محمد إدريس ديبي.. الجنرال الفار من ظل والده

أعلن في العاصمة التشادية إنجامينا عن فوز الجنرال محمد إدريس ديبي إثنو برئاسة البلاد بعد انتخابات السادس من مايو 2024 عقب حصوله على 61.3 في المئة من أصوات الناخبين، ليجد نفسه مدفوعا نحو العمل بجدية للفرار من ظل والده الذي ورث عنه صولجان الحكم بعد ساعات من مقتله، وما يمكن أن يوصف بـ”شرعية الصندوق” بعد ثلاث سنوات من رحيله في حادثة لا تزال تلقي بظلالها على المشهد العام في البلد الأفريقي المتورم بامتداد أزماته والملاحق بتبعات الصراع الدائم على السلطة فيه.
ولد ديبي الابن في الأول من يناير 1984 في العاصمة إنجامينا، ليكون الابن الثاني للجنرال إدريس ديبي، بعد إبراهيم المولود في 6 يونيو 1980، وكان من المنتظر أن يكون خليفة لوالده، لكن كانت نهايته مأساوية؛ ففي 24 مايو 2006 تم اعتقاله خارج ملهى ليلي في باريس بعد تورطه في شجار وأثناء القتال سقط مسدس غير مرخص من جيبه.
قامت الشرطة الباريسية في وقت لاحق بتفتيش منزله وعثرت على 375 غراما من الماريجوانا، وفي 3 يونيو 2006 حكم على إبراهيم ديبي بالسجن لمدة ستة أشهر مع وقف التنفيذ بتهمة تعاطي المخدرات وحيازة الأسلحة دون ترخيص. وبعد ذلك أقيل من منصبه كمستشار لأبيه رئيس تشاد، وفي 2 يوليو 2007 تم العثور على إبراهيم ديبي ميتا على يد حارس أمن في مرآب السيارات في مبنى شقته في كوربفوا إحدى ضواحي باريس، وأدت تلك الحادثة إلى تصدع كبير في عقل ومشاعر الرئيس ديبي، وفتحت المجال أمام شقيقه ليطمح إلى مستقبل سياسي في بلد تحكمه روح الأسرة وأعراف القبيلة.
ولد محمد ديبي لأم من قبائل غوران، إحدى مكونات إثنية التبو ذات الانتشار الواسع في الساحل الأفريقي، وتربى في كنف جدته للأب، وهو ما جعله يعرف باسم محمد كاكا نسبة إلى الجدة باللغة المحلية، وتلقى تعليمه في المدارس التشادية قبل أن يلتحق بمجموعة المدارس العسكرية المشتركة، ثم سافر إلى فرنسا لتلقي دورة تدريبية لم تتجاوز مدتها ثلاثة أشهر بالمدرسة الثانوية العسكرية في منطقة إكس أون بروفانس.
ولدى عودته إلى البلاد عينه والده في المديرية العامة لجهاز أمن مؤسسات الدولة، وفي عام 2009، عندما كان عمره 25 عاما، شارك في معركة أم دام شرقي البلاد ضد تحالف المتمردين بقيادة تيمان إرديمي في شرق تشاد. وكان قد بدأ يدرك معنى الدفاع عن امتيازات السلطة في مواجهة المعارضة المسلحة.
وبعد مرور عام تولى الجنرال الشاب، الذي أصبح محنكا في الميدان مع مرور الوقت، قيادة سرب المدرعات والحراس الشخصيين داخل المديرية العامة للأمن والأمن.
وفي عام 2012 أعلن رسميا عن تعيينه رئيسا للفريق المسؤول عن الأمن في القصر الرئاسي وهو منصب يدل على ما يتمتع به من ثقة لدى والده الذي كان يعده للخلافة.
تمت ترقية ديبي الابن إلى رتبة قائد كتيبة ثم مقدم ثم عقيد ثم عميد قبل أن يعين فريقا عام 2015، وقبلها بعام عُين مديرا عاما لأجهزة أمن مؤسسات الدولة، وعام 2018 رقي لرتبة فريق أول. وفي الأول من ديسمبر 2021 تمت إضافة نجمة إضافية على كتفه ليصبح جنرالا في الجيش.
وبحسب سيرته الرسمية المنشورة في مواقع الدولة، فإن محمد ديبي صعد إلى جميع الرتب حيث تمت ترقيته إلى رتبة فريق النظام الأمني في تشاد وسرعان ما برز في الجيش الوطني التشادي حيث خاض العديد من مسارح العمليات العسكرية وله خبرة في ذلك ويشهد له جبل أدرار إيفوخاس في شمال مالي بشجاعته العسكرية أثناء المعارك التي قادها بنفسه.
وكان الرجل الثاني في قيادة القوات المسلحة التشادية خلال التدخل في مالي. واجه عدة تهديدات إرهابية وأمنية، وتم اختياره لقيادة المجلس العسكري الانتقالي.
تزوج ديبي الابن ثلاث مرات، المرة الأولى في عام 2010 من ابنة الوزير السابق في أفريقيا الوسطى أباكارسابون وأنجب منها خمسة أطفال، قبل أن يتزوج للمرة الثانية واختار زوجته هذه المرة من قبيلة الزغاوة، التي ينتمي إليها والده. أما زوجته الثالثة دهباية عمر سوني فهي من الغوران وابنة جنرال في الجيش، وكانت تعمل صحافية قبل أن يعينها والده مديرة للعلاقات العامة بالرئاسة في ديسمبر 2019.
وكثيرا ما كان الجنرال الشاب يتأمل مسيرة والده الذي طالما اعتاد الرقص على رؤوس الأفاعي، فعندما فتح عينيه على الحياة كانت عاصفة الصراع على السلطة قد هزت أركان منزل الأسرة في أكثر من مناسبة، وكان وجوده الدائم بين أحضان جدته قد أعطاه شعورا بالأمان، ومنحه كذلك اعتزازا بهويته الثقافية وجذوره الاجتماعية.
كان إدريس ديبي الوالد خلال فترة الثمانينات من أبرز الفاعلين في مسارات الحراك العسكري والسياسي في بلد الرمال المتحركة والأطماع الدولية المتناقضة والانقسامات الاجتماعية والصعوبات المالية والاقتصادية المتفاقمة، فقد شارك عام 1982 في حركة تمرد ضد حكم الرئيس الأسبق غوكوني عويدي، الذي حكم البلاد من 1979 حتى 1982، والذي مازال يعيش في منفاه الاختياري بالجزائر إلى حد اليوم، وهو ينتمي إلى الجزء الشمالي من تشاد، كما أنه ابن عويدي كيشدمي، سلطان قبائل التيدا المنتشرة في تشاد وليبيا والنيجر وإثيوبيا، وهي من المكونات الأساسية لإثنية التبو.
ونشط منذ أواخر ستينات القرن الماضي في جبهة التحرير الوطني “فرولينا” التي كانت مدعومة من ليبيا، وكانت رافضة لهيمنة المسيحيين الجنوبيين المدعومين من فرنسا على الحكم تحت رئاسة فرانسوا تولبمباي الذي حكم تشاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960 حتى 13 أبريل 1975، عندما تم اغتياله في ظل الاضطرابات السياسية التي بلغت حد الحرب الأهلية ليخلفه الجنرال نويل ميلاريو أودينغار أحد أعضاء مجموعة التسعة العسكرية التي حكمت تشاد من 1975 إلى 1978.
لكن أوديغار لم يستمر في الرئاسة سوى يومين فقط، ليخلفه الجنرال فيليكس معلوم الذي كان سجينا في عهد تولمباي، والذي استقال في عام 1979، عندما كانت البلاد تواجه صراعات دموية وتجاذبات دولية وخاصة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا والجارة الشمالية ليبيا في عهد الزعيم الراحل معمر القذافي الذي كان فاعلا أساسيا في الأوضاع التشادية.
وقد وقع الاختيار على غوكوني عويدي رئيسا للبلاد بعد مؤتمر لاغوس واستمر في منصبه من 1979 إلى 1982 بينما كانت الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية في حالة انهيار تام، وخرجت العاصمة عن سيطرة النظام.
وفي السابع من يونيو 1982 قاد حسين حبري، الذي كان قد تولى منصب رئيس الوزراء في أغسطس 1978 وشغل المنصب لمدة عام، انقلابا عسكريا أصبح بموجبه رئيسا لتشاد وزعيما لقوات الشمال، وكان من بين المقربين منه إدريس ديبي إثنو الذي اتهم في عام 1989 بتدبير انقلاب ضد حبري، وفر إلى السودان، ومن هناك استفاد من عمقه الاجتماعي لكونه ينتمي إلى قبيلة الزغاوة الممتدة بين البلدين وذات الثقل الكبير في مثلث دارفور، كما استفاد من تردي الأوضاع الداخلية ومن الدعم الليبي، وقاد جيشا من المتمردين تحت غطاء حركة الإنقاذ الوطني التي تزعمها.
وبعد مواجهات استمرت ثلاثة أسابيع نجح ديبي في الإطاحة بحكم حبري الذي كان مدعوما من قبل واشنطن وباريس. وفي الثاني من ديسمبر 1990 اضطر الرئيس الموالي للغرب حسين حبري إلى مغادرة البلاد والفرار إلى الكاميرون المجاورة مع أسرته ومجلس وزرائه وكبار مساعديه حيث انهارت القوات المسلحة الوطنية التشادية. وتخلى عنه الفرنسيون بعد أن أدركوا أن لا فائدة من مواصلة الإبقاء عليه بعد سنوات من دعمه، وأعطوا تعليمات إلى 1300 جندي فرنسي متمركزين في تشاد بعدم التدخل في ما وصفوه بالنزاع الداخلي.
تولى إدريس ديبي الحكم من 2 ديسمبر 1990 إلى 20 أبريل 2021، عندما تم الإعلان عن مقتله متأثرا بجروح أصيب بها في اشتباكات مع المتمردين في شمال البلد.
وقال الجنرال عظيم برماندوا أغونا المتحدث باسم الجيش، في البيان، إن ديبي “لفظ أنفاسه الأخيرة دفاعا عن دولة ذات سيادة في ساحة المعركة”، وتزامن ذلك مع ظهور النتائج الأولية للانتخابات التي جرت قبل أسبوع من مقتله، والتي فاز فيها بفترة رئاسة سادسة، بحصوله على 80 في المئة من الأصوات.
بعد الإعلان عن رحيل الرئيس تولى مجلس عسكري انتقالي مؤلف من 15 جنرالا برئاسة ابنه محمد إدريس ديبي السلطة، وتعهد في نفس اليوم بإجراء “انتخابات حرة وديمقراطية” بعد 18 شهرا من “الانتقال”، قابلة للتجديد مرة واحدة.
وقال ديبي الابن في تصريحات صحفية “إن المجلس العسكري الانتقالي الذي أترأسه لا يهدف إلى مصادرة السلطة”.
وأضاف “لنكن واضحين: لقد قررنا لمدة 18 شهرًا، وأردنا ألا نتجاوز ذلك، ولكن هناك شرطان لاحترام هذا الموعد النهائي، الأول هو أننا، التشاديين، قادرون على التوافق للمضي قدمًا بالسرعة المخطط لها.
والثاني بمشاركة شركائنا في تمويل الحوار والانتخابات، لأنه من الواضح أن الخزانة التشادية لن تكون قادرة على تحمل هذه الكلفة وحدها. إذا تمكنا من الاتفاق وتلقينا المساعدة، فإن 18 شهرًا ستكون في متناول اليد. وإلا فسيكون الأمر صعبًا للغاية”.
في 8 أكتوبر 2022 أعلن الحوار الوطني التشادي تسمية الجنرال محمد إدريس ديبي أتنو رئيسا للمرحلة الانتقالية التي ستستمر لمدة عامين، كان ذلك بداية مرحلة جديدة في ظل تطورات مهمة تعرفها المنطقة، ومحاولات لتحقيق مصالحة وطنية يرى المعارضون أنها لا تعدو أن تكون جزءا من لعبة سياسية تهدف إلى تكريس سلالة ديبي إثنو في الحكم عن طريق الابن الذي يخلف الأب.
◄ واشنطن تحاول تطويعه ليكون جزءا من تحالفها في مواجهة التمدد الروسي، وموسكو ترى فيه حليفا أقرب إليها
وفي ديسمبر 2023 وافق 86 في المئة من الناخبين التشاديين على مشروع الدستور الجديد الذي قدمته المجموعة العسكرية الحاكمة منذ عام 2021، رغم دعوات المعارضة لمقاطعة الاستفتاء واحتجاجها على نتائجه، وأفادت المفوضية الوطنية المكلفة بتنظيم الاستفتاء الدستوري، الذي جرى في 17 ديسمبر، بأن الدستور الجديد حظي بتأييد 86 في المئة من الناخبين، في حين رفضه 14 في المئة. وبلغت نسبة المشاركة 63.75 في المئة.
بالمقابل طالب “اتحاد المعارضة الحقيقية لتشاد” بإلغاء نتائج الاستفتاء، وقال إنها لا تعكس الوضع الحقيقي للأمور، وأضاف أن “هذه الأرقام ملفقة على أساس بيانات تختلف عن الواقع في مراكز الاقتراع، حيث قاطعت الغالبية العظمى من التشاديين الاستفتاء، ونطالب بحل لجنة الاستفتاء، وإلغاء نتائج التصويت، وإجراء استفتاء جديد في ظروف أكثر ديمقراطية”.
بعد إعلان محمد إدريس ديبي فوزه بالانتخابات دخلت تشاد في أزمة جديدة. وأعلن زعيم المعارضة ورئيس الوزراء الانتقالي الحالي، سوسيس ماسرا، بدوره الفوز في السباق نحو الرئاسة، وقال إنه فاز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 6 مايو الجاري، ومن الجولة الأولى.
وأعلن ماسرا الذي يبلغ من العمر 40 عاما، وهو أحد المنافسين الرئيسيين للمعارضة، فوزه على الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي، وذلك في بث مباشر على فيسبوك، قبل الإعلان المقرر عن النتائج المؤقتة من قبل الوكالة الانتخابية في البلاد، مردفا “لقد انتصرنا كشعب بفضلكم، لقد وضعتمونا في المقدمة في الجولة الأولى بنسبة 90 في المئة من النتائج المركزية لصناديق الاقتراع، والتي تؤكد الفوز في الجولة الأولى”.
لكن لا أحد سيستمع إليه؛ فمجريات الأحداث الإقليمية تصب في فائدة ديبي الابن. وفرنسا المدحورة من عدد من مستعمراتها السابقة تجد لديه محطة لجوء لجنودها، والولايات المتحدة تحاول تطويعه ليكون جزءا من تحالفها في مواجهة التمدد الروسي، بينما موسكو ذاتها ترى فيه حليفا محتملا بعد زيارته الأخيرة إليها ولقائه مع الرئيس فلاديمير بوتين.
ويتطلع الرئيس التشادي المنتخب إلى الخروج من جلباب والده والبحث عن شرعية جديدة غير التي استهلكها بوراثته المرحلة الانتقالية، لذلك سيكون عليه إيجاد تحالفات مع القوى السياسية المعارضة، وتأمين الجيش، وتحصين مصادر الدعم القبلي والاجتماعي، وتطوير الوضع الاقتصادي في البلاد.
لكن المسألة ليست بهذه السهولة، فالتحولات التي تشهدها المنطقة سياسيا وإستراتيجيا وأمنيا ستنعكس عليه عاجلا أم آجلا، وكما كتب على والده من قبله، سيكون عليه الرقص مع الذئاب أو على رؤوس الأفاعي.

