المسرح الجماهيري تلاشى وانقرض في العراق

دخلت الفنانة العراقية أميرة جواد عالم التمثيل من باب السينما وهي طفلة، لتخوض إثر ذلك تجربتها انطلاقا من خشبة المسرح التي تعتبر منشأ موهبتها ووعيها الفني، وقدمت الكثير للمسرح قبل أن تذهب إلى التلفزيون والدراما والسينما، بينما تبقى الخشبة حلمها الأول والأهم كما تقول في هذا الحوار معها حول تجربتها.
أحمد سميسم
بغداد – وقفت أميرة جواد أمام الكاميرا وعمرها أربع سنوات، لذا تعد أصغر فنانة عراقية ظهرت على الشاشة، وتحديدا في السينما عبر الفيلم الروائي “ليالي العذاب” عام 1959، لتخط مسيرة جعلتها فنانة شاملة، زرعت محبتها في نفوس ووجدان الجمهور العراقي فكانت نجمة بكل المعايير.
وضعت جواد بصماتها الفنية في كل مجالات الفن بداية من خشبة المسرح، فيكاد لم يذكر مجال فني إلا وفيه اسمها سواء في المسرح أو التلفزيون والسينما، وقد شكلت حضورا فنيا لافتا في المسرح فكانت لها أعمال مسرحية خالدة لا تنسى مثل مسرحية “حرامي السيدية” و”حرم صاحب المعالي” و”حافي ومتعافي” و”كان ياما كان” وغيرها من المسرحيات، فضلا عن أعمالها التلفزيونية والأدوار المهمة التي جسدتها، وهي بنت المخرج والمنتج المعروف جواد الشيخلي، الذي وضعها على أولى محطات الفن فانطلقت منها إلى عوالم الجمال، فيما تسكنها الأمومة فهي فنانة بمرتبة “أم” فقدت فلذة كبدها ولدها الوحيد، لذا نراها قد تبكينا كثيرا حين تكون “أما” في الشاشة أكثر من الأدوار الأخرى.
تجربة طويلة
الفنان العراقي أصبح كالجندي الذي يقاتل في ساحة الحرب من حيث مواجهة التحديات الكثيرة منها المنافسة الشرسة
أميرة جواد بنت المسرح وليست بنت التلفزيون، تقول الفنانة عن ذاك “قد أكون بنت المسرح مثل ما تفضلت لكن باعتقادي أن الفنان ليس ابنا لمجال فني واحد، بل هو ابن لكل المجالات التي عمل وأبدع فيها، المسرح مسؤولية كبيرة وفضاء رحب ومواجهة حقيقية مع الجمهور وأنا من عشاقه، الفنان حين يعتلي خشبة المسرح يكون فارسا يقود ما لا يقل عن 500 متفرج من الجمهور الكريم. لكنني أنتظر نصا مسرحيا جيدا ومخرجا من فرسان المسرح لكي أعود إلى المسرح من جديد”.
كان والدها الراحل جواد الشيخلي منتجا ومخرجا، نسألها إن كان هو من أدخلها عتبات الفن، لتجيبنا “بالتأكيد لولا والدي لما كنت في مجال الفن. كانت أولى محطاتي الفنية عبر الفيلم الروائي الطويل ‘ليالي العذاب’ الذي عرض عام 1965 من إخراج وإنتاج والدي، وكان عمري حينها لم يتجاوز الأربع سنوات، جسدت دور البطلة في ذلك الوقت، لذا أنا أصغر ممثلة عراقية تقف أمام الكاميرا وأصغر ممثلة أيضا تعتلي خشبة المسرح من خلال مسرحية ‘شرين وفرهاد’ عام 1972 وكنت حينها في الصف الثاني المتوسط”.
المكان والطفولة يؤثران في المبدع، نسأل جواد إن تأثرت بمنطقة باب الشيخ في بغداد حيث تسكن وطفولتها، لتقول “ولدت في منطقة شارع الكفاح ببغداد (سوق حنون)، أما منطقة باب الشيخ فمنطقة سكننا الأصلي، ولقبت أسرتنا بلقب ‘الشيخلي’ نسبة إلى باب الشيخ، أما نحن فننتمي إلى عشيرة السادة (النعيم)، أستطيع القول إنني اكتسبت من منطقتي الطيبة والبساطة والعفوية والإنسانية لذا طباع شخصيتي اكتسبتها من باب الشيخ تلك المنطقة العتيدة”.
كان انضمامها إلى الفرقة القومية للتمثيل عام 1972 بمثابة انعطافة في حياتها الفنية، وهذا ما تؤكده الفنانة مستعيدة كيف دخلت وهي فتاة شابة فتية إلى مكان مهم ومؤسسة رسمية حكومية لها ثقلها الفني ألا وهي الفرقة القومية للتمثيل وتصبح عضوا فاعلا فيها، وقد وجدت كل الترحيب والاحتواء في هذه الفرقة لاسيما من قبل الفنانين صفوت الجراح وقاسم الملاك اللذين وقعا عقد عمل معها وخصصا سيارة خاصة لها للتنقل حينها.
المسرح مسؤولية كبيرة ومواجهة حقيقية مع الجمهور وجواد من عشاقه لكنها تنتظر نصا مسرحيا جيدا لتعود إليه
جسدت جواد دور الأم في أعمالها الفنية أروع تجسيد، نسألها أيهما أصعب دور الأم في الواقع أم في التمثيل؟ لتقول “أكثر الأدوار التي جسدتها كانت حقيقية بالنسبة إلي لاسيما أدوار الأم، لذا دوري في مسلسل ‘خان الذهب’ بشخصية ليلى كانت تمثلني من الألف إلى الياء بمعنى ليلى هي أميرة جواد في الواقع، لذلك الشخصية لم تجهدني وكان أدائي تلقائيا وصادقا وهذا ما لمسه الجمهور من خلال الشاشة”.
وتضيف “لكن بالمقابل الشخصية حملتني الكثير من الوجع، لذلك الشخصية نالت إعجاب الجمهور وأحبها طيلة حلقات المسلسل، وأكشف لكم سرا، الشخصية مست مشاعري بصورة مباشرة كوني أم فقدت ولدها، لذا لم أفكر كم ستكون أجوري؟ أو اسمي أين سيكون في تايتل المسلسل؟ وهل صورتي ستكون موجودة في بوستر المسلسل أم لا؟ كل تلك الأشياء لم تكن تعنيني بقدر تعلقي وحبي لأداء الشخصية، فضلا عن أن المسلسل أعادني إلى الشاشة بعد غياب 8 سنوات عن المسلسلات”.
على ما يبدو معايير النجاح للفنان الممثل اختلفت الآن عما كانت في السابق في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة، وتلفت جواد إلى أننا نمر بمرحلة صعبة في ما يخص معايير النجاح، الفنان العراقي أصبح كالجندي الذي يقاتل في ساحة الحرب من حيث مواجهة التحديات الكثيرة منها المنافسة الشرسة، وصراع مواقع التواصل الاجتماعي، والمعايير غير الحقيقية في النجاح وغيرها من العقبات.
وتضيف “أصبح للأسف أحد معايير النجاح المشوهة هو متابعات الفنان على مواقع التواصل الاجتماعي، فكلما كانت المتابعات مرتفعة كانت حظوظ الفنان وفيرة في اشتراكه في الأعمال الفنية، وهذا ما يبحث عنه بعض المخرجين، الفنان الحقيقي الذي لديه رصيد من الأعمال الناجحة والمؤثرة لن يحتاج إلى هذه البهرجة ولن يحتاج إلى من يبحث عنه بل تاريخه واسمه هما اللذان يدلان عليه للاشتراك في الأعمال الفنية”.
حول الدور أو العمل الذي تعده العمل الأبرز الذي يمثلها، تقول جواد “هذا السؤال صعب، اشتغلت كثيرا من الأعمال الجميلة التي ما زالت راسخة في ذاكرة الجمهور على مدى مسيرتي الفنية وبعض الأعمال قد لا تروق لي، من ضمن تلك الأعمال التلفزيونية البارزة ‘بيتنا وبيوت الجيران’، ‘نادية’، ‘عنفوان الأشياء’، ‘مضت مع الريح’، ‘زمن حيران’ وغيرها من المسلسلات الشعبية الرائعة، لكن أستطيع القول إن العمل الأبرز الذي توج أعمالي السابقة بنجاحات كبيرة هو دوري الأخير في مسلسل ‘خان الذهب'”.
1989
نجت الفنانة بأعجوبة من حادث سير بمدينة داقوق في كركوك حيث انقلبت بها السيارة عدة مرات
جسدت جواد عددا من الأدوار التي وصفت بأنها جريئة مثل فيلم “افترض نفسك سعيدا”، تعلق الفنانة العراقية “دوري في فيلم ‘افترض نفسك سعيدا’ كان مرشحا للفنانة المصرية ناهد يسري، إلا أنها اعتذرت عن المشاركة في الفيلم لأسباب أجهلها، الفنان قاسم الملاك والفنان وجيه عبدالغني اتصلا بي وأبلغاني بالمجيء إلى الشركة وعرضا علي دوري الجريء في الفيلم”.
وتضيف “كنت أعمل حينها في مسرحية ‘البيتونة’، وبعد قراءتي للشخصية انتابني شيء من الخوف لجرأة الدور، بعدها أبلغت الفنان قاسم الملاك بترددي وخوفي من تجسيد الدور، وقال لي ‘أميرة لا تخافي نحن معك ولا نقبل أن تتضرري اطمأني’. كنت حينها في خصام مع زوجي وعلى وشك الانفصال ما زاد خوفي أضعافا بأن يساء فهمي في اشتراكي في الفيلم، شجعني الفنان قاسم الملاك على الاشتراك وفعلا جسدت الدور، وكان أجري الأعلى حينها، وحقق نجاحا ساحقا، ولم يستطع أحد أن يوجه سهام الانتقاد نحوي كوني عملت الدور بصورة مهذبة غير مبتذلة (الممنوع المرغوب) ونال الدور تعاطف واستحسان الجمهور”.
الذات والفن
نجت الفنانة بأعجوبة من حادث سير بمدينة داقوق في كركوك عام 1989، حيث انقلبت بها السيارة عدة مرات، تستعيد تلك الحادثة وتقول “كنت ذاهبة لزيارة أختي التي كانت على وشك أن تلد ولا بد أن أكون بجانبها، وكنت أقود سيارتي برفقة ابنتي نور فجرا بسرعة عالية تصل إلى 140 كم في الساعة لكي أصل وأعود مبكرا، وفجأة ينفجر إطار السيارة الأمامي ولم أستطع السيطرة على مقود السيارة، فانقلبت 14 مرة وارتطمت السيارة بسياج مزرعة على جانب الطريق”.
وتتابع “حينها كان هناك رتل عسكري مار من هناك يعود إلى وزير الداخلية العراقي آن ذاك، فترجل الوزير ومن معه لمساعدتي وإخراجي من تحت السيارة بصعوبة، وأخذوني إلى المستشفى، وتبين أن هناك كسرا في العمود الفقري وإصابات لابنتي أيضا، لحظات قاسية لا تنسى وأنا في ذلك الموقف كنت أفكر بأختي المحتاجة إلى المال ومساعدتها لإجراء عملية الولادة”.
نسأل جواد ما الحلم الذي ضاع من بين يديها؟ فتجيبنا “أحلم بأن تكون لدي أسرة كبيرة من أولاد وبنات، الآن أسرتي تضم بنتي وأنا فقط، بعد وفاة ابني الوحيد علي، لذا حلمي أن أنتمي إلى أسرة كبيرة تسندني عندما أكبر وتحمل عني عبء الحياة. حينما كنت شابة لم أفكر بأن يكون لدي أبناء، الآن وبعد تقدم العمر بدأت أشعر بقيمة الأبناء وألفة الأسرة”.
ونسألها لو يعود بها الزمن إلى الوراء ما الشيء الذي لن تفعله مطلقا؟ فتقول “لو يعود بي الزمن لن أنفصل عن زوجي الفنان الراحل صبحي العزاوي، كان من الممكن أن نصلح الأمر بيننا وأعتبر انفصالي غلطة عمري الذي كان متسرعا وغياب الحكمة نتيجة تراكمات من المشاكل”.
نعيش اليوم في زمن الأقنعة وهذا ما تؤكده جواد نسبيا قائلة “ربما زمننا هو زمن الأقنعة لكن ليس بشكل مطلق، مازالت الطيبة والناس الجيدون موجودين بيننا، لكن إذا كان هناك شخص يرتدي قناعا فلدي القدرة على التمييز ما بين الوجه الحقيقي والوجه المزيف، وكشفت الكثير من المختبئين وراء القناع”.
نسأل الفنانة عن الشيء الذي لن تنساه حتى لو فقدت الذاكرة، فتجيب بمرارة “وفاة ابني ومرضه، جرح لا يندمل لن أنساه مطلقا مهما عصفت بي الظروف”.
يقال إن جواد تزاول الخياطة وهذا ما تؤكده إذ تقول “نعم زاولت مهنة الخياطة وكنت خياطة ماهرة، ومعظم الأزياء التي كنت أرتديها في أعمالي الفنية هي من خياطتي، وكنت أخيط أيضا لأخواتي وأمي وبعض الصديقات المقربات مجانا، وفي زمن الحرب والحصار اضطررت إلى أن أتخذ الخياطة مهنة لتسد احتياجاتي المالية، وهناك فنانة بارعة أيضا في الخياطة وأفضل مني هي الفنانة القديرة إنعام الربيعي”.
حول الشخصية التي تحلم بتجسيدها يوما ما، تقول جواد “جسدت الكثير من الشخصيات خلال مسيرتي الفنية، البرجوازية، الشعبية، الفقيرة وغيرها، لكنني كنت أتمنى أن أجسد شخصية كارمن الفتاة البسيطة في عمل مسرحي، لكنني قدمت عملا مسرحيا يشبه كارمن وهي مسرحية ‘سيدتي الجميلة’ من تأليف رحيم العراقي، وكنت أتمنى أيضا أن أشارك في أعمال السير الذاتية المهمة مثلا أحلم أن أجسد شخصية أحلام وهبي، ومائدة نزهت، وزها حديد وغيرها من الشخصيات الفذة التي تركت أثرا في مجتمعنا العراقي”.
شكلت أميرة جواد والفنانة ليلى محمد ثنائيا جميلا في الفن الاستعراضي الهادف من على خشبة المسرح، بعدها لم نشاهد ظهور فنانة استعراضية بنفس إمكاناتهما، نسألها هل انقرض الفن الاستعراضي؟
تقول جواد “المسرح الجماهيري موجود في كل العالم، في فترة من الزمان أحيينا المسرح الجماهيري في بغداد وكنا نقدم فنا استعراضيا هادفا برفقة الفنانة ليلى محمد على مدى ست سنوات، تلك العروض التي كانت تحظى بحضور وقبول كبيرين من قبل الجمهور، قدمت ثلاث مسرحيات لا تنسى مثل ‘حافي ومتعافي’ و’حرامي السيدية’ و’الخشابة’، وكل مسرحية استمر عرضها لسنتين متتاليتين، نعم المسرح الجماهيري تلاشى وانقرض في العراق للأسف، كنت أتمنى أن تظل مسارحنا ترفل بالعروض المسرحية الهادفة البعيدة عن الابتذال والسذاجة سواء كان مسرحا جماهيريا أو جادا، أو كوميديا”.
عاصرت جواد الكثير من الأجيال الفنية على مدى عقود من الزمن، نسألها عن نظرتها إلى الجيل الفني الجديد، فتقول “الجيل الفني الجديد متفاوت في السلوك والأداء، بعضه يستمع للملاحظات من الفنانين الذين سبقوه برحابة صدر والبعض الآخر لا يستمع ولا يتقبل الملاحظة أصلا، فعلى سبيل المثال كانت هناك أسماء كثيرة من الفنانين الجدد في مسلسل ‘خان الذهب’ معظمهم كانوا أصحاب موهبة ونجحوا كالفنانة سارة والفنانة رويدة وأميمة وآخرين”.