الشيك بدون رصيد أزمة قانونية واجتماعية تثقل كاهل تونس

تونس – يعكس حجم القضايا المرفوعة في المحاكم التونسية المتعلقة بالشيكات دون رصيد الأزمة القانونية للمدينين، إذ ترتفع نسبة هذا النوع من القضايا بشكل سنوي ولا يقتصر على المستهلكين من الذين يعتمدون آلية الشيكات للتزود بالسلع الاستهلاكية بل يتجاوزهم إلى أصحاب المؤسسات الذين يقضون عقوبات في السجن على خلفية هذه التجاوزات.
ويتعلق ذلك بالأساس بالمؤسسات الصغرى والمتوسطة، مما دفع خبراء إلى الدعوة إلى إعادة النظر في القانون المنظم للشيكات في تونس وتطويره بما يساهم في معالجة هذه القضية التي تحولت إلى معضلة خاصة أن إيداع المدينين السجن يثقل كاهل الدولة ولا يحل الأزمة كما يتسبب في مشاكل اجتماعية.
وهذا الواقع تؤكّده إحصائيات رسمية مسجلة لدى مصالح وزارة العدل التونسية إلى حدود شهر ابريل الماضي، حيث يقدّر العدد الجملي لمن أودعوا السجن من أجل ارتكاب جريمة إصدار شيك دون رصيد، بـ496 شخصا منهم 292 محكوما و204 موقوفا. كما بلغ عدد قضايا شيكات بدون رصيد 11265 قضية أي أن 496 مسجونا قد أصدروا 11265 شيكا باعتبار أن كل صك يكّون ملف قضية.
وصادق المجلس الوزاري في شهر مايو الماضي على مشروع القانون المتعلق بتعديل أحكام الفصل 411 من المجلة التجارية والذي يتضمن بالأساس تعديلا لأركان جريمة إصدار شيك دون رصيد والعقوبات المقررة لها في انتظار أن يتم عرضه على مجلس نواب الشعب.
ويثير هذا القانون جدلا كبيرا في أوساط الأعمال في تونس، فيما تعالت أصوات لتسريع النظر في المبادرات التشريعية لتعديل بنوده التي التي تسببت في تعثر سداد آلاف التونسيين للشيكات لعدم كفاية الأرصدة.
وكانت السلطات التونسية قد أعلنت منذ السنة الماضية عزمها التخفيف من الإجراءات القضائية المتعلقة بقضايا الشيك دون رصيد.
ودعا الرئيس التونسي قيس سعيد في أكثر من لقاء جمعه بوزيرة العدل ليلى جفال، إلى تعديل مشروع القانون المتعلق بإجراء تغيير على الفصل 411 من المجلة التجارية، حيث كلف الوزيرة، في العام الماضي، بتقديم مشروع قانون لإلغاء التجريم في قضايا الشيكات.
وشدّد سعيد في اجتماع الجمعة الماضي، على ضرورة تحقيق التوازن المنشود بين كل الأطراف وتمكين المحكوم عليهم أو الذين هم بحالة فرار من مدة زمنية معقولة تتيح لهم تسوية وضعياتهم، مضيفا "فبالإضافة إلى استرجاع المدينين لأموالهم فإن هذا المشروع سيكون له الأثر الإيجابي لا على الدائن والمدين فحسب، بل سيمكن من تعزيز أمان المعاملات بالشيك وتحسين الممارسات المصرفية بغرض تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية."
وقال "لا غياهب السجون حل ولا الفرار بدوره حل ولا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ولا الاقتصاد يمكن أن ينتعش بهذا النظام القانوني الحالي الجائر الذي آن الأوان لوضع حد نهائي له."
وتدعو الجمعيات المهنية وأصحاب المؤسسات إلى إلغاء العقوبات البدنية والى إعطاء المدين فرصة تسوية وضعيته القانونية عند إصدار الشيكات والتي تعتبر وسيلة ضمان وأداة تعامل بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين.
وفي يوليو من العام الماضي أوصت أطراف اقتصادية فاعلة مثل الاتحاد التونسي للصناعة التجارة والصناعات التقليدية، وهي أكبر منظمة لأرباب العمل في تونس، ببدائل عن السجن.
وتواجه السلطة انتقادات كثيرة لعدم توجهها للبحث عن حلول للحفاظ على ديمومة المؤسسات وإصرارها على اعتماد العقوبة السجنية التي هي مخالفة للمعاهدات الدولية التي وقعت عليها تونس والتي تمنع سجن الَمدين.
ويصنف القانون التونسي قضايا الشيك بدون رصيد كـ"جنحة" ُيعاَقب مرتكبها بالسجن خمس سنوات مع "دفع غرامة مالية تساوي 40 في المئة من مبلغ الشيك أو من باقي قيمته" استنادا للفصل 411 من المجلة التجارية.
ورغم تخلي الكثير من الدول عن العقوبة الزجرية في قضايا الشيك بدون رصيد إلا أن الدعوات لتغيير القانون في تونس لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
وأفادت منظمة هيومن رايتس ووتش بأن القوانين الصارمة في تونس تقود المئات إلى السجن بسبب عجزهم عن سداد المبالغ المتخلدة بذمتهم، مشيرة إلى أن الإحصائيات الحكومية تتحدث عن حوالي 496 شخصا محتجزين حاليا لهذا السبب، بينما تقدر إحدى الجمعيات التجارية العدد بحوالي 7200 شخص.
ووثقت المنظمة في تقريرها الذي جاء بعنوان “لا مفر: حبس المدين في تونس”، عواقب التشريع التونسي القديم المتعلق بالشيكات بدون رصيد. بالإضافة إلى إرسال الأشخاص المعسرين إلى السجن، أو العيش في الخفاء أو المنفى.
واعتبرت أن هذا القانون يُغذّي دائرة من المديونية ويجعل حياة أسر بأكملها شاقة"، مشيرة في سياق الأزمة الاقتصادية الحالية في تونس.
وطالبت السلطات التونسية بالإسراع باستبدال الأحكام القانونية التي تؤدي للسجن بسبب الديون بتشريع يأخذ في الاعتبار واقع استخدام الشيكات كأداة ائتمانية، ويوفّر بدائل عن السجن ويقدم وسائل مستدامة للدائنين لاسترداد ما أقرضوه.
ودعت إلى إطلاق سراح الأشخاص المسجونين بموجب هذا القانون والسماح لهم بوضع خطة لسداد الديون وينطبق ذلك على الأشخاص المختبئين أو في المنفى.
وقالت إن على الحكومة التونسية "أن تتبنى تشريعات بشأن الإعسار الشخصي، حيث لا يوجد قانون للإفلاس الشخصي من شأنه أن يوفر الإغاثة للمدينين الذين يواجهون صعوبات اقتصادية، منهم أصحاب الأعمال في القطاع غير الرسمي."
وانتقدت السياسات التونسية الحالية باعتبارها انتهاكا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، موضحة أن هذه الأحكام تفاقم من الأزمة الاقتصادية في البلاد، حيث تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة تحديات في الحصول على التمويل البنكي، ما يجبرها على الاعتماد على “شيكات الضمان” لتأمين الحصول على السلع والخدمات.
وأكدت مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في تونس سلسبيل شلالي، أن السجن لأسباب مالية هو إجراء قديم وغير فعال يحول دون قدرة المدينين على تسوية ديونهم ودعم أسرهم.
وتفاقمت الأزمة الاقتصادية في تونس في العشرية الأخيرة بفعل تراكمات فوضى ما بعد ثورة يناير 2011 من احتجاجات واعتصامات ومطالب اجتماعية أوقفت إنتاج قطاعات حيوية مثل قطاع الفوسفات وأيضا بفعل استشراء الفساد خلال عهد حكومتي الترويكا التي قادتهما حركة النهضة الإسلامية.
وازدادت الأزمة حدة بفعل تداعيات الأزمة الصحية الناجمة عن تفشي فيروس كوفيد 19 وما رافقه من اغلاقات وقيود، ما وضع الاقتصاد التونسي على حافة الانهيار وما أربك المالية العمومية.
وتعاني تونس حسب تقرير صندوق النقد الدولي من عدة مشاكل اقتصادية بما في ذلك ارتفاع معدل التضخم، لكنه توقع أن يحقق الاقتصاد التونسي نسبة نمو بنحو 1.9 في المئة في العام الحالي، وهو معدل أقل من المتوسط في المنطقة.
وعلى خلاف ذلك توقع رئيس الحكومة التونسية أحمد الحشاني أن يسجل الاقتصاد نموا بنسبة 3 في المئة في عام 2024، مشددا على أن حكومته ستتخذ الإجراءات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.