الركود الثقافي والفني في العراق: دور الأحزاب الدينية الحاكمة

من أجل مكافحة الركود الثقافي والفني في العراق من الضروري العمل على كف يد الأحزاب الدينية الحاكمة ورفع قبضتها عن التعبير الإبداعي مع تبنى رؤية أكثر شمولية وتنوعا للثقافة.
الثلاثاء 2024/07/30
لكي لا ننسى إرث 6000 عام من الثقافة والفن

التراث الثقافي والفني للعراق يعود إلى حضارة ما بين النهرين القديمة، ومساهماتها العديدة في الأدب والهندسة المعمارية والفنون التي تشكل تاريخ البشرية بشكل عميق.

وفي القرن العشرين أصبح العراق مركزا حيويا للثقافة والفن، حيث كانت بغداد مركزًا للأدب والمسرح والفنون السمعية والبصرية. وكان لها صدى كبير في المحافل الثقافية والفنية العربية والعالمية.

وفي السبعينات من القرن الماضي انتشرت الثقافة العامة وازدهرت فعالياتها من خلال الكتب والصحف الثقافية والمجلات الأدبية ودور النشر المختلفة، التي ساهمت بفاعلية في تشكيل الثوابت الوطنية والقيم الإنسانية والاجتماعية للمواطن العراقي.

كما كان لها الأثر الكبير في ولادة أجيال من الكتاب والمؤلفين المبدعين في شتى مجالات الحياة وبناء الصرح الثقافي.

وفي المسرح العراقي تم تقديم الكثير من المسرحيات التي مازالت حاضرة في الذاكرة العراقية. وبرزت نخبة من الممثلين والمخرجين والكتاب المبدعين.

◄ الفنانون والناشطون الثقافيون يواصلون مقاومة الرقابة والقمع، مستخدمين الفن كأداة للتغيير الاجتماعي والمقاومة السياسية، ومع ذلك فإن العقبات التي يواجهونها كبيرة

كما تطورت الموسيقى العراقية من خلال دعمها من الدولة وتوفير الوسائل اللازمة لانتشارها في الراديو والتلفزيون، فازدهرت ازدهارا كبيرا. ولكن النشاطات الثقافية والفنية عانت من الإهمال والتجاهل خلال العقدين الأخيرين، وتوقفت الحياة الموسيقية بشكل كامل تقريبا. ليس فقط بسبب الفساد السياسي والإداري، ولكن بسبب الإهمال الحكومي المتعمد، إضافة إلى أن الحياة العامة أصبحت غير آمنة.

وامتد الإهمال الحكومي للثقافة العامة ليشمل العمل المسرحي وعلى جميع الأصعدة. حيث انعدمت الاستثمارات وتضاءلت النشاطات في المسارح والصروح الفنية الأخرى.

إن ما نشهده من انحسار ثقافي وفني كبير بعد الاحتلال الأميركي للعراق يعود إلى أسباب بنيوية تتعلق بشكل نظام الحكم، فغالباً ما تتم الإشارة إلى دور الأحزاب الدينية الحاكمة وتأثيرها السلبي على مجمل النشاطات الثقافية والفنية. وهو ما عرّض هذه الأحزاب التي تهيمن على السياسة العراقية لانتقادات لاذعة بسبب مواقفها المتزمتة واللامبالية، وأحيانا المعادية للفنون والثقافة حتى أوصلت البلد إلى هذا المستوى من الركود الثقافي والفني في البلاد.

ويتضح نهج الأحزاب الحاكمة المؤذي للثقافة العامة والفنون في العراق من الآتي:

أولا، نفذت الأحزاب الإسلامية قوانين رقابة صارمة تتماشى مع تفسيرها للمفاهيم الإسلامية. وقد أدى ذلك إلى فرض قيود على التعبير الفني بما في ذلك الأدب والمسرح والموسيقى والفنون البصرية. وغالبًا ما كان الفنانون يواجهون عقبات كبيرة في الحصول على الموافقة على أعمالهم، وهو ما أدى إلى تراجع الإنتاج الإبداعي.

ثانيا، يركز النظام التعليمي المتأثر بالأحزاب الحاكمة على الدراسات الدينية على حساب الفنون والعلوم الإنسانية. وهذا التحول أثر على توجهات جيل الشباب وتقديرهم للفنون، وقد حد ذلك من تنمية المواهب والأفكار الجديدة.

ثالثا، جرى العمل على تضييق المساحات العامة للتعبير الفني. وتواجه الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والعروض المسرحية العديد من العقبات البيروقراطية والأيديولوجية، ما يقلل من فرص الفنانين في التعامل مع الجمهور.

رابعا، هذه الممارسات شجعت على الهجرة الفكرية حيث غادر العديد من الفنانين والكتاب والمثقفين العراقيين، بحثًا عن بيئات يمكنهم من خلالها التعبير عن أنفسهم بحرية. وأدت هجرة الأدمغة إلى تفاقم الركود، حيث تفقد البلاد أكثر عقولها موهبة وإبداعا.

خامسا، تسبب الفساد المستشري في أجهزة الدولة في الحد من تمويل المشاريع الفنية والثقافية، كما أجبرت الصعوبات الاقتصادية الكثيرين على إعطاء الأولوية للبقاء على قيد الحياة على حساب المشاركة الثقافية.

سادسا، تفشي السلاح خارج نطاق الدولة وكثرة الميليشيات الحزبية زادا المخاوف الأمنية وجعلا من الصعب تنظيم وحضور الفعاليات الفنية والثقافية. وتؤدي التهديدات التي تفرضها الجماعات المتطرفة إلى خنق التعبير الفني، حيث تستهدف هذه الجماعات في الكثير من الأحيان الرموز والتجمعات الثقافية.

◄ في المسرح العراقي تم تقديم الكثير من المسرحيات التي مازالت حاضرة في الذاكرة العراقية. وبرزت نخبة من الممثلين والمخرجين والكتاب المبدعين

سابعا، التلكؤ في إعادة بناء المؤسسات الثقافية والفنية المتضررة، وهو ما أعاق الجهود الرامية إلى إنعاش القطاع الثقافي.

ثامنا، تسببت الصراعات السياسية المستمرة وانعدام الاستقرار السياسي في تقويض التخطيط الثقافي على المدييْن المتوسط والطويل. وأدت التغييرات المتكررة في أولويات الحكومة والسياسة إلى تعطيل الاستمرارية اللازمة للتنمية الثقافية.

تاسعا، سعت الأحزاب الدينية إلى إعادة كتابة التراث الثقافي للعراق، وترويج رؤية ضيقة وإقصائية لتراث البلاد. وقد أدى ذلك إلى محو التقاليد الثقافية المتنوعة، وتهميش الكثير من الأصوات الوطنية، الأمر الذي تسبب في تقييد نطاق التعبير الفني في العراق.

وعلى الرغم من هذه التحديات هناك جهود داخل العراق لإعادة إحياء الحياة الثقافية والفنية. وتعمل المنظمات غير الحكومية والمبادرات الخاصة على دعم الفنانين والمشاريع الثقافية. علاوة على ذلك تتجلى مرونة الفنانين العراقيين في تصميمهم على إنشاء أعمالهم ومشاركتها، وغالبًا ما يترتب على ذلك خطر شخصي كبير.

وما زالت هناك جيوب من الإبداع والمقاومة، ويواصل الفنانون والناشطون الثقافيون مقاومة الرقابة والقمع، مستخدمين الفن كأداة للتغيير الاجتماعي والمقاومة السياسية، ومع ذلك فإن العقبات التي يواجهونها كبيرة. ولا يزال مستقبل المشروع الثقافي والفني في العراق غير مؤكد.

ومن أجل مكافحة الركود الثقافي والفني في العراق، من الضروري العمل على كف يد الأحزاب الدينية الحاكمة ورفع قبضتها عن التعبير الإبداعي، مع تبني رؤية أكثر شمولية وتنوعا للثقافة فضلا عن تقديم دعم أكبر للمؤسسات الثقافية والفنانين، حتى يتمكّن العراق من استعادة مكانته الصحيحة كمركز للإبداع والابتكار في المنطقة، وتعزيز مستقبل فني نابض بالحياة.

8