الخصائص البشرية للأجهزة الذكية تعمق العزلة الاجتماعية

عمالقة التكنولوجيا يحذرون من التعلق بالذكاء الاصطناعي والانفضاض عن البشر.
الجمعة 2024/08/16
سيلفي مع كوب القهوة

في العصر الرقمي الذي نعيش فيه أصبحت الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وبينما ساهمت هذه التكنولوجيا في تقديم العديد من الفوائد إلا أنها أثرت بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية وبوصول الذكاء الاصطناعي أصبحت التكنولوجيا مصدر تهديد للتفاعل بين البشر.

تونس - يخرج سكان العاصمة مساء من المنازل هربا من درجات حرارة تجاوزت الأربعين، ويتوجهون إلى مناطق قريبة من البحر، أو الحدائق العامة مسلحين ومسلحات بهواتف ذكية، وسرعان ما يغرق الجميع في عالم رقمي افتراضي ناسين وجود مرافقين من حولهم، ويتحولون إلى مجموعة من الأجساد المتحركة تحمل هواتف محمولة كأنها أجهزة تنفس اصطناعي. كل واحد غارق في عالمه الرقمي، يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، يلتقط صورا لكوب قهوة لم يتذوقه بعد، أو يرسل رسائل نصية لأشخاص ليسوا موجودين.

كم مرة قابلتم هذا المشهد: أحمد يلتقط صورة سيلفي مع كوب القهوة، ويكتب تعليقا “أستمتع بوقتي مع الأصدقاء!”، بينما في الواقع لم يرفع رأسه لينظر في وجوه أصدقائه منذ وصوله. إلى جانبه، تجلس ليلى، تضحك بصوت عال وهي تتابع فيديو شاهدته على يوتيوب، دون أن تشارك الطرفة التي أضحكتها مع أحد. أما خالد، فهو مشغول بالرد على رسائل العمل، متجاهلا تماما الحديث الذي يدور حوله.

كل واحد منهم يعيش في فقاعة رقمية، متناسيا أن هناك أشخاصا حقيقيين يجلسون بجانبه. حتى هؤلاء يسيرون بتمهل على الرصيف، إما تجدهم مستغرقين في التقاط الصور، أو كتابة رسائل على الهاتف.

الجميع يتحدثون عن أهمية "اللحظة" و"الاستمتاع بالحياة" لكنهم يفعلون ذلك عبر شاشات هواتفهم
الجميع يتحدثون عن أهمية "اللحظة" و"الاستمتاع بالحياة" لكنهم يفعلون ذلك عبر شاشات هواتفهم

والطريف في الأمر أن الجميع يتحدثون عن أهمية “اللحظة” و”الاستمتاع بالحياة”، لكنهم يفعلون ذلك عبر شاشات هواتفهم. حتى عندما يقرر أحدهم أن يلتقط صورة جماعية، يضطر الجميع إلى النظر إلى الكاميرا لبضع ثوان، ثم يعودون بسرعة إلى هواتفهم، وكأنهم يخشون أن يفوتهم شيء مهم في العالم الافتراضي.

وفي نهاية الجلسة، يغادرون المقهى وهم يشعرون بالرضا عن “الوقت الممتع” الذي قضوه معا! لكن الحقيقة أنهم لم يتواصلوا فعليا، ولم يتبادلوا الأحاديث، ولم يضحكوا معا. لقد كانوا مجرد مجموعة من الأفراد جلسوا بجانب بعضهم البعض، لكنهم ظلوا بعيدين كل البعد عن التواصل الحقيقي.

لا حاجة إلى التأكيد على أن هذا سيناريو واقعي يحدث كل يوم، والمشهد أصبح مألوفا في كل مكان، ليس فقط بعد انتشار الذكاء الاصطناعي، بل قبل ذلك بكثير. إلا أن الظاهرة أخذت أبعادا جديدة بعد روبوتات انتشار الدردشة، وهو ما دفع شركة “أوبن أي.آي” التي طرحت أول تطبيق للدردشة إلى التحذير من التعلق بالذكاء الاصطناعي على حساب العلاقات البشرية، وتزامن التحذير مع إعلان غوغل عن طرح أجهزة موبايل في الأسواق أشد ذكاء من كل ما جاء قبلها.

ولمن يقول إن في هذا الحديث مبالغة، نسوق المخاوف التي أبدتها أوبن أي.آي، المطور لنموذج “تشات جي.بي.تي”، حيث أعربت عن قلقها من إمكانية تسبب الصوت الواقعي المتطور المرفق ببرنامج الذكاء الاصطناعي في تعزيز التعلق بالتفاعلات الآلية، ما قد يؤثر سلبا على العلاقات الإنسانية.

وقد يضع المستخدمون ثقتهم غير المبررة في البرامج الآلية، خاصة مع الجودة العالية للصوت. وأكدت الشركة في تقريرها أن تقنيات التشبيه بالإنسان، التي تضفي خصائص بشرية على الكيانات غير البشرية مثل نماذج الذكاء الاصطناعي، قد تعزز هذا الخطر.

هذه التفاعلات قد تجعل المستخدمين أقل ميلا للتواصل مع البشر، لينعكس بالتالي تأثيرها على المعايير الاجتماعية. كما أن القدرة على تذكر التفاصيل أثناء المحادثة وإنجاز المهام قد تجعل الناس يعتمدون بشكل مفرط على التكنولوجيا.

وقالت الشركة إنها لاحظت أن المستخدمين يتحدثون إلى الذكاء الاصطناعي بطرق تشير إلى روابط مشتركة، مثل التذمر بصوت عال أمام البرنامج الآلي أو المديح المبالغ فيه. المخاوف التي أبدتها أوبن أي.آي، وسبقها إليها خبراء عديدون في هذا المجال لم توقف مساعي عمالقة تصنيع الهواتف الذكية إلى التنافس. وكان آخر ما كشف عنه إعلان عملاق التكنولوجيا غوغل الثلاثاء تشكيلة جديدة من هاتفها الذكي “بيكسل” تعزز فيها الاعتماد على أدواتها للذكاء الاصطناعي.

وبكشفها عن المجموعة الجديدة كسرت غوغل تقليدا حافظت عليه في جميع إصدارات بيكسل، الذي كانت قد طرحت أول نماذجه في أكتوبر – تشرين الأول 2016، وهو الانتظار للإعلان عن منتجاتها الجديدة خلال فصل الخريف.

التسرع هذا العام من قبل الشركة في الكشف عن الطراز الجديد من بيكسل جاء حسب تحليلات خبراء، محاولة من غوغل لمواكبة المنافسين في دمج ميزات الذكاء الاصطناعي في منتجاتها الموجهة للمستهلكين، خصوصا، عملاق التكنولوجيا أبل التي تخطط لإطلاق نموذج جديد من آيفون خلال شهر سبتمبر – أيلول القادم.

لا شك في أن الأجهزة الذكية المتطورة تجعل الحياة أسهل، ولكنها أيضا تزيد من اعتمادنا على التكنولوجيا. هذا الاعتماد يمكن أن يقلل من الحاجة إلى التفاعل البشري ويزيد من العزلة الاجتماعية

وكانت أبل أعلنت في يونيو – حزيران عن عزمها إدخال تحديثات على أجهزتها، ومنها أحدث إصدار من هواتف آيفون “أبل إنتليجنس”، وهي مجموعة من الميزات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي التوليدي داخل التطبيقات الأصلية، فضلا عن تزويدها بتطبيق تشات جي.بي.تي، وهو برنامج الدردشة الآلي الذي طورته أوبن أي.آي.

وعلى الرغم من أن الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي سهلت التواصل الفوري، إلا أن هذا التواصل غالبا ما يكون سطحيا. فالرسائل النصية والتعليقات القصيرة لا تعوض عن التفاعل الشخصي العميق الذي يحدث وجها لوجه.

والاستخدام المفرط لهذه الهواتف يمكن أن يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. وقد لوحظ ميل عند البعض للبقاء داخل المنزل والتفاعل عبر الإنترنت بدلا من الخروج والتفاعل مع الآخرين في الحياة الواقعية.

هذا إلى جانب تشتيت الانتباه. وهنا أعتقد أننا جميعا صادفنا موقفا تحدثنا فيه إلى شخص ما، لنكتشف أنه لم يصغ إلى حديثنا، ويطلب إعادة الكلام، وذلك بسبب ظاهرة آخذة بالانتشار يشار إليها بتشتت الانتباه، حيث يجد الأشخاص صعوبة في التركيز على المحادثات الحقيقية عندما يكونون مشغولين بتفقد هواتفهم باستمرار.

وهناك خطر آخر ينبه له خبراء الاجتماع، يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي وهو خلق بيئة من المقارنة المستمرة، حيث يميل الأشخاص إلى مقارنة حياتهم بحياة الآخرين التي يرونها على الإنترنت، مما يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالغيرة وعدم الرضا.

ويخشى الخبراء أن يصبح التفاعل مع الأجهزة الذكية بديلا للتفاعل البشري مع تطور الذكاء الاصطناعي المستمر، حيث يفضل الأشخاص التحدث إلى مساعدي الذكاء الاصطناعي بدلا من التفاعل مع البشر.

لا شك في أن الأجهزة الذكية المتطورة تجعل الحياة أسهل، ولكنها أيضا تزيد من اعتمادنا على التكنولوجيا. هذا الاعتماد يمكن أن يقلل من الحاجة إلى التفاعل البشري ويزيد من العزلة الاجتماعية.

وهناك عامل آخر لم ننتبه إليه، وهو تنامي المخاوف بشأن الخصوصية. ليصبح الأشخاص أكثر حذرا في التفاعل مع الآخرين عبر الإنترنت، مما يمكن أن يقلل من التواصل الاجتماعي.

ll

نحن نعلم أن لا تراجع عما حدث من تطورات، فهل من سبيل لتلافي ذلك مستقبلا؟ وهل خسرنا المعركة؟ على الرغم من التحديات الكبيرة التي تفرضها التكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية، إلا أن المعركة لم تُخسر بعد. يمكننا اتخاذ خطوات فعالة لتقليل التأثيرات السلبية للتكنولوجيا وتعزيز العلاقات الاجتماعية.

أولى هذه الخطوات، ضرورة إيجاد توازن بين الحياة الرقمية والواقع الحقيقي. من المهم تحقيق توازن بين الوقت الذي نقضيه ونحن نتصفح الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي، والوقت الذي نقضيه في التفاعل الشخصي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تحديد وقت محدد لاستخدام التكنولوجيا والالتزام به.

ثاني هذه الخطوات، تعزيز التفاعل الشخصي. يجب أن نسعى لتعزيز التفاعل الشخصي من خلال الأنشطة الاجتماعية والمناسبات العائلية. يمكن أن تساعد هذه الأنشطة في تعزيز العلاقات الاجتماعية وتقليل العزلة.

ثالث هذه الخطوات تقع خاصة على عاتق الأهل والتربويين، وهي التوعية بالتأثيرات السلبية لاستخدام التكنولوجيا على العلاقات الاجتماعية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال حملات توعية وبرامج تعليمية.

أخيرا، استخدام التكنولوجيا بشكل مسؤول. يمكن تحقيق ذلك من خلال وضع حدود لاستخدام الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي وتجنب استخدامها في الأوقات غير المناسبة، والأماكن غير المناسبة. من خلال التوعية والتوازن والاستخدام المسؤول للتكنولوجيا، يمكننا بناء مستقبل أفضل حيث يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة لتعزيز العلاقات الاجتماعية بدلا من تدهورها.

12