تونس: السلطة لا تحتاج "تعظيم سلام"

فرضُ الطاعة واجب. والسلطات عادة هي من تفرض الطاعة على المواطنين، وذلك بتلبية مطالبهم وتطلعاتهم وتحقيق ما يطمحون إليه. حين يتحقق المراد، ويكون الجميع في دولة هي فعلا ضامنة لكرامتهم وعيشهم الكريم ليصحّ فيها الكلام ويكون ذا جدوى. لكن، عندما تكون هناك محاذير كثيرة واستدراكات أكثر وطبيعة المرحلة صعبة، فإن بعض الأمور تحتاج إلى تعديل وتشاور وربما يكون الإفصاح عنها صعبا، لذلك تلجأ السلطة إلى محاولة فرض الطاعة لتطبيق ما ترُوم الوصول إليه.
في الحالة التونسية غَزَتْ وسائل التواصل الاجتماعي البلاد وغطت على كل المصادر الرسمية التي تُعنى بنشر هذا الخبر أو غيره تقريبا. أحيانا يحتاج أيّ متابع لشؤون البلاد إلى ولوج أكثر من موقع للتثبت من صحة هذا النبأ من عدمه.
نُبارك ثورة الاتصالات وما أنعمت به علينا من سرعة انتشار للأخبار وتلقفها بين الناس، لكن في المقابل كانت هذه الثورة سببا في تقسيم الكثير من التونسيين إلى صنوف شتّى. حتى داخل العائلة الواحدة هناك تباين في المواقف والآراء والأفكار بين من يعترض على هذا الخبر ويجادل ويقدم حججا ومبررات لتفنيده ودحضه وآخر يتقبله بصدر رحب ويباركه ويجهد في محاولة لتكثيف نشره.
◄ الدولة تحتاج إلى إبراز أنها موجودة في كل مكان وفي كل وقت مناسب، وهي تعمل على ترسيخ هذه المقاربة لتفنيد كل الرؤى المغلوطة والتأويلات التي لا تعمل على محاولة إعادتها إلى الوراء
عالم السياسة مثل عالم الرياضة متباين ومتشابك وله جمهور غفير وواسع على وسائل التواصل الاجتماعي. دعايةٌ وحِكَمٌ ومواعظ وجدالٌ كبير حول المواضيع الحساسة.. كلّها أدوات للتفاعل بين هذا الشق الرافض وذاك الشق الداعم للأخبار التي تهم الدولة وطرق سيرها وتنظيمها.
في الأثناء يبقى الإقرار بأهمية الإسناد والمباركة حول القرارات التي تهم الدولة وهيبتها ونهوضها شيئا لازما رافق أغلب الجمهوريات في الوطن العربي بحكامها الذين حكموا طيلة فترات متراوحة في الطول وتركوا أثرا طيّبا في النفوس، لكن أن يتحول هذا الإقرار إلى “ماكينة إعلامية” فذلك من شأنه أن يترك أثرا سلبيا على المسار الديمقراطي للبلاد ويضعف من صورتها الخارجية أكثر مما يضيف إليها.
للاستدلال على مدى صحة هذا الرأي، فإنه يتوجب التذكير بأن الهالة الإعلامية الضاغطة صنعت عبر التاريخ العديد من “الحكام الكارتونيين” الذين انتهوا وزالوا بزوال جمهورهم الغفير وانفضاضه من حولهم، إما بسبب وعودهم الزائفة التي لم يستطيعوا تحقيقها، وإما لجشع يحكم الزبانية المحيطين بهم ممن يطالبون دوما بتحقيق مصالحهم الضيّقة بعيدا عن مصلحة البلد ورقيّه وتقدمه.
سعت تونس عبر تاريخها الطويل لكي يكون الإعلام ركناً محايداُ في تدبير شؤون الدولة والدفاع عنها سواء في فترة الزعيم الحبيب بورقيبة أو زمن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي من أجل تخليص الدولة من هكذا ردود قد تضر بالمسار الديمقراطي المرسوم، لكن ما حدث بعد ثورة يناير 2011 صعّب هذه المهمّة أكثر مما أضاف إليها. الكل بات يطالب بإعلام محايد ونزيه بعيدا عن منطق الشوفينية المقيت والأنانية في تأدية الواجب دون التحضير لأرضية مناسبة يتحقق على سطحها مجمل هذه الأفكار.
لسائل أن يسأل هل تفكّر السلطة الحالية بمقاربة تنظيمية للخطاب الإعلامي على وسائل التواصل لتخليصه من حالة الانفلات؟ في المقابل هل تحتاج السلطة لمن يبارك نشاطها اليومي أو التشهير بما تقوم به على وسائل التواصل؟ ألا تكفي المصادر الرسمية لتقوم بهذا الدور، وهل هي فعلا ناجحة في القيام به على أكمل وجه؟ هل توجد رقابة على “الصفحات الرديفة” التي تشنّ حملات، بتدقيق أو دونه، ضد كل من ينشر خبرا أو تعليقا لا يتماشى مع مواقفها وآرائها؟
◄ عالم السياسة مثل عالم الرياضة متباين ومتشابك وله جمهور غفير وواسع على وسائل التواصل الاجتماعي. دعايةٌ وحِكَمٌ ومواعظ وجدالٌ كبير حول المواضيع الحساسة
من المهمّ أن تحاول السلطة إيصال أفكارها للناس وما تسعى إلى القيام به وتُطلعهم على برامجها ومخططاتها وأيضا على النتائج التي بلغتها مشاريعها وإنجازاتها، لكن من المهمّ أيضا أن تترك لهم هامشا للنقد والتعليق عمّا يختلج في صدورهم اعتراضا أو تماشيا مع هذا المنجز أو ذاك، لكن شرط النقد البناء الذي يضيف ولا يسحب. قد يصحّ هذا الكلام عن مدينة فاضلة تتحقق فيها هذه المقاربة، لكنها ممكنة أيضا شريطة أن يلتزم كل طرف بما له وما عليه.
الأساس في المعادلة أن تكون نصفية يسودها الحوار البناء والجدال الذي يخدم مصالح الناس ويحقق مطالبهم لا ذلك الذي يشتّت ويخلق القطيعة. يكفي السلطة أن تكون لها وسائلها الخاصة لإيصال الخبر اليقين لكي تكون مصادرها موثوقة ويكون فعلها هادفا. صحيح في عصر طغت عليه وسائط متعددة للعالم الافتراضي ومن حق الناس استقاء المعلومة من أكثر من مصدر أو دليل، لكن الدولة تحتاج إلى إبراز أنها موجودة في كل مكان وفي كل وقت مناسب، وهي تعمل على ترسيخ هذه المقاربة لتفنيد كل الرؤى المغلوطة والتأويلات التي لا تعمل على محاولة إعادتها إلى الوراء.
نجح الرئيس قيس سعيد في ترسيخ هذه القاعدة منذ توليه مسار التغيير في 25 يوليو 2021 بالخروج إلى الناس والحديث بطلاقة في مجمل زياراته المعلنة أو غير المعلنة وطبع ذلك بمصادر رسمية له (بيانات رئاستي الجمهورية والحكومة على فيسبوك ونشرة الأخبار على القناتين الوطنيتين الأولى والثانية).
خلاصة الحديث أن السلطة لا تحتاج لمن يسوّق أخبارها أو يعظّم إنجازاتها، يكفي أن يكون التونسي مقدرا لحجم التحركات التي تقوم بها على أكثر من صعيد لتخليص العباد والبلاد من آفة الفساد التي عمّرت طويلا وجثمت على قلوب التونسيين وأنهكت الاقتصاد وبددت كل الآمال والجهود التي تبذل للإصلاح والتغيير.