في الحاجة إلى فهم عميق لانتماءات ترامب

العداء لأوكرانيا واحترام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كعدو لليبرالية الغربية المستيقظة منتشران على نطاق واسع في أوساط اليمين، لاسيما في بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية المقرر إجراؤها في نوفمبر المقبل. دونالد ترامب ومرشحه الجديد لمنصب نائب الرئيس، السناتور جي دي فانس، يدافعان جوهريا عمّا يقول مؤلف كتاب عن خط تفكير ملتو يجذب الكثيرين من أوساط اليمين الأميركي للدفاع عن “القومية العرقية تحت غطاء مجموعة من المبادئ”. ومن هنا فإن فهم الجذور التاريخية لهذه المعتقدات في الولايات المتحدة ضروري، خاصة أن دونالد ترامب قد يكون الرئيس القادم لأقوى دولة في العالم.
في كتابه “أميركا آخرا، قصة حب اليمين التي دامت قرنًا مع دكتاتوريين أجانب” يقول جاكوب هايلبرون الذي يوصف أحيانًا بأنه “المعارض الجديد” الأكثر ذكاءً في واشنطن “يشعر المحافظون بالاستياء، أو على الأقل بخيبة الأمل، مما يرونه إخفاقات مجتمعهم، من ليبراليته، وتسامحه، وعلمانيته المتزايدة. لذلك، بحثوا عن جنة في الخارج يمكن أن تكون نموذجًا في الداخل”.
ويقدم الكتاب عرضا واضحًا لكيفية انحدار الجناح اليميني إلى أعماقه الحالية المناهضة للديمقراطية. حيث تعدّ قناعات العديد من المحافظين الجدد مشتركة مع أقصى اليمين في أوروبا. ولكن يبدو أن العديد من الأشخاص مثل ترامب يحتقرون القارة.
لا يبشر توقع المؤلف لسيناريو جيد للشؤون الدولية إذا فازت بطاقة الحزب الجمهوري في نوفمبر “الآن كما في الماضي، تبقى نقطة واحدة ثابتة في الملحمة الطويلة والكئيبة المتمثلة في إهانة اليمين الأميركي لذاته أمام الطغاة الأجانب. فهو يضع الشعب الأميركي، والمثل الأميركية، والاستقلال الأميركي في المرتبة الأخيرة وليس الأولى”.
ناضلت مجموعة متنوعة من السياسيين والمثقفين اليمينيين، يشتركون مع نظرائهم على اليسار الذين قدسوا شخصيات كستالين وماو وفيدل كاسترو، من أجل أهداف “وهمية” وغيبية لبلوغ يوتوبيا غريبة؛ بدءا من القيصر فيلهلم في ألمانيا قبل عام 1914، وشملت تطلعاتهم موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا، وأوغستو بينوشيه في تشيلي، ويستمر هذا السيناريو اليوم مع فيكتور أوربان في المجر.
إنهم يلومون أميركا لكنهم لا يحتفلون بها أبدًا، رغبتهم الوحيدة هي بناء قصر أحلام خاص بهم والعيش داخله. في مقال كلاسيكي كتبه جورج أورويل قبل ثمانية عقود تقريبا، تحدث عن كاتب تروتسكي الميول انتقل إلى اليمين، وشخّص عبادة السلطة في الطبقة المثقفة وهي عبادة دفعتها إلى التعامل مع المجتمعات الشمولية على أنها لا تقهر والمجتمعات الديمقراطية على أنها ضعيفة.
كانت الطبقة المثقفة تحمل رغبة مكتومة لإنشاء مجتمع هرمي حيث يمكن للمثقف أخيرًا أن يمسك بالسوط. كتب فرد كوش (والد تشارلز وديفيد، وهما من المتبرعين الرئيسيين للسياسيين المحافظين المتشددين في أميركا) في عام 1938 أن “الدول السليمة الوحيدة في العالم هي ألمانيا، إيطاليا، واليابان ببساطة لأنها كلها تعمل وتجتهد”. ويضيف هايلبرون “كانت خطايا هتلر تُعتبر عرضية، أما خطايا ستالين فهي مميتة”.
بعد الحرب العالمية الأولى، كانت إليزابيث ديلينغ، وهي مفكرة فاشية بارزة، مقتنعة أن “مئات الآلاف من اليهود الذين فروا من ألمانيا النازية إلى مدينة نيويورك لم يكونوا لاجئين مضطهدين بل مخربين قساة يعتزمون إطلاق ثورة ماركسية في أميركا”. اليوم، حل مزيج واسع من “الإسلاميين” و”العرب”، وخاصة “الفلسطينيين”، محل اليهود في بلد يتحدث عن جذوره اليهودية المسيحية، وهو تعبير لم يكن مستخدمًا في أميركا أو أوروبا قبل عام 1940. في الشرق الأوسط، قدمت النصائح للمحافظين الجدد على مدى عقود للتدخل في كل مكان، لكن “الطليعة الجديدة”، كما يسميها المؤلف، كانت تعلن أنه لا ينبغي التدخل في أي مكان “كانت نسخة ترامب التي تؤمن بالواقعية السياسية الخارجية تكرر أن حلفاء أميركا مستغلون، ليس لدينا مصلحة في الحفاظ على التحالفات في آسيا أو أوروبا، أوكرانيا تنتمي إلى مجال نفوذ بوتين، الدكتاتوريون يستحقون المحاكاة. وكانت آراؤهم هذه تتحول إلى إنجيل السياسة الخارجية الجديد، على الأقل في الدوائر الجمهورية”. وهو ما يصفه هايلبرون بـ”انحدار واشنطن إلى جحيم غبي”. وقد تكون كلمات قوية، لكنها صفات يمكن أن يتشارك فيها معظم القادة الأوروبيين.
اليوم يروّج فيكتور أوربان، رجل المجر القوي، لفكر عرقي قومي يكون بديلا للأيديولوجيات الأوروبية، بحجة أن البيروقراطيين غير المنتخبين الذين يديرون الاتحاد الأوروبي قد حلوا محل قوة الاتحاد السوفياتي الشمولية المهددة، وهو ما يعتبر أحدث مقدسات اليمين.
السياسيون والمثقفون الأميركيون ومقدمو البرامج الحوارية يتوجهون الآن إلى بودابست للاحتفال بفيكتور أوربان وتقليده. ويعتقد المعجبون به أن الليبرالية ترمز إلى الشمولية، والديمقراطية إلى الظلم، والحقوق إلى الانحطاط.
المحافظون، ومن بينهم مارين لوبان في فرنسا وجورجيا ميلوني في إيطاليا، لديهم صيغة مختلفة. يرغبون في حماية الحرية باسم الحد منها. ويطمحون إلى خلق ثورة للحفاظ على التقاليد، والاستيلاء على المستقبل من خلال العودة إلى الماضي الأسطوري.
هوس ترامب بالتأثير الخبيث المزعوم للدولة العميقة دفعه في تجمع حاشد في مارس 2023 لاقتراح أمر تنفيذي يعرف باسم “الجدول إف”، من شأنه أن يستبدل عشرات الآلاف من البيروقراطيين الفيدراليين بتعيينات سياسية. أيد ترامب “الجدول إف” في الأشهر الأخيرة من رئاسته، لكن الوقت كان قد نفد لتنفيذه.
فانس اعتبر أن أهم نصيحة يمكن أن يقدمها لترامب هي “طرد كل موظف بيروقراطي من المستوى المتوسط وكل موظف حكومي في الدولة الإدارية واستبدالهم بأشخاص موالين لنا”. عندها يكون الوقت قد حان لفعل ما فعله فيكتور أوربان.
الخوف يتزايد في أوروبا من رئاسة ترامب الثانية. وكان روب جونسون، الذي استقال مؤخرًا من منصب مدير وحدة وزارة الدفاع البريطانية المكلفة بقياس قوة البلاد العسكرية، صريحًا عندما قال “إذا انتُخب ترامب واستمر في السياسة التي يفضلها فانس، فقد يعلن إلغاء الناتو أو قيادة الولايات المتحدة له في أحسن الأحوال”. وقد يسمح هذا لروسيا بتسليط المزيد من الضغوط على أوكرانيا وأوروبا وتعميق تحالفها مع الصين.
يؤكد مثقفون يمينيون أميركيون أنهم يؤيدون الواقعية السياسية، حتى لو كانت تعني التحالف مع دعاة الحرب في الخارج من أجل الحفاظ على السلام في الداخل. ولكن كتاب جاكوب هايلبرون يوضح أن هذا “التقليد” متجذر في “التقارب الصادق”. فهم يدافعون، أو يتعاطفون على الأقل، مع تفوق الاستبداد على الديمقراطية بشكل أو بآخر. وتعدّ الولايات المتحدة، إضافة إلى فرنسا، إحدى الدول القليلة التي تأسست على مبادئ كونية. وهو ما يتناقض مع القومية العرقية في المجر وروسيا والصين وإسرائيل والعديد من الدول العربية.