بين تونس وبغداد

العلاقات بين تونس والعراق لا تزال إلى اليوم، ورغم بعد المسافة، تنضح بالإخاء والصفاء والنقاء.
الأحد 2024/09/01
علاقات تاريخية

خلال حفل استقبال انتظم بقصر الرئاسة بقرطاج في 28 أغسطس 2024، أهدى الرئيس التونسي قيس سعيد إلى رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني لوحة خُطت عليها أبيات للشاعر العراقي معروف الرصافي، يقول طالعها «أ تونس إن في بغداد قوماً/ تَرِفّ قلوبهم لكِ بالوِداد/ ويجمعهم وإياك انتساب/ إلى مَن خصّ منطقهم بضاد»، وفيها تأكيد على عمق العلاقات التاريخية والحضارة والثقافية بين البلدين الشقيقين، وتعبير عن مدى المحبة التي تجمع بين الشعبين، والتي لا تزال إلى اليوم، ورغم بعد المسافة، تنضح بالإخاء والصفاء والنقاء «فنحن على الحقيقة أهل قُربى/ وأن قضت السياسة بالبِعاد/ وما ضَرَّ البعاد إذا تدانت/ أواصر من لسان واعتقاد”.

أنشدت القصيدة في حفلة التأهيل والترحيب بالزعيم التونسي الكبير عبدالعزيز الثعالبي، عند حلوله ببغداد سنة 1925، بعد رحلة طويلة قادته أولا إلى مصر ثم إلى اليمن حيث التقى فيها بالإمام يحيى حميد الدين وتنقل بين المدن والتقى بمشايخها وسلاطينها وزار عدن، ومنها اتجه إلى الهند بدعوة من جمعية العلماء، وهناك قضى ثلاثة أشهر متنقلا بين المدن، كما اجتمع مع كبار الساسة ومن بينهم المهاتما غاندي الذي كان يتزعم حركة الاستقلال وشوكت علي الذي كان يتزعم حركة الخلافة وشعيب قرش وغيرهم، ومن هناك عاد إلى إمارات الخليج المتصالحة وقام بجولة شملت مسقط ودبي والبحرين والكويت حيث جرى استقباله بحفاوة بالغة من قبل الأوساط السياسية والثقافية، وفي 14 يوليو 1925 وصل إلى بغداد التي رحب بها أهلها، وكان من آيات ذلك الترحيب قصيدة الرصافي التي خاطب فيها تونس بالتبجيل والاحترام وذكر روابط الأخوة والمحبة: «لنا بثعالبِيّك خير مُلقٍ/ على أشتاتنا حبل اتّحاد/ وأكبر حامل بيد اعتزام/ لحُب بلاده عَلَم التَفادي/ وأسمَى من سما أدباً وعلماً /وأفصح من تكلّم عن سَداد”.

كما أعرب الرصافي عن قناعة رسخت بين مجايلي الثعالبي الذي كان يعتبرونه أفضل خطيب عربي عرفه القرن العشرون: «دع القول المريب وقائليه/ وسل عنه المنابر والنوادي/ تَجِدْهُ خطيبها في كلّ خطبٍ/ومِدْرَهَها لدى كل احتشاد/ فتى صَرُحت عزائمه وجَلَّت/ عن الرَوَغان في طلب المُراد /تَغَرَّب ضارباً في الأرضِ يبغي/ مَدىً من دونه خرط القتاد”.

والعلاقة بين الرجلين سبقت وصول الثعالبي إلى بغداد، كانت لهما لقاءات في إسطنبول قبل سقوط الخلافة، وهما وإن اختلفا في عدد من القضايا الفكرية والسياسية إلا أن حبل المودة بينهما لم ينقطع، وقد عبّر الشاعر عن ذلك بقوة في قصيدته البليغة التي استعادتها ذاكرة الرئيس التونسي لدى استقباله رئيس الحكومة العراقية .

ومما يذكر أن الشيخ الثعالبي دعي إلى بغداد للتدريس في جامعة آل البيت، التي أسسها الملك فيصل الأول، وكانت قبلة النخبة العراقية في ذلك الزمن، وقد زاول فيها تدريس الفلسفة الإسلامية إلى حين إغلاقها من قبل الإنجليز سنة 1930، كما كانت له مساهمات مهمة في الصحف العراقية، وكانت له ندوة يديرها في بغداد القديمة بحضور عدد من أبرز الساسة والأدباء والشعراء والكتاب العراقيين مثل الزعيم السياسي ياسين باشا الهاشمي والعلامة محمد بهجت الأثري والأستاذ الكبير فهمي المدرس و الشاعرين معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي .

كما كان الملك فيصل الأول كثيرا ما يدعو الثعالبي إلى مجالسه للاستئناس بآرائه ومواقفه، إلى أن غادر بغداد في العام 1930، أي بعد أن أقام فيها لمدة خمس سنوات، ومنها عاد إلى مصر ثم سافر إلى الصين، وسنغافورة وبورما والهند والكويت ثم عاد إلى القاهرة في سياق تجربته السياسية والثقافية التي تميزت بفرادتها وثرائها وكان لها أثرها الكبير في التعريف بتونس وقضيتها في المشرق العربي، والتي لا تزال تحتاج إلى جهد الباحثين والمحققين لتقديمها إلى الأجيال الجديدة .

18