشيًا مع أهداف وتوجهات تلك الاتفاقية، وهو ما تم اعتباره منطلقًا أساسيًا لمرحلة جديدة من علاقات الصداقة والتضامن والثقة المتبادلة.

عندما غرس الشيخ زايد والشيخ محمد والشيخ خالد ثلاث شجرات في ساحة الحديقة في راج غات، هناك قبالة ضريح المهاتما غاندي، كانوا يرمزون إلى صداقة حقيقية تزداد مع الأيام توهجًا وازدهارًا.

9