ليبيا.. وتسرب التكفير من داخل السلطة

مرة أخرى يطل خطاب الكراهية برأسه من نوافذ المشهد الليبي المعقد، ليؤكد خطورته على المجتمع في غياب السلطة القادرة على قمعه والتصدي للواقفين من ورائه والمستهدفين من أمامه، لاسيما عندما يكون منحاه تكفيريا مرتديا عباءة الحقيقة المزعومة لدى من يعتقدون أنهم مالكوها الحقيقيون والمؤهلون دون غيرهم لاعتمادها سربالا يتسربلونه ومنهجا يتخذونه وجدارا يستندون إليه.
وخلال الأيام الماضية، عادت النزعة التكفيرية الخبيثة لتستهدف أتباع المذهب الإباضي في ليبيا وهم عموم مواطنيها الأمازيغ، بما أطلق مرة أخرى صفارة الإنذار أمام السلطة القائمة والمجتمع المنقسم على ذاته، وطرح ضرورة العمل على الخروج من بؤرة الخطر الذي يتهدد الجميع، حيث لا طريق للخلاص ولا منطلق للحل إلا بإعلاء روح المواطنة، وتكريس مبدأ المساواة، والتأكيد على أن لا فضل لليبي على ليبي إلا بما يقدمه من واجب الانتماء وحق الوطن عليه.
إن أخطر ما كشف عنه الموقف التكفيري الأخير الموجه ضد الإباضية في ليبيا، هو تسرب خطاب التكفير من داخل السلطة ذاتها، وهو أمر بات معتادا في الكثير من الدول التي يصبح فيها المسؤول السياسي تابعا ذليلا لرجل الدين، كما تبين جملة من المعطيات من أبرزها:
التيار السلفي الذي يزعم أن لا علاقة له بالسياسة، يقدم من خلال فتاواه التكفيرية هدايا ثمينة لتيارات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان
أولا، لا يمكن إنكار حقيقة مهمة، وهي تغلغل التطرف الديني في مؤسسات الحكم سواء في طرابلس أو بنغازي من خلال جماعات سلفية (علمية) متشددة، تحاول إخضاع المجتمع الليبي لإرادتها بالتحالف مع السلطات المهيمنة على مراكز القرار السياسي والعسكري، وتسعى إلى إقصاء مختلف التيارات الأخرى وخاصة المذهب الإباضي السائد في مناطق الأمازيغ والطرق الصوفية المنتشرة في مختلف أرجاء ليبيا والتي كان لها دور أساس في الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للبلاد لقرون عدة وكذلك في مقارعة الاستعمار الإيطالي، حيث إن الأسرة السنوسية كانت بالأساس مدرسة صوفية من بين رموزها الملك إدريس السنوسي والمجاهد عمر المختار.
ثانيا، إن التيار السلفي الذي يضع يده على الأوقاف في طرابلس لا يختلف في موقفه من الإباضية عن نظيره في المنطقة الشرقية الذي سبق وأن أفتى في العام 2017 بتكفير أتباع المذهب الإباضي، وذلك من خلال فتوى أصدرتها اللجنة العليا للإفتاء التابعة للحكومة المؤقتة في البيضاء على موقعها الرسمي إجابة عن أحد السائلين حول حكم الصلاة خلف الإباضيين، فأجابت بأن الصلاة لا تجوز وراءهم، مشيرة إلى أن عندهم عقائد كفرية، واعتبرتهم من الباطنية الخوارج.
كما برزت لاحقا فتاوى عضو المجلس الأعلى لدار الإفتاء بطرابلس طارق درمان بأن الإباضية من فرق الخوارج، تعبيرا منه عن قناعة لدى من يقدمون أنفسهم على أنهم شيوخ المالكية وحماة السنة والزعماء الروحيون للدولة والمجتمع.
ثالثا، إن التيار السلفي الذي يزعم أن لا علاقة له بالسياسة، يقدم من خلال فتاواه التكفيرية هدايا ثمينة لتيارات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان، التي عادة ما تسارع إلى التنديد بتلك الفتاوى، وإلى الدفاع عن المستهدفين بها، لتظهر جماعة الإخوان مثلا في صورة التنظيم المؤمن بحرية العقيدة وبوحدة المجتمع تحت غطاء المواطنة، بينما يدين السلفيون أنفسهم بمواقفهم المكفرة لمن يختلف معهم في المذهب أو في الطائفة أو حتى داخل المذهب نفسه، والتي تعتبر قنابل موقوتة في صدور السذج والبسطاء وممن يمكن التلاعب بمشاعرهم الدينية بما يحولهم لاحقا إلى متطرفين إرهابيين، حيث لا يفصل السلفي عن تحويل التكفير إلى تفجير إلا التحول إلى ضفة الانتماء السياسي كما حدث مع تيار السروريين أو تيار السلفية الحركية الذي ظهر منذ ثمانينات القرن الماضي ليشكّل بداية التأسيس الفعلي لظاهرة الإرهاب الديني.
أخطر ما كشف عنه الموقف التكفيري الموجه ضد الإباضية في ليبيا، هو تسرب خطاب التكفير من داخل السلطة ذاتها، وهو أمر بات معتادا في دول يصبح فيها المسؤول السياسي تابعا ذليلا لرجل الدين
رابعا، إن بعض التيارات الدينية لا تكتفي باعتقادها أنها تمتلك الحقيقة، وإنما تزعم أن لديها أحقية السيطرة على الأرض بصفتها دار إسلام، ومن وراء ذلك تحسب أن لها الحق في ممارسة الحكم أو على الأقل مصاحبة الحاكم في إدارة الشأن العام، وصولا إلى إقصاء من تعتبره غير جدير بالمشاركة في الانتماء إلى منظومة المجتمع التي تسعى لبسط نفوذها عليه، ولعل من الصعب فصل الإشارات المعادية للإباضية التي ظهرت خلال السنوات الماضية عن الصراع القائم على السلطة والثروة في البلاد، لاسيما أن اعتناق المذهب الإباضي في ليبيا وشمال أفريقيا عموما يبقى حكرا على الأمازيغ بخصوصياتهم العرقية والثقافية والاجتماعية.
خامسا، يتخذ الأمر أبعادا أكثر خطورة، إذا تم النظر إلى الإشارات التكفيرية التي تستهدف الإباضية في ليبيا على أنها جزء من اللعبة السياسية بما في ذلك محاولة الإمعان في تهميش الأمازيغ وحرمانهم من حقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية، وقطع الطريق أمام طموحاتهم الشرعية كمكون أساسي من مكونات المجتمع الليبي في شموليته التي من المفترض أنها غير قابلة للتقسيم.
سادسا، إن محاولات البعض استعمال التكفير المذهبي للنفخ في كير العنصرية القومية، تمثّل تحريضا عمليا ضد هذا التيار أو ذاك، وهو أمر يجب أن يواجه بقوة العقل والحكمة وبسلطة الدولة وسلطانها لمنع الانحدار إلى التحريض المباشر الذي لا ينتج عنه إلا الدمار والخراب، كما حدث في دول عدة.
ولعل الاستنتاج الأهم الذي يفرض نفسه في مثل هذا الواقع، هو أن التكفير لعبة تستهوي المتطرف في أي زمان ومكان، وهو جزء أصيل من عقائد من يحسبون أنفسهم أوصياء على الدين مالكين لحقيقته مسؤولين عن شأفته، ويبحثون دائما عن منافذ للتمدد والتوسع وبسط النفوذ، ولا يمكن تحديد حركته ولا قمع عدوانيته إلا بقوة الدولة وعظمة قدرتها على حماية المختلفين من أبنائها تحت ظل رايتها الوطنية بعيدا عن لعبة المزايدات والمساومات واستغلال الدين أو المذهب لخدمة هذا الطرف أو ذاك.