الضغوط الإسرائيلية تشل السلطة الفلسطينية

تواجه السلطة الفلسطينية أسوأ أزمة منذ إنشائها قبل نحو ثلاثين عاما، جراء الضغوط الإسرائيلية وتراجع الدعم الدولي، وتجد السلطة نفسها عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها للفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو ما جلب لها المزيد من السخط الشعبي.
رام الله- تشل الضغوط الإسرائيلية حركة السلطة الفلسطينية التي يتزعمها محمود عباس، ما يثير تساؤلات حول مستقبلها في وقت تضغط فيه الولايات المتحدة ودول أخرى من أجل “إعادة إحياء” السلطة لتكون قادرة على إدارة قطاع غزة عندما ينتهي القتال هناك.
ولا تزال طرق دمرتها جرافات الجيش الإسرائيلي قبل أشهر في مخيم جنين بالضفة الغربية المحتلة غير صالحة للمرور عليها لأن السلطة الفلسطينية لا تستطيع تحمل تكاليف إصلاحها والموظفون لا يتقاضون إلا قسما فحسب من رواتبهم أما الخدمات الصحية فهي في انهيار.
وتعاني ماليات السلطة الفلسطينية من حالة فوضى منذ سنوات بعد أن خفضت دول مانحة التمويل، الذي كان يغطي ذات يوم ما يقرب من ثلث الميزانية العامة للسلطة البالغة ستة مليارات دولار، وطالبت بإصلاحات تعالج الفساد والهدر.
لكن مسؤولين فلسطينيين يقولون إن تدهور الأوضاع تفاقم بشدة بعد أن نفذت حركة حماس هجوما مباغتا على إسرائيل من قطاع غزة في السابع من أكتوبر، إذ دفع ذلك إسرائيل إلى حجب جزء كبير من عائدات الضرائب التي تجمعها نيابة عن السلطة الفلسطينية وتشكل حاليا المصدر الرئيسي لتمويلها.
وتتجلى آثار تلك الضغوط بشكل خاص في جنين، وهي مدينة تعاني من الاضطرابات تقع في شمال الضفة الغربية حيث تستهدف إسرائيل منذ فترة طويلة مقاتلين فلسطينيين في مداهمات كثفتها منذ أكتوبر.
وقال نضال عبيدي رئيس بلدية جنين في مقابلة مع رويترز “الاحتلال الإسرائيلي خلال أكثر من سنتين يعيث فسادا في مدينة جنين وخاصة بعد السابع من أكتوبر حيث كانت الهجمات شرسة أكبر والتخريب أكثر”.
وأضاف عبيدي “يتم ضرب خطوط المياه.. خطوط الصرف الصحي. يتم إطلاق النار على محولات الكهرباء، وحتى طالت خزانات المياه الموجودة على الأسطح”.
وتابع قائلا “أنت بتحكي عن ملايين الدولارات والخسائر التي تعرض لها مخيم جنين، مش أقل من 15 مليون دولار بشكل أولي وسريع. المدينة بحاجة إلى هذا المبلغ حتى نقوم بعمليات ترميم وليس إصلاح شامل في المدينة”.
ويحذر مسؤولون فلسطينيون من أن السلطة الفلسطينية تواجه واحدة من أخطر أزماتها منذ تشكيلها بموجب اتفاقات سلام مؤقتة مع إسرائيل قبل 30 عاما.
في ذلك التوقيت، رأى الفلسطينيون في السلطة نقطة انطلاق نحو هدفهم المتمثل في إقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية.
لكن مع بقاء هذا الهدف بعيد المنال، ساعدت الرواتب والخدمات التي تقدمها السلطة الفلسطينية في الحفاظ على أهمية سياسية لعباس وحركة فتح التي يتزعمها في مواجهة توسع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والتحديات التي تشكلها جماعات منافسة مثل حركة حماس التي تمكنت في 2007 من تسلم إدارة قطاع غزة.
وقال غسان الخطيب، وهو محاضر في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية تولى قبل ذلك حقيبة وزارية، إن السياسات الإسرائيلية تعرض السلطة الفلسطينية لخطر المزيد من التهميش “وقد تؤدي في وقت معين إلى انهيارها”.
وأوضح الخطيب أن هذه السياسات “تؤدي إلى تقليص الثقل السياسي للفصائل التي تؤيد تسوية سلمية مع إسرائيل، وتحديدا فتح، مقابل الأطراف المعارضة لذلك وفي مقدمتها حماس”.
ويعيش أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتقول الأمم المتحدة إن معهم أيضا نحو 700 ألف مستوطن إسرائيلي.
ويسيطر الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية، فيما تمارس السلطة الفلسطينية إدارة محدودة للمناطق التي يعيش فيها معظم السكان الفلسطينيين.
وبموجب اتفاق طويل الأمد بين الجانبين، تجمع إسرائيل الضرائب على البضائع التي تمر عبر إسرائيل إلى الضفة الغربية وترسل تحويلات شهرية إلى السلطات في رام الله.
وفي أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، بدأ وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش بوقف جزء من تلك الإيرادات بما يعادل المبلغ الذي تحوله السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة.
ويضاف القدر المحتجز، الذي يبلغ نحو 300 مليون شيقل (80 مليون دولار) شهريا، إلى خصومات سابقة فرضتها إسرائيل تعادل مبالغ تدفعها السلطة الفلسطينية لعائلات مقاتلين ومدنيين سجنتهم أو قتلتهم السلطات الإسرائيلية.
وأوقف سموتريتش في مايو التحويلات تماما، متهما السلطة الفلسطينية بالعمل ضد إسرائيل بعد أن سعى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع وبعد أن اعترفت ثلاث دول أوروبية بالدولة الفلسطينية.
وقال سموتريتش في اجتماع لمجلس الوزراء في السابع والعشرين من يونيو “انضمت السلطة الفلسطينية إلى حماس في محاولة إلحاق الأذى بإسرائيل، داخل إسرائيل وفي العالم، وسنحاربها”.
وأدان عباس العنف ضد المدنيين وانتقد هجوم حماس قائلا إنها أعطت بذلك إسرائيل ذريعة لمهاجمة قطاع غزة.
وحولت إسرائيل 435 مليون شيقل (116 مليون دولار) إلى السلطة الفلسطينية في أوائل يوليو، لكن مسؤولين فلسطينيين يقولون إن إسرائيل لا تزال تحتجز ستة مليارات شيقل من أموال السلطة الفلسطينية.
وتأتي الضغوط المالية على السلطة الفلسطينية في وقت تدهورت فيه الأوضاع الاقتصادية والأمنية بشكل حاد في الضفة الغربية، مما أدى إلى انخفاض أكبر في التأييد الشعبي لإدارة عباس التي أجرت أحدث انتخابات برلمانية قبل 18 عاما. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الكثير من الفلسطينيين يعتبرونها فاسدة.
وأظهر استطلاع رأي نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في يونيو أن أكثر من 60 في المئة من الفلسطينيين يؤيدون حاليا حل السلطة الفلسطينية. وخلص استطلاع المركز أيضا إلى أن هناك زيادة في تأييد النضال المسلح.
وذكر كاظم حرب (53 عاما)، وهو أب لأربعة أبناء يعمل في وزارة الاقتصاد التابعة للسلطة الفلسطينية، أنه لم يعد بمقدوره إلا شراء الأساسيات مثل الأرز والدقيق وغاز الطهي.
وقال “إحنا عايشين يوم بيوم مش عارفين شو بدو يصير بكرة”، مضيفا أن المال لا يكفي في بعض الأحيان لدفع فواتير المياه والكهرباء.
أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتقول الأمم المتحدة إن معهم أيضا نحو 700 ألف مستوطن إسرائيلي
وفي مخيم جنين للاجئين حيث يعيش نحو 14 ألفا على مساحة تقل عن نصف كيلومتر مربع، يقوم شبان يحملون بنادق بدوريات في الشوارع في تحد صارخ للسلطة الفلسطينية. ويسلط ذلك الضوء على النفوذ الذي لا تزال فصائل مسلحة مثل حماس والجهاد الإسلامي تتمتع به رغم المداهمات الإسرائيلية.
وتشكل آثار رصاص على واجهة مقر قريب للسلطة الفلسطينية وسيلة للتذكير باشتباكات وقعت من قبل بين قوات أمن السلطة الفلسطينية ومقاتلين.
وقال محمد، وهو في العشرينات من عمره ورفض ذكر اسمه بالكامل لأسباب تتعلق بالسلامة، إن الظروف في المخيم كانت سيئة حتى قبل السابع من أكتوبر بسبب المداهمات الإسرائيلية وأصبحت أكثر سوءا منذ ذلك الحين.
وعبر محمد عن إحباطه من أداء السلطة الفلسطينية التي قال إنها تضيق على المقاتلين بينما لا تفعل الكثير للمدنيين الفلسطينيين.
وأضاف “الحياة صعبة كثير، ما في شغل، والسلطة ما بتدفع رواتب، وكل شيء بيرتفع سعره. وما في حد بيساعد سكان المخيم، في ناس بدها مساعدة مش لاقيه حد يساعدها.. لا السلطة مساعدة، ولا دول مانحة ولا مؤسسات”.