عندما تستعرض موريتانيا قوتها العسكرية

اليوم تشكّل تحالف جديد يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو ويمكن أن تنضم إليه تشاد في أية لحظة وهو يرفع شعار حركات التحرير الوطني من النفوذ الاستعماري الفرنسي ومن التبعية للغرب.
الجمعة 2024/06/14
غاب التحالف وحضر النزاع

قبل أيام أعلنت الرئاسة الموريتانية أن الجيش الموريتاني أصبح يمتلك لأول مرة طائرات مسيرة تماشيا مع متطلبات التطور المتسارع للتسليح في العالم، فيما أعلنت الأركان العامة للجيوش أنها بصدد تنظيم رماية تستخدم فيها أسلحة المدفعية وراجمات الصواريخ، لمدة يومين، ابتداءً من الثلاثاء 11 يونيو، وقال الدرك الوطني إنه أطلق تمارين عسكرية وأمنية متزامنة في مناطق متفرقة من موريتانيا، تحت اسم “أزبار 2024”.

يأتي تسارع هذه الأنشطة العسكرية في الوقت الذي تستعد فيه البلاد للانتخابات الرئاسية المقررة في التاسع والعشرين من يونيو الجاري، والتي يخوضها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بثقة كاملة في الاتجاه نحو عهدة ثانية بدعم شعبي جارف.

وفي ذات السياق، يمكن التوقف عن عدد من النقاط المهمة، أولاها أن إعلان الجيش عن أسلحة جديدة ومتطورة، تصرف جديد على تقاليد منظومة الدفاع الموريتاني، حيث لم يتعود الشعب على الاطلاع على مقتنيات المؤسسة العسكرية، وهو ما يعني أن هناك رسالة تريد لها نواكشوط أن تصل إلى من يهمه الأمر.

النقطة الثانية، أن الإعلان عن حصول الجيش على طائرات دون طيار قادرة على تغطية كامل أجواء البلاد، لا يعني فقط تأمين الحدود، ولكن كذلك تأمين الثروات في بلد يتجه نحو تغيير واقعه بعد اكتشافات ضخمة من النفط والغاز، وبعد تكريس الدولة خطة قانونية لاستغلال مناجم الذهب بعد حالة الفوضى التي كانت سائدة منذ عقود.

◄ الكثير من الأطراف عملت على فك فتيل النزاع بين موريتانيا ومالي اللتين يبلغ طول الحدود البرية بينهما 2237 كلم، وتبدو نواكشوط واضحة في سعيها للحؤول دون تكرار سيناريو أحداث 1989

النقطة الثالثة، تشير إلى أن القيادة الموريتانية قادرة على حماية أراضيها ومقدراتها دون الانزلاق في أي صراع غير محسوب العواقب، وهي ترقب الانسياق في معركة النفوذ الجيوسياسي التي تدار بأشكال عدة في المنطقة لا يستثنى منها الاعتماد على الإرهاب والمرتزقة والجماعات الانفصالية.

وبالنسبة إلى النقطة الرابعة، فإن موريتانيا تواجه تدفقا غير عادي للمهاجرين غير النظاميين، وهناك من يسعى إلى جعلها بلد المقر بدل أن تكون محطة الممر، نظرا إلى معطيات عدة لعل أبرزها أن البلاد بدأت تتغير في اتجاه الأفضل، وهي التي تعيش على إيقاع طفرة تنموية مع بداية استغلال الثروات الطبيعية المكتشفة حديثا.

ومن الطبيعي أن الأمر يتعلق كذلك برسالة تخص الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الجنرال القادم من مؤسسة الجيش والذي شغل مناصب عسكريّة وأمنيّة رفيعة من بينها الإدارة العامّة للأمن الوطني، قيادة الأركان، وقيادة الأركان العامّة للجيوش التي استمرّ فيها إلى أن عُيِّن وزيرا للدفاع في أكتوبر 2018، والذي يعرف بأنه كان وراء تأسيس السياسة الدفاعية الموريتانية التي جعلت من البلاد استثناءً في منطقة الساحل، حيث لم تتعرض لأي هجوم منذ عام 2011.

فالجنرال، يدرك جيدا أن الجيش بات مطالبا بالقيام بدور أساسي في تشكيل ملامح موريتانيا الجديدة، وفي مخاطبة المحيط الإقليمي بلغة الحزم لاسيما أن أغلب دول المنطقة باتت محكومة من قبل الجيوش، وكذلك بالحفاظ على وضعية الأمن والاستقرار التي تجعل البلاد حالة استثنائية بين دول الساحل، وهو ما يعطيها دافعا مهما لتتحول إلى نموذج ملهم للشعوب المجاورة.

◄ إعلان الجيش عن أسلحة جديدة ومتطورة، تصرف جديد على تقاليد منظومة الدفاع الموريتاني، حيث لم يتعود الشعب على الاطلاع على مقتنيات المؤسسة العسكرية

تدرك قيادة موريتانيا طبيعة التحولات التي تشهدها من المنطقة، لاسيما بعد حالة التصدع التي أصابت تحالف مجموعة دول الساحل الخمس بعد أن كان إطارا مؤسسيا لتنسيق التعاون الإقليمي في سياسات التنمية والشؤون الأمنية في غرب أفريقيا، وكان قد تم الإعلان عن تأسيسه في 16 فبراير 2014 في ختام القمة الخماسية التي ضمت آنذاك قادة بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، على أن تكون نواكشوط عاصمة المقر، ومنها ينطلق تنظيم التنسيق على مستويات مختلفة وخاصة تنسيق الجانب العسكري من قبل رؤساء أركان الدول المعنية، بهدف تعزيز الروابط بين التنمية الاقتصادية والأمن، ومحاربة تهديد المنظمات الجهادية العاملة في المنطقة  كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، جماعة التوحيد، المرابطون، وبوكو حرام.

اليوم، لم يعد هناك وجود للزعماء الخمسة الذين وقعوا على الاتفاق، فالرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز سجين لمدة خمس سنوات بتهمة الفساد، والرئيس البوركينابي بليز كومباوري محكوم عليه بالسجن المؤبد بتهمة القتل العمد، والرئيس المالي أبوبكر إبراهيم كايتا أجبر على ترك منصبه نتيجة انقلاب عسكري في أغسطس 2020، وأعلن عن وفاته في 29 يناير 2022، والرئيس التشادي إدريس ديبي اثنو توفي في 20 أبريل 2021 على إثر إصابته في مواجهات مع متمردين في شمال البلاد، أما الرئيس النيجري محمد يوسف فهو الوحيد الذي لايزال شاهدا على العصر بشكل يليق برئيس سابق ترك السلطة في الثاني من أبريل 2021 لخليفته محمد بازوم الذي فاز بشكل ديمقراطي قبل أن يطيح به العسكريون في يوليو 2023 ويدفعون به إلى الإقامة الجبرية.

اليوم، تشكّل تحالف جديد يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو ويمكن أن تنضم إليه تشاد في أية لحظة، وهو يرفع شعار حركات التحرير الوطني من النفوذ الاستعماري الفرنسي، ومن التبعية للغرب، والاتجاه نحو روسيا سياسيا وأمنيا ونحو الصين اقتصاديا مع انفتاح واضح على الدول الصاعدة، والاتجاه للاستفادة من مبادرة العاهل المغربي محمد السادس التي كان أعلن عنها في نوفمبر الماضي، بخصوص النافذة المفتوحة لدول الساحل على المحيط الأطلسي.

◄ تسارع هذه الأنشطة العسكرية يأتي في الوقت الذي تستعد فيه البلاد للانتخابات الرئاسية المقررة في التاسع والعشرين من يونيو الجاري، والتي يخوضها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بثقة كاملة

في ظل تلك التحولات، تواجه العلاقات الموريتانية مع مالي تحديات كبرى. في أبريل الماضي اتهمت نواكشوط الجيش المالي وحلفاءه الروس بأنهم لاحقوا مسلحين داخل الأراضي الموريتانية، فيما أرسلت باماكو وفدا رفيع المستوى إلى نواكشوط لمحاولة تهدئة الأمور. وقال مصدر أمني موريتاني آنذاك إن “عددا من مواطنينا المدنيين قتلوا على يد الجيش المالي ومقاتلين من مجموعة فاغنر في معسكرات موريتانية على الحدود”، فيما تحدث وزير الدفاع الموريتاني عن “العلاقات الأخوية والتاريخية التي تجمع البلدين، وأكد أن الحفاظ على هذه الروابط المميزة وتعزيزها مسؤولية جماعية”، وقالت الخارجية الموريتانية: “يستمر هذا الوضع غير المقبول على الرغم من التنبيهات التي دأبت بلادنا على القيام بها بمناسبة الحوادث المماثلة، انطلاقا من مبدأ المحافظة على حسن الجوار والعلاقات الوثيقة بين الشعبين الموريتاني والمالي والمصالح المشتركة بين البلدين”.

عملت الكثير من الأطراف على فك فتيل النزاع بين موريتانيا ومالي اللتين يبلغ طول الحدود البرية بينهما 2237 كلم، وتبدو نواكشوط واضحة في سعيها للحؤول دون تكرار سيناريو أحداث 1989، التي اندلعت إثر نزاع دولي مع السنغال على طول حدودهما المشتركة على نهر السنغال، لتنتهي الأزمة، باتفاق لتقسيم النهر بين الدولتين، ولكن بعد خسائر فادحة في الأرواح والمعدات خلال عامين من المواجهة.

بالمقابل، هناك أطراف تعمل بقوة على توريط موريتانيا في النزاع مع مالي لأسباب جيوسياسية، أو للتشفي من القيادة العسكرية في باماكو، أو لاستنزاف الحضور الروسي في المنطقة. فرنسا ليست وحدها التي تدفع في هذا الاتجاه، وإنما هناك الجزائر التي تشهد علاقاتها مع مالي حالة من التدهور السريع، وهي اليوم تعيش شبه قطيعة مع دول الساحل المنخرطة في مشروع الولوج إلى الأطلسي.

لكن بالتأكيد أن لموريتانيا أشقاء وأصدقاء يمكنها الاستناد عليهم في الوقت المناسب، وهذا ما حصل ويحصل برؤية ثاقبة وروح إيجابية.

9