الجزائر تسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء على حساب المياه الجوفية

الجزائر- تثير مساعي الجزائر لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي، عبر مشاريع زراعية مشتركة مع إيطاليا وقطر، الاستغراب؛ خاصة أن المشاريع تأتي في مناطق صحراوية قليلة التساقطات وفي فترة تشهد فيها الجزائر ومنطقة شمال أفريقيا بصفة عامة جفافا منذ سنوات، وهو ما يرجح الاعتماد في هذه المشاريع على مخزون المياه الجوفية.
فبعد مشروع إنتاج الحليب واللحوم والأعلاف المبرم بين الجزائر وقطر في محافظة أدرار الجنوبية، تم إبرام اتفاق جديد مع الإيطاليين لإنتاج القمح الصلب والبقوليات تقدر كلفته المالية بأكثر من 400 مليون دولار، وسيتم تنفيذه في محافظة تيميمون جنوب البلاد أيضا.
وبالموازاة مع الارتياح المسجل حول وفرة موسم جني القمح وتحول مناطق صحراوية إلى سلة الغذاء الجزائري، تصاعدت أصوات داعية إلى التريث والتفكير بعقلانية قبل الشروع في استغلال المياه الجوفية؛ لأن الاعتماد عليها في سقي المحاصيل الزراعية، إلى جانب أنه يرفع كلفتها، يؤدي إلى استنزاف الثروة المائية.
وطرحت مسألة المياه الجوفية في الجزائر منذ عام 2014، لما اندلعت احتجاجات شعبية في محافظات ومدن صحراوية ضد مشروع الحكومة آنذاك التي نوت الشروع في استكشاف واستغلال الغاز الصخري، الذي يستنزف الثروات الباطنية من الماء ويساهم بشكل كبير في تدمير البيئة الصحراوية.
ويقول مراقبون إن إمعان الحكومة في استغلال المياه الجوفية يتعارض مع تحركات كانت قد اتخذتها السلطة قبل سنوات لمقاومة الإجهاد المائي، حيث أخضعت عمليات الحفر بالنسبة إلى الخواص لتراخيص تصدرها جهات حكومية، وسنت نصوصا رادعة لأي استغلال يتم خارج خارطتها، واحتفظت لنفسها فقط بأحقية الحفر عند الحاجة الماسة لتوفير ماء الشرب، كما جرى في محافظة تيارت بغرب البلاد.
وتأتي هذه المشاريع بالتزامن مع الاتفاق الثلاثي المبرم خلال الأسابيع الماضية بين حكومات الجزائر وتونس وليبيا، لتنظيم وتأطير استغلال الثروة المائية الموجودة في ما يعرف بالمثلث الجغرافي الذي يربط البلدان الثلاثة، وهو المورد الذي يعتبر في جزئه الجزائري من أكبر خزانات المياه الجوفية في العالم، والمقدر بنحو 60 ألف مليار متر مكعب.
وتركز الدولة الجزائرية في السنوات الأخيرة على المحافظات الجنوبية من أجل بعث النشاط الزراعي بسبب وفرة المساحات والمياه الجوفية، الأمر الذي حوّل محافظات صحراوية -على غرار بسكرة ووادي سوف والمنيعة- إلى سلة غذاء لتلبية الحاجيات المحلية، خاصة في ظل تراجع النشاط في الشمال بسبب زحف الإسمنت والجفاف.
وصرح وزير الزراعة والتنمية الريفية الجزائري يوسف شرفة، لوسائل الإعلام على هامش التوقيع، بأن “المشروع يتمثل في منح 36 ألف هكتار لشركة بونيفيكي فيراريزي الإيطالية بمحافظة تيميمون في الجنوب الغربي للبلاد، لإنتاج القمح الصلب والبقوليات الجافة والبذور، بالشراكة مع الصندوق الوطني للاستثمار”.
وأضاف “الكلفة الاستثمارية للمشروع تبلغ 420 مليون يورو، وسيتم تنفيذه على مدار ثلاثة أعوام، على أن تنطلق حملة الحرث والبذر خلال الخريف المقبل، وأن جني أول محصول سيكون مطلع الصائفة القادمة، ويتضمن المشروع بناء قطب صناعي لتحويل المنتجات الزراعية، به مطحنة ومنشأة للتخزين وأخرى لإنتاج العجائن الغذائية ومرافق أخرى، وسينتج المشروع 170 ألف طن من القمح الصلب و11 ألف طن من الحمص و6 آلاف طن من العدس. وسيمول الطرف الإيطالي 51 في المئة من المشروع، بينما ستكون 49 في المئة المتبقية على عاتق الصندوق الوطني الجزائري للاستثمار”.
ويعد هذا المشروع الثاني من نوعه، بعد ذلك المبرم مع شركة “بلدنا” القطرية لإنتاج الحليب واللحوم والأعلاف، والذي قدرت قيمته المالية بثلاثة مليارات ونصف مليار دولار، ويراهَن عليه لتقليص فاتورة واردات الغذاء التي أنهكت الخزينة العمومية، خاصة في مجال الحليب والأجبان واللحوم.
وكان وزير الزراعة الجزائري قد صرح للتلفزيون الحكومي بأن “حملة الجني لهذا الموسم في الجنوب قد وفرت للخزينة العمومية مليارا و200 مليون دولار، نظرا للإنتاج الوفير من القمح”، لكن تحقيق الاكتفاء الذاتي ظل بعيدا إلى حد الآن، فالبلاد التي تستهلك نحو 12 مليون طن من القمح، تنتج ثلثي الحاجيات في أوفر المواسم الزراعية.
وأكد في تصريحه، على هامش توقيع الاتفاق مع الإيطاليين، أن “من أهداف هذه الشراكة مع إيطاليا المساهمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي للجزائر من الحبوب وخصوصا القمح الصلب، وأن الإنتاج المحلي من القمح الصلب يغطي حاليا نحو 80 في المئة من حاجيات البلد و20 في المئة الأخرى تستورد من الخارج”.
لكن الوزير لم يوضح حجم الحاجيات الحقيقية للبلاد من القمح اللين، باعتباره المصدر الأول في صناعة الخبز والطحين والمنتوجات الاستهلاكية الأخرى، حيث كشفت مصادر إعلامية عن طرح الديوان الجزائري للحبوب مناقصات دولية من أجل التزويد بكميات من القمح اللين، بينما يأتي القمح الصلب ثانيا، ولا يدخل إلا نسبيا في تلك الحاجيات، وهو ما يعلل دخول إنتاج العجائن في جوهر الاتفاق الزراعي المبرم بين البلدين.
◄ إمعان الحكومة في استغلال المياه الجوفية يتعارض مع تحركات كانت قد اتخذتها قبل سنوات لمقاومة الإجهاد المائي
وكان الرئيس الجزائري قد أبدى في مطلع شهر مايو الماضي تفاؤلا بشأن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحاجيات الأساسية لبلاده، في إطار مسعى تكريس السيادة الغذائية، لكنه انتقد أداء الحكومات والمؤسسات السابقة بخصوص ما تعلق بصدقية البيانات المصرح بها.
وذكر أن “الإحصائيات السابقة كانت تشير إلى استغلال أكثر من ثلاثة ملايين هكتار في القطاع الزراعي بالجنوب، لكن الحقيقة هي أقل من مليوني هكتار، وأن أرقام الماشية كانت تذكر 28 مليون رأس من الماشية، لكن الواقع لا يتعدى 17 مليون رأس فقط”.
وتأمل الجزائر في توسيع المساحات الزراعية بجنوب البلاد، بواسطة الشراكات الأجنبية وتشجيع الاستثمارات المحلية، إذ يستهدف الاتفاق المبرم بينها وبين القطريين إنجاز مشروع منظومة زراعية صناعية متكاملة لتربية الأبقار وإنتاج الحليب المجفف ومشتقاته واللحوم والأعلاف، وقد تم تجهيز عقار استثماري يقدر بنحو 120 ألف هكتار مربع، مكونة من ثلاثة أقطاب، حيث يحتوي كل منها على مزرعة لإنتاج الحبوب والأعلاف، ومزرعة لتربية الأبقار وإنتاج الحليب واللحوم، ومصنع لإنتاج مسحوق الحليب.
وسيسمح المشروع بإنتاج 50 في المئة من حاجة البلاد إلى مسحوق الحليب محليا، إضافة إلى تزويد السوق المحلية باللحوم الحمراء، والمساهمة في رفع عدد رؤوس قطيع الأبقار في الجزائر، وسيوفر نحو خمسة آلاف منصب شغل، على أن يتم توسيعه تدريجيا في عدد من محافظات الجمهورية.