إحاطة خوري على خطى سابقيها

إمكانية تقسيم ليبيا لم تعد مجرد طرح تشاؤمي وإنما هي جزء مهم من الواقع المطروح على طاولة النقاش اليومي لاسيما في ظل التدخل الخارجي الذي لم يعد خافيا على الشعب الليبي.
الجمعة 2024/06/21
مرحلة جس نبض الفرقاء

بعد شهرين من استقالة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي، أكدت القائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ستيفاني خوري، في إحاطتها الدورية أمام مجلس الأمن الدولي، أنها أجرت لقاءات في مدن من شرق البلاد وغربها مع قيادات سياسية ومسؤولين وأكاديميين ومع منظمات المجتمع المدني ومجموعات نسائية وقيادات عسكرية وممثلين عن المكونات الثقافية وأصحاب الأعمال، بالإضافة إلى أعضاء المجتمع الدبلوماسي، وأن الأغلبية الساحقة من المواطنين الليبيين أعربت عن الحاجة للتوصل إلى اتفاق سياسي كي يتسنى إجراء انتخابات وطنية ذات مصداقية تفضي إلى إعادة الشرعية لجميع المؤسسات، وقد ناقشت ضرورة وجود عملية تتحرى الشمول يقودها الليبيون لتخطي الجمود السياسي ومساندة الشعب الليبي في تحقيق تطلعاته نحو السلام والاستقرار والازدهار والديمقراطية.

تلك الحوارات، كانت منطلقا لإعادة تشكيل فكرة المبادرة بإطلاق خطة لحلحلة الأزمة، أو ما يفترض أن تكون عليه أي عملية سياسية مستقبلية، بما في ذلك دور الأطراف المؤسسية الليبية الخمسة الرئيسة، ومن ضمنها مجلسا النواب والدولة، أو حوار بمشاركة أوسع، أو مزيج من هذا وذاك، فضلا عن مبادرات أخرى.

والواضح من خلال إحاطتها، أن خوري لا تزال تعمل على جس نبض الفرقاء الأساسيين في المشهد الليبي العام بأبعاده ومرجعياته السياسية والاجتماعية والثقافية والميدانية، وكذلك القوى الإقليمية والدولية ذات العلاقة، لتحديد الأولويات التي يمكن أن ينبني عليها أي مشروع للحل، لاسيما في ظل التعقيدات التي ما انفكت تتشكّل نتيجة الصراع الداخلي على السلطة، والنزاع الخارجي على النفوذ والهيمنة.

◄ إحاطة خوري لم تختلف عن إحاطات سابقيها، وإنما جاءت لتؤكد أن الأزمة لا تزال تتفاقم، وأن طريق الحل لا يزال طويلا، ولتكشف من جديد أن هناك شركاء من الداخل والخارج يستفيدون من استمرار النزاع

قالت خوري إن نسبة مهمة من الليبيين الذين تحدثت إليهم، أشاروا إلى أهمية تبني ميثاق أو اتفاق يؤكد على احترام الأطراف للنتائج التي ستفضي إليها الانتخابات. وبالمثل، شدد البعض على أهمية إدراج ما يكفي من تفاصيل وآليات تنفيذ أي اتفاق مستقبلي لضمان التزام الأطراف ببنوده، وطرحوا أفكارا حول خارطة طريق تتناول الجوانب الجوهرية بما فيها التركيز على الإشكاليات المتعلقة بتشكيل حكومة مؤقتة والخطوات الكفيلة بالتوجه نحو إجراء الانتخابات.

من هنا فتحت المسؤولة الأممية بابا للنقاش حول أحد العراقيل المسكوت عنها في طريق الحل السياسي، وهي عدم ثقة الفرقاء في أن نتائج الانتخابات ستحظى بقبول الخاسرين وخاصة من حملة السلاح، وقد كانت هناك سابقة واضحة في صيف 2014 عندما فشلت تيارات الإسلام السياسي في الحصول على أغلبية مقاعد مجلس النواب، واختارت في سياق تحالفاتها مع الجماعات المسلحة ذات النزعة الجهوية والمناطقية، والمدفوعة بمنطق المدن والفئات المنتصرة بقوة سلاح الناتو في العام 2011، الانقلاب على النتائج بالاعتماد على منظومة “فجر ليبيا” التي أحرقت الأخضر واليابس، وسيطرت على مؤسسات الدولة، وأسست لمبدأ التقسيم الفعلي للبلاد بعد اضطرار مجلس النواب المنعقد في طبرق إلى تشكيل حكومة خاصة كلفها بإدارة شؤون المناطق الخاضعة لنفوذ قوات الجنرال خليفة حفتر.

ويدرك الليبيون طبيعة القوى الإقليمية والدولية التي وقفت إلى جانب “فجر ليبيا” وهي ذاتها التي ساعدت على انقلاب الإخوان على نتائج انتخابات 2012 بدفع مبالغ مالية ضخمة لشراء ولاء المستقلين الفائزين بمقاليد المؤتمر الوطني العام، عندما كانت هناك خطة واسعة بتمكين الإسلاميين من الحكم في دول ما سمي بالربيع العربي بدءا من تونس وليبيا وصولا إلى مصر على أمل وضع اليد على سوريا مرورا باليمن وما كان مرشحا للالتحاق بقافلة الفوضى الخلاقة.

◄ المسؤولة الأممية فتحت بابا للنقاش حول أحد العراقيل المسكوت عنها في طريق الحل السياسي، وهي عدم ثقة الفرقاء في أن نتائج الانتخابات ستحظى بقبول الخاسرين

أوضحت خوري أن بعض المواطنين والمسؤولين الليبيين، أعربوا عن ضرورة الوقوف على المسببات الجذرية للنزاع مع التركيز على الإشكاليات المتعلقة بالاقتصاد والبنيات الأمنية وهياكل الحكم في ليبيا وضرورة تعزيز اللامركزية والشمول والإنصاف والشفافية، في ما يواصل آخرون الإعراب عن مخاوفهم العميقة إزاء واقع الانقسام على الأرض ووجود مؤسسات حكم موازية. وأشارت إلى أنها تشاطرهم هذه المخاوف، فهي كفيلة بزعزعة الاستقرار الاقتصادي والأمني ناهيك عن تقويضها لسيادة ليبيا ووحدة وسلامة أراضيها وسط مخاوف بشأن تأثير التوترات الجيوسياسية على البلاد.

لم تعد إمكانية تقسيم ليبيا مجرد طرح تشاؤمي، وإنما هي جزء مهم من الواقع المطروح على طاولة النقاش اليومي، لاسيما في ظل التدخل الخارجي الذي لم يعد خافيا على الشعب الليبي بمختلف فئاته وطبقاته ومرجعياته، حيث يدرك الجميع وجود الروس في شرق البلاد مقابل الأتراك وجحافل مرتزقتهم في المنطقة الغربية مع وجود محدود للإيطاليين والبريطانيين وبداية تشكل قوي للحضور الأميركي.

حالة الانقسام لا تزال تتأكد يوما بعد يوم بتكريس المؤسسات الموازية، وفشل جميع الجهود المبذولة لتشكيل حكومة موحدة، بالإضافة إلى استمرار تصدع البنية العسكرية وتحول الجيش الوطني في شرق وجنوب البلاد إلى قوة حكم وسيطرة وإلى نظام سياسي يدار من قبل أسرة الجنرال حفتر، فيما تبدو السلطة في المنطقة الغربية أقرب ما تكون إلى شبكة مصالح محكومة بأجندات أفراد مرتبطين بلوبيات سياسية ومالية وبميليشيات جهوية وعقائدية وبأجندات إقليمية ودولية.

ولا يمكن قراءة إحاطة خوري دون الوقوف عند ملاحظاتها الأمنية، حيث يظل الحد من النزاعات والحفاظ على الاستقرار في طليعة اهتمامات أغلب الليبيين. ففي شهر أبريل، حدثت اشتباكات قصيرة، لكن عنيفة، في منطقة عين زارة المكتظة بالسكان في طرابلس. وفي مواجهة خطر المزيد من التصعيد في العاصمة، شارك قادة التشكيلات المسلحة بنجاح في جهود الحوار لتهدئة الوضع. وفي شهر مايو، جاءت الاشتباكات المتفرقة التي وقعت بين مجموعات مسلحة في منطقتي الجميل والزاوية، وتفجير سيارة مفخخة في طرابلس الأسبوع الماضي، فضلا عن التقارير التي تفيد باستمرار حشد السلاح داخل البلاد، جاءت كلها لتشكل تذكيرا صارخا بهشاشة المشهد الأمني ​​في ليبيا. هذه الديناميكيات تؤكد الأهمية البالغة لتوحيد وإصلاح المؤسسات الأمنية، وأهمية جهود الوساطة المحلية.

◄ خوري لا تزال تعمل على جس نبض الفرقاء الأساسيين في المشهد الليبي العام لتحديد الأولويات التي يمكن أن ينبني عليها أي مشروع للحل

ولا يمكن فصل الوضع الميداني عن وضعية حقوق الإنسان، ولاسيما النمط المتكرر من الاختطاف أو الاعتقال والاحتجاز التعسفي لليبيين. ففي 17 مايو، اختفى عضو مجلس النواب إبراهيم الدرسي في بنغازي. وفي 19 أبريل، توفي الناشط السياسي سراج دغمان في ظروف غامضة أثناء احتجازه في بنغازي. ولا يزال النائب حسن الفرجاني، من بين آخرين، محتجزا بشكل تعسفي في طرابلس. وقد دعت البعثة إلى إجراء تحقيقات شفافة ومستقلة في جميع حالات الوفاة أثناء الاحتجاز وفي حالات الاختفاء، وإلى إطلاق المحتجزين تعسفيا.

ومجرد الوقوف عند هذه النماذج من الانتهاكات، يؤكد أن ليبيا لا تزال تعاني منذ 13 عاما من حالة الفلتان الأمني والإفلات من العقاب، ومن حقيقة تدركها الأمم المتحدة جيدا، وهي أن هناك من القتلة المتورطين في سفك دماء الأبرياء من لا يزال يشارك في الحكم، وهناك من يرى في الإخفاء القسري والتصفية الجسدية والاعتقال وتكميم الأفواه والترهيب وقطع الأرزاق أدوات لضمان ديمومة السلطة والنفوذ.

ولم يكن أمام خوري أن تتجاوز الوضع الاقتصادي الذي بات أشد صعوبة، إذ تواجه الأسر والأعمال التجارية الصغيرة ارتفاعا في الأسعار، وانخفاضا في القدرة الشرائية أو صعوبة في الحصول على النقد، وهو ما يعني أن الثروة التي تنعم بها ليبيا لم تترجم إلى توزيع عادل للموارد وولوج للخدمات وحصول متكافئ على الفرص لجميع الليبيين، ولاسيما الشباب والنساء، وأن النفط الذي لا يزال يتدفق بقوة نحو الأسواق العالمية، تذهب أغلب إيراداته إلى أفراد وجماعات ممن تمرسوا على الفساد وتمترسوا وراء مراكز القرار والنفوذ، وجعلوا من الأموال التي اعتادوا على نهبها من ثروة الشعب ومقدرات الدولة، أداة لنهب المزيد والإفلات من العقاب عبر شراء ضمائر شركاء الصفقات الفاسدة والاعتمادات المزيفة في جماعات الداخل والخارج، فلا أحد سأل لصوص ليبيا عن مصادر الأموال التي يتنقلون بأرصدتها بين العواصم والدول.

لم تختلف إحاطة خوري عن إحاطات سابقيها، وإنما جاءت لتؤكد أن الأزمة لا تزال تتفاقم، وأن طريق الحل لا يزال طويلا، ولتكشف من جديد أن هناك شركاء من الداخل والخارج يستفيدون من استمرار النزاع، ولا تهمهم معاناة الشعب المهموم والمحروم والمظلوم والمقموع والمحكوم عليه بالصمت والصبر في مواجهة غيلان السلطة وهوامير الفساد وأمراء الحرب.

9