"بيغ بوسا" مونودراما تعيد قراءة الواقع التونسي والعربي بشكل كاريكاتيري

عرض متحرّك تتّجه بوصلته وفق المتغيّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
الجمعة 2024/08/02
قراءة مسرحية هزلية للسياسة والمجتمع

تونس- قدمت الفنانة التونسية وجيهة الجندوبي عملها الفني بعنوان “بيغ بوسا” ضمن برمجة الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، وهو عمل مسرحي مونودرامي من كتابتها وإخراجها، أقبل عليه جمهور غفير جاء ليستدلّ على الواقع الاجتماعي والسياسي التونسي الذي تغيّرت ملامحه منذ ثورة 2011، ذاك الواقع الذي رسمته “مدام جليلة” (شخصية العمل) بشكل كاريكاتوري من خلال تقمّصها لعديد الشخصيات وتجسيدها بروح كوميديّة وحرفيّة عالية في الأداء.

واقتبس عنوان العمل “بيغ بوسا” من العبارة الإنجليزية “بيغ بوس” والتي تعني المسؤول الأكبر/الأول في العمل، وصار عنوان العمل الموندرامي صفة تلق على الممثلة، حيث يخاطبها جمهورها بأنها “بيغ بوسا”.

وحيدة على الركح الكبير وتحت أنظار الآلاف وقفت وجيهة بـ“بيغ بوسا” لتقدّم عرضا أُعتُبر من أصعب الأشكال المسرحية باعتبار أن فنان المونودراما لابدّ أن يمتلك أدواته جيّدا ويحسن استخدامها من كلام وإشارة وصمت وحركة جسد وانفعال داخلي. باختصار هو مُلزم بملأ المسرح/فضاء اللعب وشدّ الجمهور.

اختبار صعب اجتازته وجيهة الجندوبي بامتياز وشدّت جمهورا لم يغادر أماكنه إلا بعد مغادرتها خشبة المسرح.

“بيغ بوسا” عرض تغوص به وجيهة في قمّة العبث، العبث الذي يُمكن أن يحوّل موظفة عادية بأحد الصناديق الاجتماعية لا شأن لها بالسياسة إلى وزيرة ويتمّ إعلامها بإرسالية قصيرة تصلها على هاتفها في ساعات الليل الأخيرة.

“مدام جليلة” تستعد لوضع برنامج وزاري لمنحها الثقة، ولتدخل في ثوب الوزيرة كان المنطق يقتضي أن تُحدث تغييرا جذريّا على نمط حياتها انطلاقا من شكلها وصولا إلى محيطها بمن فيهم زوجها “عبدالجليل”.

وفي أثناء تقديمها لمبرّرات التغيير ترسم الممثّلة بالحركة والصوت شخوصا بعضها حقيقيّة وأخرى متخيّلة وتتنقّل بالجمهور بين مستويات مكانية عديدة كالسوق والحمام وحلاقة الحيّ وحفلات الأعراس ومواكب العزاء في سياق تدرّجها السردي الذي اتخذ منحى كوميديا حمل في طيّاته الكثير من النقد لسلوك بعض الأفراد، واقع تعتزم وزيرة المستقبل تغييره لصالحها ليحقّق لها تلك النقلة النوعيّة التي تخدم مصلحتها كفرد ولا تنعكس على المجموعة.

استحضرت وجيهة الجندوبي في عرض “بيغ بوسا” أكثر من عشر شخصيات نساء ورجال وحتّى أطفال، تدخل في أثوابهم وتخرج منها بسلاسة مطلقة، وكانت قادرة على خلق الصراع الذي ينتجه الحوار التبادلي بينها وبين الشخوص المتخيّلة بأصوات وحركات مختلفة لترسم العلاقة القائمة بين الشخصيّة المحورية كوزيرة والمحيطين بها.

◄ وجيهة الجندوبي رسمت في إطار كوميدي ملامح مجتمع تغلغلت السياسة في تفاصيل حياته اليوميّة بعد ثورة 2011

طوال ساعتين على الخشبة بإيقاع متسارع وصور متعاقبة وشخصيات تلتقي في هويّتها وتتباعد في مستوياتها الاجتماعية والفكرية، رسمت وجيهة الجندوبي في إطار كوميدي بحت ملامح مجتمع تغلغلت السياسة في تفاصيل حياته اليوميّة بعد الثورة وهو ما أكّدت عليه الفنانة منذ المشهد الأول الذي حملنا مباشرة إلى يوم 14 يناير 2011 حيث بدأت الأحداث تتسارع في ظرف زمني قصير لتقول لنا نحن الآن وهنا نحبّ البلاد ونرفع علمها عاليا، وإن كنّا في حياتنا اليوميّة نعيش حياة بسيطة ولا نهتم بما يحدث في كواليس السياسيين إلا أننا نرفض المسؤول الذي يتعامل بالمحسوبية ويخدم مصالحه على حساب الشعب.

تلك هي الرسالة التي بنت عليها وجيهة الجندوبي حكايتها “بيغ بوسة” فهي كفنانة مسرحية أخذت مادتها/نصها من الحياة اليومية ووضعتها بأمراضها وانفصامها وأنانيتها وسذاجتها على خشبة تبحث عن مخلّص، والمخلص لن يكون وزيرة تم تعيينها بإرسالية قصيرة. ولذلك تستفيق “مدام جليلة” من تلك الدوامة على إرسالية جديدة على هاتفها يعتذر فيها المرسل عن خطأ لغوي ورد في النص.

“بيغ بوسا” هو عمل تعرضه الفنانة منذ خمس سنوات، تضيف إليه وتحذف منها أشياء حسب ما تقتضيه الظرفية الزمانية والمكانية. أشياء كثيرة تغيّرت في مونودراما “بيغ بوسا”، فهو عرض متحرّك تتّجه بوصلته وفق المتغيّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد مع إمكانية الإشارة لما يحدث في العالم كالعدوان على غزة وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون منذ عشرة شهور أمام صمت الشعوب العربية وهو ما عبّرت عنه وجيهة الجندوبي من خلال بثّ أغان ثورية وتصدّر العلم الفلسطيني الشاشات الثلاث فوق خشبة مسرح قرطاج.

بقي أن نشير أن التغيير لم يحدث في “بيغ بوسا” على مستوى النصّ فقط وإنما كذلك على شكله حيث استضافت وجيهة الجندوبي في عرضها بمهرجان قرطاج فنان الراب أرماستا وأدت معه أغنية أخذت بدورها طابعا كوميديا لم يشذّ عن السياق الدرامي.

والجندوبي هي ممثلة ومسرحية تونسية. شاركت في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية والمسلسلات التونسية على غرار “منامة عروسية” و“أخوة وزمان” و“قمرة سيدي محروس” و“عودة المنيار” و“ويوميات امرأة”، كما شاركت بأدوار كوميدية في سلسلة “نسيبتي العزيزة” وغيرها من الأعمال الأخرى.

15