مستقبل العلاقات الأميركية - الصينية: التحديات والتطلعات في ظل الانتخابات الأميركية

من أكثر الأسئلة التي تثير اهتمام الكثيرين في مجال العلاقات الدولية هو مستقبل العلاقات الأميركية – الصينية، خاصة في ظل الانتخابات الحاسمة التي تمر بها الولايات المتحدة. الأنظار تتجه نحو الرئيس المنتخب الجديد وإدارته، وتثار تساؤلات حول ما إذا كانت شخصية الرئيس أو إدارته وحزبه سيكون لهم تأثير على مستقبل هذه العلاقات.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أصبحت مجتمعًا منقسمًا بشكل حاد على جميع الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، حيث يختلف الأميركيون حول العديد من القضايا، إلا أنهم يتفقون جميعًا على هدف واحد يوحدهم وهو “إيقاف الصين”.
ويعتقد المحللون أن هذا الهدف سيظل ثابتًا بغض النظر عمن يتولى الرئاسة، لأنه جزء لا يتجزأ من النهج المؤسسي والمجتمعي الأميركي. ومع ذلك، يمكن أن تأتي الانتخابات بتغييرات كبيرة. فإذا فاز الرئيس السابق دونالد ترامب، فإن طبيعته غير المتوقعة قد تؤدي إما إلى استمرار نفس الموقف تجاه الصين أو تبني نهج مختلف، قد يكون للأفضل أو للأسوأ.
◄ على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسات أكثر حكمة وتعاونًا مع الصين، مع معالجة انقساماتها الداخلية، والعودة إلى القيم التي كانت تميزها
في كتابه “هل فازت الصين؟” يشير الدبلوماسي السنغافوري والمستشار الجيوسياسي كيشور محبوباني، الذي شغل منصب الممثل الدائم لسنغافورة لدى الأمم المتحدة من 1984 إلى 1989، ومرة أخرى بين عامي 1998 و 2004، إلى أن العالم يشهد حاليًا منافسة جيوسياسية حادة بين الولايات المتحدة والصين. ويلاحظ محبوباني أن الولايات المتحدة تخوض هذه المنافسة، التي أطلقتها، دون إستراتيجية واضحة أو أهداف محددة.
ومن غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة تسعى لوقف تنمية الصين، وهو هدف يكاد يكون مستحيلًا، أم تهدف إلى الإطاحة بالحزب الشيوعي، وهو هدف صعب المنال، أم تحاول عزل الصين على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفييتي، وهو هدف غير واقعي في ظل الاعتماد العالمي الكبير على التجارة مع الصين، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها.
ومع ذلك، ما هو مؤكد هو أن الولايات المتحدة مصممة على عدم السماح للاقتصاد الصيني بتجاوز اقتصادها، وتسعى جاهدة للبقاء في قمة الاقتصاد العالمي والحفاظ على مكانتها كرقم واحد عالميًا.
على النقيض من ذلك، تتبنى الصين إستراتيجية واضحة تركز على الحفاظ على اقتصاد قوي ومجتمع متماسك. فقد استفادت كثيرًا من أخطاء الاتحاد السوفييتي، حيث لم تكن الضغوطات الخارجية والعسكرية هي التي أطاحت بالسوفييت، بل كان تفكك المجتمع وانهيار الاقتصاد. لذلك، تعمل الصين على تعزيز اقتصادها من خلال جعل جيرانها يعتمدون عليه، والحفاظ على مجتمع موحد ومتعلم. هذه الوحدة المجتمعية تمنح الصين أفضلية على المجتمع الأميركي المنقسم.
لكن محبوباني يرى أن الصين ارتكبت خطأ إستراتيجيا فادحًا عندما نفّرت مجتمع الأعمال الأميركي، جزئيًا من خلال فرض نقل الملكية الفكرية وسرقتها، والاختراقات الإلكترونية، وعدم الالتزام بالاتفاقيات، معتقدة أن ذلك يمثل فرصة إستراتيجية لها. ونتيجة لذلك، وعلى عكس الماضي، لم يدعم مجتمع الأعمال الأميركي الصين عندما بدأ دونالد ترامب حربه التجارية.
ويرى محبوباني أنه لكي تنتصر الولايات المتحدة في هذه المنافسة، يجب عليها معالجة انقساماتها الداخلية وأن تعيد النظر في مفهومها للاستثنائية والتفوق الأميركي، الذي يعتقد أنه لم يعد صالحاً. ويزعم أن أميركا المعاصرة تشبه حكم الأثرياء (plutocracy) الجامد وغير المرن، وليس الديمقراطية القائمة على الجدارة. فعلى مدى الثلاثين عامًا الماضية، شهد أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة انحدارًا في مستويات معيشتهم. وعلى النقيض من ذلك، كانت نفس الفترة هي الأفضل للشعب الصيني، مع انخفاض كبير في معدلات الفقر وإمكانية غير مسبوقة للوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والسفر إلى الخارج.
ونظرًا إلى هذه الظروف، يتساءل محبوباني كيف يمكن للأميركيين أن يصروا على تخلي الشعب الصيني عن الحزب الشيوعي. وينتقد الولايات المتحدة لأنها تتفاوض مع الصين ودول أخرى ذات أنظمة مختلفة من موقف الغطرسة، مدعية أن نظامها متفوق.
ووفقًا لمحبوباني، فإن موقف أميركا تجاه الصين مدفوع أكثر بالخوف العاطفي من “الخطر الأصفر” وليس بالإيمان الحقيقي بـ”افتراض الفضيلة”.
وبالنظر إلى التحديات الداخلية التي تواجهها، ينبغي على الولايات المتحدة وضع إستراتيجية أكثر حكمة تشمل التعاون مع الصين لإنشاء نظام عالمي يتسع للقوتين الكبريين. ولتحقيق هذا الهدف، تتعين عودة الأصوات المعتدلة في كل الأحزاب السياسية والحد من التطرف سواء من اليمين أو اليسار.
وفي التعامل مع الصين، أوصى محبوباني الولايات المتحدة بتعزيز النظام الدولي المتعدد أو ثنائي الأطراف القائم على القواعد، تماما كما تفعل الصين التي تستفيد من هذا النظام وتدعمه.
هذا النهج قد اقترحه رؤساء أميركيون سابقون مثل بيل كلينتون، الذي سبق واقترح أنه في حالة فقدان الولايات المتحدة لمكانتها الرائدة، ينبغي عليها التركيز على بناء مؤسسات دولية متعددة الأطراف والدبلوماسية الجماعية، واتخاذ تدابير مشابهة.
كما ينبغي للولايات المتحدة أن تأخذ بنصيحة المسؤولين السابقين ذوي الخبرة بالمنافسات في أوقات الحروب الباردة، مثل جورج كينان، الذي كان سفير أميركا السابق لروسيا ويوغوسلافيا خلال تلك الفترة.
◄ الصين تعمل على تعزيز اقتصادها من خلال جعل جيرانها يعتمدون عليه، والحفاظ على مجتمع موحد ومتعلم. هذه الوحدة المجتمعية تمنح الصين أفضلية على المجتمع الأميركي المنقسم
فقد نصح كينان أميركا بأن تحافظ على حيويتها الروحية على المستوى المحلي، وأن تنمّي الصداقات على المستوى العالمي، وأن تمتنع عن إهانة خصومها، وأن تحافظ على التواضع. ويتعين على الولايات المتحدة أن تسعى إلى محاكاة نهجها السابق: المرونة واللين والعقلانية في اتخاذ القرارات، وتجنب الجمود وعدم المرونة والمواقف العقائدية.
من كل ما سبق، نستنتج أن الهدف الذي ينادي به العديد من المسؤولين الأميركيين والمجتمع الأميركي، “أوقفوا الصين”، يبدو صعب التحقيق وغير فعال.
بالتالي، على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسات أكثر حكمة وتعاونًا مع الصين، مع معالجة انقساماتها الداخلية، والعودة إلى القيم التي كانت تميزها، مثل المرونة والعقلانية. كما يُنصح بالاستماع إلى أصوات الخبراء الذين يشددون على أهمية عدم الغطرسة في التعامل مع الخصوم والحلفاء في السياسة الخارجية، وكذلك تعزيز بناء نظام دولي متعدد الأطراف.
وحتى لو انزلق الاقتصاد الأميركي إلى المرتبة الثانية عالميًا، فإن الولايات المتحدة ما زالت قادرة على الحفاظ على نفوذها العالمي بفضل القوة العسكرية والنفوذ الثقافي والإعلامي، وأيضًا النفوذ الاقتصادي، خاصةً بدور الدولار الأميركي المهم في النظام المالي العالمي. في النهاية، سيكون تحقيق التوازن والتعاون بين القوتين الكبريين أمرًا حاسمًا لبناء نظام عالمي يتسع لهما ويعزز السلام والاستقرار الدولي. وعلى حلفاء هاتين القوتين تشجيع تبني نهج إستراتيجي أكثر فعالية يعود بالفائدة على البلدين والمجتمع الدولي بدلاً من المنافسة المدمرة.