الاقتصاد محور ارتكاز عودة العلاقات بين سوريا وتركيا

يجمع المتابعون لمخاض استئناف العلاقات بين سوريا وتركيا على أن الاقتصاد، بما يتضمنه من ملفات مهمة تتعلق بالتجارة والاستثمار والإعمار، سيكون محور ارتكاز لأي مشروع لتطبيع التعاون مرة أخرى، بينما من المبكر الحكم على ما ستؤول إليه أي مفاوضات.
دمشق/أنقرة - تكررت خلال الآونة الأخيرة تصريحات لمسؤولين أتراك بشأن إعادة العلاقات مع سوريا، والتي انهارت في العام 2011 بعد الاحتجاجات على نظام الرئيس بشار الأسد.
وأعلن الرئيس رجب طيب أردوغان في أكثر من مناسبة أنه لا مانع لديه من لقاء الأسد، وأنه قد يوجه له دعوة لزيارة أنقرة أو يذهب هو إلى دمشق.
وتلا ذلك تصريح للرئيس السوري، على هامش الانتخابات النيابية في منتصف يونيو الماضي، أكد فيه أنه لا يرى مانعا من لقاء نظيره التركي “إذا كان سيؤدي إلى نتائج تحقق مصلحة البلد”.
ورغم أن ملف التقارب بين البلدين مثقل بالتعقيدات السياسية، لكن البعض يعتقد أنه يحمل في طياته أيضا ملفات اقتصادية دسمة، وفي مقدمتها التجارة والاستثمار وإعادة الإعمار.
وترى وزيرة الاقتصاد السورية السابقة لمياء عاصي أنه “في حال عودة العلاقات الاقتصادية الى الوضع الطبيعي، فمن المرتقب أن يعود التبادل التجاري بين الجانبين للارتفاع تدريجيا”.
وقالت لبلومبيرغ الشرق إن ذلك الأمر سينعش “السوق السورية التي تعاني حاليا من نقص حاد في السلع والمواد الأولية”.
وحققت التجارة البينية قفزة كبيرة خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، قبل اندلاع الأزمة في سوريا، في حين كان المستهدف وصول حجم المبادلات بين البلدين إلى 5 مليارات دولار.
وتُشير البيانات الرسمية المتوفرة إلى ارتفاع حجم الصادرات التركية إلى الأسواق السورية من 281 مليون دولار في عام 2000 إلى 1.84 مليار في 2010، بينما ارتفعت الواردات للفترة عينها من 423 مليون دولار إلى 629 مليونا.
ويوضح رجل الأعمال التركي جنكير يلماز أنه “في حال تمّ التوصل لاتفاق سياسي، فمن الممكن بداية استخدام ترتيبات مؤقتة لتسهيل التجارة، قد تشمل قواعد مبسطة لتيسير تدفق البضائع ريثما يتم التوصل إلى اتفاقيات جديدة”.
وتلعب حركة الترانزيت دورا محوريا في التجارة، ليس فقط بما تدرّه من رسوم للجمارك السورية، وإنما لاختصارها الوقت والكلفة بالنسبة للبضائع التركية المصدّرة إلى دول الخليج العربي والأردن.
وكان قد وصل عدد الشاحنات التركية العابرة للحدود السورية سنويا إلى 150 ألفا، وفق ما تشير إليه التقديرات.
وتتوقع عاصي أن تشهد حركة الترانزيت انتعاشا وستكون أولى الأنشطة المتأثرة إيجابا بعودة العلاقات، و”هذا ما لمسناه بعد فتح معبر أبو الزندين” في ريف حلب أواخر يونيو الماضي”.
وقامت اتفاقية التجارة الحرّة بين البلدين، والتي دخلت حيّز التنفيذ عام 2007، بدور كبير بتعزيز التبادل التجاري، وبعد بدء الأزمة السورية في عام 2011 جرى وقف العمل بها بشكلٍ كامل.
لكن قبل ذلك، كان الكثير من الاقتصاديين ورجال الأعمال السوريين، لاسيما الصناعيين، يشكون من الاتفاقية باعتبارها “مجحفة”، إذ أدّت إلى إغراق سوقهم المحلّية بالبضائع التركية.
وفي حين كانت البضائع السورية تتحمل رسوما إضافية تبلغ 28 في المئة، تحت بند “رسوم الأسر الفقيرة”، كانت البضائع التركية بالمقابل تدخل بدون أي رسوم جمركية. ووسط عدم قدرة الصناعة السورية على منافسة التركية من ناحية الجودة والسعر.
وتعتقد عاصي أنه “يجب إعادة دراسة الاتفاقية والتفاوض مجددا حول كثير من الملاحظات على بنود ومواد الاتفاقية، وتدارك كل العيوب والشوائب في الاتفاقية القديمة”.
ويعتبر يلماز في حديث لبلوبميرغ الشرق أن عودة حركة التجارة “قد يتم وفقا لعدة سيناريوهات، تتعلق بالاتفاقيات التجارية القديمة أو بترتيبات جديدة، حيث يمكن تحديث اتفاقية التجارة الحرة لتناسب الظروف الحالية، وتلبية الاحتياجات المستجدة لدى البلدين”.
وقال “من السيناريوهات المرشحة التفاوض على جملة اتفاقيات جديدة، لا تقتصر على تحسين شروط التجارة، بل تعزيز التعاون الاقتصادي بمجالات جديدة”.
وفي الوقت الذي توقف نشاط الاستثمارات التركية التي كانت تعمل في سوريا فور بدء الأزمة، بعد أن وصل عددها إلى 41 تستثمر أساسا في الصناعة والإسمنت، شهدت الاستثمارات السورية في تركيا نموا صاحب حركة نزوح رجال الأعمال ورؤوس الأموال.
10
مليارات دولار حجم الاستثمارات السورية في تركيا منذ اندلاع النزاع في سوريا
وبحسب غرفة التجارة والصناعة التركية، أسس السوريون أكثر من 10 آلاف شركة في تركيا. ووفرت هذه الشركات فرص عمل لأكثر من نصف مليون شخص، بحسب جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب في تركيا.
ويُقدّر حجم الاستثمارات السورية في تركيا بنحو 10 مليارات دولار تشمل صناعة المنسوجات والملابس والتجارة والبناء.
ويشرح النائب في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا محمد آغا أوغلو مصير هذه المشاريع عند تطبيع العلاقات، بالقول “نحن منفتحون على كافة أشكال التعاون، بما في ذلك الجانب الاستثماري”.
وأوضح أن بلاده لن تجبر أي ضيف سوري، سواء كان مستثمرا أو عاملا أو لاجئا، على العودة القسرية.
ويؤكد رجل الأعمال السوري موسى الأحمد، المستثمر في إسطنبول، أنه “حتى لو تحسنت العلاقات بين البلدين، فهناك آلاف السوريين في تركيا لن يعودوا، فقد أسسوا حياة جيدة هنا، والآلاف منهم حصلوا على الجنسية”.
وقال “توجد في تركيا استثمارات سورية ضخمة، بما في ذلك مشاريع عقارية كبرى، ونشاط ملفت في صناعة الألبسة والتصدير”.
في المقابل، توقع أحد المستثمرين السوريين في تركيا أنه “في حال عودة العلاقات إلى طبيعتها، فإن ذلك قد يؤدي إلى خسارة تركيا لنسبة من الاستثمارات السورية، بما سينعكس انخفاضاً بمعدل الاستثمار الأجنبي المباشر”.
لكن التأثير الأكبر، برأيه، سيطال “القطاعات الاقتصادية المعتمدة بشكل كبير على رأس المال الفعلي والبشري السوري، كالزراعة والبناء والخدمات”.
وقال المستثمر الذي طلب عدم كشف هويته خلال حديثه مع بلومبيرغ الشرق “سينتج عن نقص العمالة، لاسيما الفنية، في حال عودتها للبلاد، زيادة بالأجور، وبالتالي سترتفع تكاليف الإنتاج وأسعار السلع، سواء بالأسواق المحلية أو كصادرات”.
ويتمثل الملف الأكثر أهمية وتعقيدا بإعادة إعمار سوريا، والذي يُرتقب أت تتضح معالمه مع نضوج التفاهمات السياسية الكبرى، ورفع العقوبات. لكن وفق مختلف السيناريوهات، يبقى الدور التركي محوريا لأسباب جغرافية وسياسية واقتصادية.
ويقول الباحث التركي أحمد توبراك إن عودة العلاقات قد تؤدي إلى فرص كبيرة للشركات التركية للمشاركة في إعادة تطوير البنية التحتية السورية.
وسيكون ذلك سواء عبر توقيع اتفاقيات تعاون ثنائية، أو من خلال التنسيق مع وكالات الأمم المتحدة المعنية بإعادة الإعمار والتنمية لضمان تنفيذ المشاريع بما يتماشى مع المعايير الدولية.
وكذلك، يمكن السعي، وفق توبراك، للحصول على دعم من المؤسسات الدولية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، لتمويل مشاريع إعادة الإعمار التي تشارك فيها الشركات التركية.
كما أشار إلى التسهيلات التي يحتمل أن تقدمها الحكومة التركية للشركات المهتمة بالمشاركة والاستثمار بعملية الإعمار في سوريا.
ومن ضمن الحوافز تقديم دعم مالي لتلك الشركات، كالقروض الميسرة والتخفيضات الضريبية، مع توفير ضمانات للاستثمارات التركية لحمايتها من المخاطر السياسية والاقتصادية. ويجب أن تكون هناك أيضا شراكة مع الشركات السورية المحلية.
وتصف عاصي إعادة إعمار سوريا بـ”الورقة الواعدة للاقتصاد التركي المثقل بقضايا أثرت على الليرة وجعلتها تنخفض الى مستويات غير مسبوقة”.
وقالت إن السلطات التركية “طامحة لاستغلال الفرص الاستثمارية الكبيرة التي تحملها مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، يساعد على ذلك التطور الذي وصلت إليه الشركات التركية من حيث القدرة على تنفيذ مشاريع عملاقة ومعقدة”.