كيف يمكن فهم ديناميكيات الحروب الفرنسية

فرنسا شاركت منذ نهاية حرب الجزائر سنة 1962 في 32 نزاعا في الخارج دون أن تعترف بأنها كانت في حالة حرب.
الجمعة 2024/05/24
تقاليد تحيّد الجيش عن الخوض في الشأن العام

يجلب غيوم أنسيل إلى كل نقاش تلفزي ينضم إليه عقلا عسكريا تحليليا. وهو ضابط مدفعية سابق تشمل تجربته الخدمة في كمبوديا ورواندا وسراييفو. لكن غيره من الضباط الفرنسيين المتدربين في سان سير يبقون صامتين في النقاش العام عكس أقرانهم البريطانيين والأميركيين في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية أو ويستبوينت (الأكاديمية العسكرية الأميركية).

ويرجع التزام الضباط الفرنسيين إلى عهد نابليون الذي أسس مدرسة سان سير العسكرية في 1802 بعد أن مرّت فرنسا بـ13عاما من السنوات الثورية المضطربة.

وتعزز هذا الاتجاه إثر سقوط الإمبراطورية الثانية في 1870 وظهور الجمهورية الثالثة لأن الجيش لعب دورا رئيسيا في تغييرات النظام التي مرت بها فرنسا في 1814-1815 و1830 و1848 و1849 و1870. وكان قادة الجمهورية الجديدة مصممين على إبقاء كبار الضباط بعيدا عن أي نقاش يتناول السياسة العامة.

وشاركت فرنسا منذ نهاية حرب الاستقلال الجزائرية سنة 1962 في 32 نزاعا في الخارج “دون أن تعترف بأنها كانت في حالة حرب”. ولا يولي المجتمع الفرنسي أي اهتمام بمثل هذه الحروب التي “تحتكرها الرئاسة بسرية شديدة”. ولا يخجل الضباط من التعليق على مثل هذه الحروب فيما بينهم لكن صمتهم يسود خارج الدوائر المغلقة. ثم أزعجت الحرب في أوكرانيا هذه القاعدة. وأكد أنسيل أنها زعزعت استقرار العديد من أقرانه السابقين، ويُذكر أن العديد منهم ينتمون إلى الطبقة السياسية ويشملون حتى العديد من الرجال والنساء الفرنسيين العاديين الذين لم يتخيل أي منهم سيناريو عودة الحرب إلى القارة الأوروبية. وتدرب الضباط الفرنسيون، مثل نظرائهم الأميركيين والبريطانيين، على رؤية الحرب (إذا اندلعت) مواجهة وحشية مع قوات حلف وارسو حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. ثم تحولت مهمات القوات الفرنسية الأساسية إلى بلدان بعيدة مثل البلقان وأفغانستان ورواندا وأفريقيا الوسطى وليبيا ومالي وسوريا وساحل العاج. ولم يعد لفرنسا “أعداء” بل “خصوم” يضربونها في الداخل أحيانا. ولم يشرح القادة السياسيون الذين حجبوا عن مواطنيهم تفاصيل كل عملية كيفية رد القوات الفرنسية وسببه. وشعر الكثيرون بالارتياح لأن الحرب اختفت من أوروبا إذا جاز التعبير، رغم الإنذارات التي بثتها حروب البلقان في التسعينات. وجاءت من هنا الصحوة العنيفة مع غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022.

◄ التزام الضباط الفرنسيين يرجع إلى عهد نابليون الذي أسس مدرسة سان سير العسكرية في 1802 بعد أن مرّت فرنسا بـ13عاما من السنوات الثورية المضطربة

يُذكر أن الرئيس الراحل جاك شيراك وضع حدا لقرنين من التجنيد العسكري قبل ثلاثين عاما. وساهم بهذا في عزل الجيش عن الشعب أكثر. ولم يشتعل أي نقاش عام حقيقي تمحور حول هذا القرار التاريخي. إن القيم والكفاءة المطلوبة من القوات المسلحة تختلف اختلافا كبيرا عن تلك المطلوبة من السياسيين والدبلوماسيين. ولا يقدر جل السياسيين والعديد من الدبلوماسيين والمواطنين الفرنسيين هذا الاختلاف. وانبثق من هنا الاهتمام بالرواية الرائعة التي قدمها أنسيل عن السنوات الثلاث التي قضاها في مدرسة سان سير العسكرية بين 1985 و1989. ويرى أن لا مثيل لتدريبه ولو أنه كان في جو من معاداة الفكر والافتقار إلى الثقافة العامة. وكان الإنكار الصارم لحدثين رئيسيين في التاريخ الحديث (هزيمة 1940 وحرب التحرير الجزائرية) من سمات التدريب في سان سير، مع تجاوز صامت للأحداث الرئيسية في تاريخ فرنسا الحديث.

وأطاح الصراع الذي دام ثماني سنوات في الجزائر بالجمهورية الرابعة وأعاد الجنرال ديغول إلى السلطة وقسّم المجتمع الفرنسي بعمق كبير. وبعد أقل من عقدين من نهاية الحرب العالمية الثانية، تفسر “الأحداث” (لم يطلق عليها اسم الحرب) سبب بقاء الجزائر الصندوق الأسود للتاريخ الفرنسي. وكان كلا الجانبين يمارسان ما يرقى إلى التعذيب على نطاق واسع، ولكنه لطخ سمعة الجيش الفرنسي. وحاول قادة الجيش في الجزائر، دون جدوى، الإطاحة بديغول في 1961. ولم تلتئم الجراح التي خلفتها “خسارة” الجزائر، التي تكبدتها فرنسا بعد ثماني سنوات من هزيمة الفيتكونغ القوميين في فيتنام لجيشها في معركة ديان بيان فو الشهيرة.

ويساعد هذا الرفض المستمر لمناقشة حقائق التاريخ الفرنسي الحديث الأساسية في تفسير سبب افتقار الضباط الفرنسيين “للقدرة الفكرية والنفسية” للتساؤل عما كان يفعله أسيادهم السياسيون في رواندا في 1995، أي التواطؤ في الإبادة الجماعية. ويعبرون عن إحباطهم من العمليات في مالي ضد “الإرهابيين الإسلاميين” المزعومين بعد 2012.

وينحدر غيوم أنسيل من عائلة من أسرة صناعية من ليون الذين لم تجمعهم صلات خاصة بالجيش. وهو يصف ضباطا مشبعين بالقيم الكاثوليكية التقليدية بأنهم غالبا ما يكونون من أصل أرستقراطي، ويعيشون في عالم معزول عن المجتمع الفرنسي المعاصر. ولا تشكل النساء سوى 10 في المائة من الضباط. وأصبح “سان سير، في مدرسة الصامت الأبدي” أول كتاب أُلِّف من داخل هذه المؤسسة المرموقة. لكنه ليس عمل أنسيل الأول. وسبق أن ألف كتبا عن كمبوديا ورواندا وحتى سراييفو حيث وصف فيه بيانيّا “ستة أشهر من الإذلال” و”الأسى” مرّ بها الجنود الفرنسيون (تحت قيادة الأمم المتحدة) حيث لم يفهموا ما يريده أسيادهم السياسيون وشعروا بأنهم كانوا بلا فائدة وأنهم مستغلون. وتقدم مدونة أنسيل تعليقات على الحرب على غزة وأوكرانيا وهي مطلعة سياسيا وفطنة عسكريا. ويتحدث العقيد أنسيل بصفته جنديا محترفا يتمتع بفهم سياسي بارز بعد عمله ضمن قوة التدخل السريع في فرنسا. وتتناقض مداخلاته في المناقشات حول حربين جاريتين على حدود أوروبا مع مساهمات العديد من “المتخصصين” الذين لا يتمرسون فن الحرب. وتعدّ كتبه مهمة لفهم الشؤون الخارجية الفرنسية والدور الرئيسي الذي يشغله أحد أركان الدولة، أي الجيش. ولفرنسا اليوم أكبر جيش محترف في الغرب بخلاف الولايات المتحدة والردع النووي. ويفسر هذان العاملان سبب أهمية فهم الشركاء الغربيين، والرأي العام المحلي، للعقيدة العسكرية الفرنسية، ومساهمتها في سياسة الدفاع الأوروبية واستعدادها للمساعدة في بناء صناعة أسلحة أوروبية.

7