أمازيغ ليبيا ورمزية رأس جدير

لن يكون من السهل تجاهل حقوق أمازيغ ليبيا الذين يقولون إنهم انتفضوا ضد القذافي عام 2011 لأنه أنكر عليهم خصوصياتهم الثقافية، واتهموا الجنرال خليفة حفتر بالشوفينية القومية لأنه أطلق على قواته اسم الجيش العربي الليبي، ومستعدون للتصدي لحكومة عبدالحميد الدبيبة لأنها ترغب في إقصائهم من مكاسبهم الرمزية التي كانوا حققوها قبل 13 عاما في معبر رأس جدير الحدودي المشترك مع تونس.
يرى الأمازيغ أن وجود رايتهم القومية ترفرف فوق معبر رأس جدير، يرمز إلى شرعنة قضيتهم وتكريس حقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية في غرب ليبيا، ويعطيهم مكانة الريادة بين نظرائهم في المنطقة، حيث يبدون وكأنهم نجحوا في التمهيد لتشكيل إقليمهم الخاص الذي ما انفكوا ينادون به ويدعون إلى دسترته.
في يوليو 2011، وخلال اجتماع لقيادات عدد من الميليشيات المسلحة الليبية في مدينة تطاوين التونسية مع ممثلي أجهزة استخبارات دولية، جرى النقاش حول الطريقة التي سيتم اعتمادها لاقتحام العاصمة طرابلس بعد أن يكون طيران الناتو قد مهد الطريق للإعلان رسميا عن الإطاحة بنظام القذافي. عندئذ اقترح الأمازيغ أن يتم الاقتحام انطلاقا من الجنوب الغربي من قبل قوات تنزل من الجبل الغربي، وهو ما حدث فعلا، وكانت طلائع سيارات المسلحين ترفع العلم الأمازيغي في إشارة ليس إلى هوية المقتحمين فقط، وإنما إلى شرعنة حقوق الأمازيغ وتأكيد دورهم في التمرد المسلح على النظام السابق الذي يرون أنه قمع حقوقهم الثقافية وتبنى نظرية القومية العربية التي تتناقض مع خصوصياتهم الإثنية في سياق ما يسمى بصراع الهويات في المنطقة.
لا يختلف عاقلان في أن من حق الأمازيغ الدفاع عن حقوقهم القومية في سياق بناء النظام الديمقراطي التعددي الذي أصبح الحل المناسب لتمكين جميع الأطراف الأساسية من تحقيق وجودها
في تلك الأثناء، سيطرت ميليشيات مدينة زوارة التي تمثل أمازيغ الساحل على معبر رأس جدير ورفعت فوقه علم “تامزغا” بدعم مباشر من أمازيغ الجبل، تم اعتبار الحدث منعطفا تاريخيا مهما، ورأى فيه صانعوه بداية موفقة لمشروع قومي يمتد في عموم المنطقة، وسعى الإسلاميون إلى دعم ذلك المشروع باعتباره تأكيدا على منطلق أساسي لمشروعهم العقائدي وهو جعل الرابطة الدينية وحدها رمزا لوحدة المجتمع، واستبعاد الفكر القومي العربي الذي ينظر إليه الإسلام السياسي كعدو لدود من غير الممكن التعايش معه.
في العام 2013، بدأت تطلعات الأمازيغ تنكسر على صخرة التوازنات السياسية الداخلية والخارجية، وهو ما جعلهم يرفضون مشروع مسودة قانون انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور اعتراضا على ما اعتبروه تمثيلا شكليا لمكونات المجتمع، وذلك قبل أن يصوت عليه المؤتمر الوطني العام (البرلمان) في صورته النهائية.
منذ ذلك الوقت، شهدت العلاقة بين الأمازيغ ومؤسسات الدولة حالة من التعقيد التي سيكون لها تأثيرها السلبي على المشهد السياسي ككل. يرى الأمازيغ أن من حقهم دسترة حقوقهم الإثنية وفي مقدمتها الاعتراف بلغتهم القومية كلغة رسمية، واعتمادها في المؤسسات التعليمية، وتكريس إصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية تحترم خصوصيات الشعوب الأصلية وتعترف بحقها في إدارة شؤونها.
يعتقد الكثيرون أن دعوات أمازيغ الجبل والساحل تصبح أكثر تعقيدا عندما تتجه لضم أمازيغ الصحراء المعروفين باسم الطوارق، لاسيما في ظل التمدد العرقي والقبلي في دول الجوار، ومنها دول الساحل الأفريقي، وأن تمكين الأمازيغ من حقوقهم التي يطالبون بها ستعطي للتبو حق المطالبة بحقوقهم باعتبارهم من الشعوب الأصيلة، وهو ما قد يفتح المجال واسعا أمام تقسيم ليبيا وانفصال جنوبها نتيجة حالة التجاذب القائمة بين مكوناته العرقية والثقافية، ونتيجة الأطماع الخارجية التي لا تخفى عن أحد وخاصة في ظل صراع النفوذ القائم حاليا والذي يمكن أن يتطور خلال السنوات القادمة بشكل يدفع نحو تغيير كامل للخارطة الجيوسياسية لشمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
أمازيغ ليبيا تربطهم علاقات قوية مع أطراف عدة في الداخل والخارج، ولا يمكن فصلهم عن محيطهم الأمازيغي في شمال أفريقيا، ولا عن روح التحرر والانعتاق
لا يختلف عاقلان في أن من حق الأمازيغ الدفاع عن حقوقهم القومية في سياق بناء النظام الديمقراطي التعددي الذي أصبح الحل المناسب لتمكين جميع الأطراف الأساسية من تحقيق وجودها تحت مظلة حكم فيدرالي على غرار ما كان سائدا مع بدايات دولة الاستقلال ودستور 1951 الذي لا يزال هناك من يعتبره أداة ممكنة للخروج من الأزمة المستفحلة في البلاد منذ العام 2011.
يعتبر الأمازيغ أنفسهم ضحايا لسياسة التهميش المتعمد، ولمحاولات إنكار خصوصياتهم الثقافية والاجتماعية وحتى العقائدية باعتبارهم من أتباع المذهب الإباضي، وهم يقولون إنهم غير مستعدين للتنازل عن حقوقهم، ولا عن المكاسب البسيطة التي تحققت لهم، والتي يرمزون لها بعلمهم المرفوع فوق معبر رأس جدير.
لا تتجاوز نسبة الأمازيغ 5 في المئة من سكان ليبيا، لكن لا أحد يستطيع تجاهل دورهم التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ولا قدرتهم على تغيير المعادلة في المنطقة الغربية عندما يسعون إلى فرض إرادتهم، وهم الذين يرتبطون بعلاقات قوية مع أطراف عدة في الداخل والخارج، ولا يمكن فصلهم عن محيطهم الأمازيغي في شمال أفريقيا، ولا عن روح التحرر والانعتاق التي عادة ما تقود تطلعات وطموحات الشعوب الأصلية عندما تجد نفسها عرضة للتهميش.
ولعل ما يدور في رأس جدير منذ العام الماضي، والذي تفاقم في منتصف مارس الماضي ما أدى إلى إغلاق المعبر، يشير إلى جملة من الاستنتاجات منها أن سلطات طرابلس غير قادرة على فرض قرارها على الأمازيغ، وهي تدرك أن محاولة إجبارهم على مغادرة المعبر بالقوة، تعني الدفع نحو حرب أهلية دامية، وربما نحو صراع عرقي بين العرب والأمازيغ، لاسيما أن الأمازيغ اتهموا وزير الداخلية عماد الطرابلسي باعتماد العنصرية والكراهية والنزعة القبلية والشوفينية في التعامل معهم، في إشارة واضحة إلى تحدره من قبائل الزنتان التي تشترك معهم في محيط جغرافي واحد بجبل نفوسة كما يسمونه أو الجبل الغربي كما يسميه العرب.