"رحلتي إلى هارفارد": استكشاف تجربة أكاديمية وإطلالة على مستقبل التعليم في الخليج

كتاب يستعرض تجربة أول إماراتي وخليجي ينال لقب "كبير الأكاديميين" في جامعة هارفارد الأميركية المرموقة.
الاثنين 2024/09/02
صرح عظيم

من أجمل لحظات هذا الصيف كانت لقاءاتي مع الأصدقاء الذين غابوا عني لفترة طويلة، وعلى رأسهم الصديق العزيز، البروفسور الإماراتي الخلوق عبدالخالق عبدالله. تبادلنا في اللقاء أحاديث متنوعة حول مواضيع مختلفة، خاصة ما تعلق منها بدولة الإمارات ودول الخليج والمنطقة. وأروع هدية تلقيتها كانت كتابه “رحلتي إلى هارفارد”، مرفقًا بإهداء لطيف بخط يده، وقد استمتعت بقراءته كاملاً هذا الصيف.

الكتاب يتكون من مقدمة وأربعة فصول، وأكثر ما جذب انتباهي في المقدمة هو أنها كتبت من قبل زوجة البروفسور عبدالخالق عبدالله، الدكتورة والزميلة من جامعة زايد ريما الصبّان، أو “أم خالد” كما أطلق عليها البروفسور في كتابه ورفيقة دربه. ما يميز هذه المقدمة هو الأسلوب الذي اعتمدته الكاتبة، حيث تحررت من قيود الكتابة الأكاديمية التقليدية، ما أضفى على النص شفافية وحيوية، وجعل القراءة تجربة ممتعة تجذب القارئ إلى فكر الكاتب بأسلوب جمالي رفيع.

أما الفصول الأربعة فهي: الفصل الأول يتناول سر تفوق هارفارد، الفصل الثاني يتحدث عن لحظة الخليج العربي والطلبة في هارفارد، الفصل الثالث يتناول أميركا وأزماتها الداخلية، والفصل الرابع والأخير يركز على بوسطن والتعليم العالي في أميركا، ويتبع ذلك الخاتمة. في مراجعتي للكتاب سأركز على الفصلين الثاني والثالث.

بعد استعراض كتاب "رحلتي إلى هارفارد"، يبرز السؤال: ما الذي نحتاجه لصناعة "هارفارد الخليج"؟
بعد استعراض كتاب "رحلتي إلى هارفارد"، يبرز السؤال: ما الذي نحتاجه لصناعة "هارفارد الخليج"؟

“رحلتي إلى هارفارد” هو أحدث كتب الدكتور عبدالخالق عبدالله، الصادر في عام 2024، ويستعرض تجربة أول إماراتي وخليجي ينال لقب “كبير الأكاديميين” في جامعة هارفارد. في هذا الكتاب يصحبنا الدكتور عبدالخالق عبدالله في رحلة مشوقة وغنية بالتفاصيل، حيث يروي كيف أثرت هذه التجربة البارزة في تشكيل فكره ورؤيته للعالم، خصوصًا في ما يتعلق بالسياسة والعلاقات الدولية. يسلط الكتاب الضوء على الدور الحاسم الذي يلعبه التعليم العالي في إعداد القادة والمفكرين، ويبين مدى التأثير العميق للبيئة الأكاديمية في هارفارد على الطلاب.الكتاب يتميز بأسلوبه السلس والجذاب، ما يجعله قراءة ممتعة لكل من يهتم بالتعليم العالي والسياسة أو المجتمع في الولايات المتحدة.

في الفصل الثاني تناول الكاتب الحديث عن الباحثة المساعدة، لورين، وهي طالبة متفوقة في العشرينات من عمرها، متخصصة في الدراسات الحكومية والعلاقات الدولية، مع تركيز خاص على السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط والتحولات الأمنية في المنطقة. تتميز لورين بإتقانها اللغات العربية والعبرية والفرنسية. كما استعرض الكاتب تصور الباحثة الشابة لبحث تخرجها الذي يحمل عنوانًا شيقًا وغير تقليدي: كيف ترى الإمارات نفسها اليوم؟ وكيف تنظر إلى مكانتها وسمعتها إقليميًا وعالميًا؟ وما الأدوات والسياسات التي تستخدمها لتعزيز سمعتها ومكانتها كقوة إقليمية صاعدة؟

تقول لورين في بحثها إن الإمارات في القرن الجديد تختلف تمامًا عما كانت عليه قبل خمسين عامًا. فهي اليوم قوة اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية، كما تغيرت نظرتها إلى نفسها وتغيرت صورتها في الإدراك العالمي. أكثر ما لفت انتباهي هو انطباعاتها عن زيارتها للإمارات، حيث ذكرت أن ما جذب اهتمامها لم يكن برج خليفة أو جامع الشيخ زايد أو متحف اللوفر أبوظبي أو متحف المستقبل، بل كان انشغال الإمارات بالمستقبل وكيف يعمل الجميع كفريق واحد لتحقيق برنامج وطني مستقبلي طموح.

من خلال تسليط الضوء على الباحثة الشابة تتضح لنا نوعية الطلبة الذين يتم قبولهم في جامعة هارفارد. فالتفوق العلمي ليس هو الشرط الوحيد للقبول، بل يلعب الطموح والشخصية وطريقة التحليل دورًا كبيرًا. إذا كانت لورين تمتلك هذا النشاط والتحليل في هذا السن، فما الذي يمكن أن نتوقعه منها بعد سنوات من تخرجها؟

ما لفت انتباهي في فصل “لحظة الخليج” هو قوة أسئلة الطلبة، التي أظهرت عمق اطلاعهم وقدرتهم على التحليل، وكذلك كانت إجابات الدكتور عبدالخالق عبدالله على هذه الأسئلة ثرية ومليئة بالمعلومات. من بين هذه الأسئلة كان هناك سؤال بارز: “إذا كانت دول الخليج العربي تقود الأمة العربية حتى إشعار آخر كما تقول، فهل لديها رؤية حضارية للمنطقة؟ وما هو مشروعها السياسي والحضاري لإخراج المنطقة من نفق التخلف التنموي والتمزق السياسي، وإعادتها إلى أمة تستحق احترام الأمم؟”.

كان رد الدكتور مقنعًا وواضحًا، حيث أوضح أن لحظة الخليج العربي تأتي كاستكمال لمشروع نهضوي عربي طال انتظاره ولم يتحقق على مدار المئة سنة الماضية.

وأشار إلى أن دول الخليج تسعى لتحقيق هدفين عاجلين: الأول هو إعادة الاستقرار إلى الوطن العربي الذي دخل في نفق الفوضى وفقد الحد الأدنى من استقراره في ظل ثورات الربيع العربي التي لم تحقق أيًا من شعاراتها. أما الهدف الثاني في المشروع الخليجي فيتعلق بإعادة الاعتدال السياسي والفكري إلى منطقة عربية اختطفتها قوى التشدد والتطرف والإرهاب. وبالتالي، فإن الاستقرار والاعتدال هما الركيزتان الأساسيتان في المشروع الحضاري والنهضوي الخليجي للسنوات القادمة.

أبرز ما أشار إليه البروفسور عبدالخالق عبدالله حول “لحظة الخليج” هو أنه لا يمكن فهم هذه اللحظة دون الإشارة إلى الزخم الإماراتي (The UAE Momentum) وظهور الإمارات كقوة إقليمية صاعدة، والتي سيتعزز ازدهارها مع نجاح رؤية السعودية 2030. كما أشار إلى دور كل من دبي والدوحة، حيث تمتلك كل منهما مشروعًا مختلفًا: دبي بمشروعها التنموي والمعرفي، والدوحة بمشروعها السياسي والإعلامي، ولكل مشروع حلفاؤه ومؤيدوه. ورغم تميز كل دولة ومدينة خليجية، فإن صعود إحداها لا يلغي دور الأخرى، بل إن نجاح أي منها يعزز قوة الأخرى، ما يجعل حل الاختلافات بين الدول الخليجية أمرًا ضروريًا لتعزيز هذه القوة الإقليمية الصاعدة. كما تناول البروفسور فكرة الانتقال من مفهوم الدولة الريعية، التي انتهت صلاحيتها، إلى مفهوم الدولة الخليجية الذي يعبر عن الواقع الجديد للخليج العربي.

ومن أبرز ما تناوله الكاتب في هذا الفصل هو الحاجة الملحة لوجود نخبة أكاديمية خليجية تعمل على تطوير نظرية مستمدة من الواقع الخليجي. وقد تساءل الكاتب: هل حان الوقت لكي تتبنى جهة بحثية خليجية تأسيس منتدى أكاديمي يجمع الباحثين الخليجيين بهدف تطوير نظرية خليجية تشرح وتحلل بروز وتطور الدولة الخليجية؟ كيف يمكن أن يكون الخليج متطورًا ويعيش لحظته الراهنة دون وجود مجموعة أكاديمية خليجية تعمل على تطوير إطار نظري يستوعب هذه اللحظة الاستثنائية، من خلال منتدى أكاديمي أو مركز فكري للدراسات الخليجية؟

الفصل الثالث من الكتاب يتناول الولايات المتحدة وأزماتها الداخلية، وكان لهذا الفصل تأثير كبير عليّ، حيث عبّر الكاتب بدقة عما أراه أمام عيني الآن، رغم محاولاتي لتجاهله وإقناع نفسي بأنه مجرد عارض عابر، لكنه في الواقع ليس كذلك. الولايات المتحدة اليوم تختلف عن الولايات المتحدة التي وُلدت وترعرعت فيها؛ فقد شهدنا تراجعًا ملحوظًا في التلاحم المجتمعي. الولايات المتحدة، التي كانت تُعرف بدولة الأحلام، أصبحت اليوم غارقة في انقساماتها السياسية والاجتماعية. حتى الانتماء الحزبي تحول إلى نوع من العصبية القبلية، وليس مجرد انتماء سياسي؛ كما وضّح الكاتب من خلال مثال الأميركي من أصل لاتيني الذي يصوّت لأي مرشح من الحزب الديمقراطي حتى لو كان شيطانًا، بينما الأميركي من أصل أوروبي يتعصب للتصويت للجمهوريين حتى لو كان المرشح الديمقراطي ملاكًا أو قديسًا.

لكنني أختلف قليلاً مع الكاتب في نقطة واحدة، وهي أن هذا الانقسام ليس مجرد صراع بين الولايات المتحدة السمراء والولايات المتحدة البيضاء، بل هو صراع بين الولايات المتحدة التقليدية المحافظة، التي تأسست على القيم التي وضعها الآباء المؤسسون والمستمدة من الإنجيل والمدونة في الدستور، والولايات المتحدة الليبرالية التي اتجهت نحو أيديولوجيات يسارية تعارض أي توجه ديني وتعتبر القيم التي أسسها المؤسسون عنصرية. لهذا السبب، نشأت أزمة ثقة عميقة بين الطرفين. فالخلافات بينهما ليست مقتصرة على قضية أو اثنتين، بل تتعلق بأسس الدولة نفسها. وكما أشار الكاتب، فإن هذا الصراع يتعلق بهوية الولايات المتحدة وماهيتها، ولا توجد أرضية مشتركة بين الطرفين؛ فما يفرق بينهما يفوق بكثير ما يوحدهما. وقد تصاعد هذا الانقسام ليصبح أشبه بحرب باردة داخلية، تتفاقم مع حملات التخوين والكراهية التي نراها في الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي.

الإمارات في القرن الجديد تختلف تمامًا عما كانت عليه قبل خمسين عامًا. فهي اليوم قوة اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية، كما تغيرت نظرتها إلى نفسها وتغيرت صورتها في الإدراك العالمي

وعلى الرغم من أسلوب الكاتب السلس إلا أنه حرص على تقديم النموذج الأكاديمي بشكل يجمع بين البساطة والدقة، معتمدًا على أرقام وإحصاءات مهمة في عدة نقاط، وخاصة في تناوله لأزمات أميركا الداخلية. من بين هذه الأزمات يبرز اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث يزداد أغنياء الولايات المتحدة ثراءً، بينما يزداد فقراؤها فقراً بمعدلات غير مسبوقة. البيانات الرسمية تشير إلى تجاوز عدد الفقراء 30 مليون شخص في عام 2020، بينما بلغ عدد المشردين على الطرقات 8 ملايين. كما تعاني الولايات المتحدة من تراجع في مؤشرات الصحة والتعليم والتنمية البشرية، وأيضًا في مؤشر الديمقراطية. إضافة إلى ذلك سجلت الولايات المتحدة أكبر عجز في الميزان التجاري بلغ 678 مليار دولار في عام 2020، وبلغ إجمالي ديونها المتراكمة 32 تريليون دولار في سنة 2023.

يرافق التراجع في المؤشرات التنموية ارتفاع في استهلاك الكحوليات والطلاق والاغتصاب والإدمان على المخدرات، وبلغ عدد السجناء 2.2 مليون سجين في بداية عام 2020، وهو أكبر عدد للسجناء في العالم. كما ارتفعت معدلات الجريمة، حيث سجلت حوالي 100 ألف حالة اغتصاب في عام 2019. نتيجة لهذه القضايا تركز اهتمامات الناخب الأميركي بشكل رئيسي على الاقتصاد بنسبة 36 في المئة، يليه موضوع الهجرة غير الشرعية التي يُنظر إليها كسبب رئيسي للعنف بنسبة 29 في المئة، ثم البطالة بنسبة 28 في المئة. ورغم كل هذا التراجع تظل الولايات المتحدة القوة الأقوى في العالم، فهي أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وتقنية، ومازالت البلد الوحيد القادر على قيادة العالم، وهو قدرها. لذلك يتابع العالم الانتخابات الأميركية عن كثب، لأن نتائجها تحدد ملامح السياسات العالمية.

بعد استعراض كتاب “رحلتي إلى هارفارد”، يبرز السؤال: ما الذي نحتاجه لصناعة “هارفارد الخليج”؟ من وجهة نظري، لتحقيق هذا الحلم يجب تنفيذ المبادرة التي ذكرها الكاتب بخصوص تأسيس منتدى أكاديمي يجمع الباحثين الخليجيين. ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أهمية إنشاء عدة منتديات ومراكز فكرية للدراسات الخليجية في دول الخليج، وأن تكون هذه المراكز والمنتديات مزودة بفروع في الجامعات لتحويلها إلى جامعات بحثية حقيقية. من خلال ذلك سيتمكن الأكاديميون والباحثون من الإبداع، وسينضج تفكير الطلبة من المستوى المدرسي إلى المستوى البحثي والتحليلي لإعداد قادة ومفكرين. ستبقى الولايات المتحدة، وخاصة هارفارد، نموذجًا يحتذى به في مجال التعليم، وتمثل رمزًا للعبقرية الأكاديمية.

7