عبدالقادر مقداد.. أسطورة المسرح التونسي الخالد بعيون منجزه

ليس هيّنا أو يسيرا أن تجد نفسك أمام شخصية لا تعرف عنها الكثير وتحاول أن تستنطق الحروف للإلمام بمختلف زواياها وحيثياتها وما رسمته طيلة مسيرة مظفرة من تاريخها الطويل في عالم الفن والمسرح والدراما. لكنها فجأة تختار التواري عن الأنظار والانسحاب إلى ما وراء الكواليس. هو فنان أعطى الكثير للفن المسرحي التونسي، لا بل يعتبر من الآباء المؤسسين له برفقة ثلة من المبدعين الذين لا يزال عطاؤهم متواصلا إلى الآن.
بخلاف المسرح برز اسمه كثيرا في عالم الدراما التلفزيونية بأعمال مازالت إلى اليوم تستنسخ نفسها على الشاشة الصغيرة ويستحسنها المشاهد التونسي النهم. هو سليل تجربة فريدة في عالم صنعته تجارب فرقة “المسرح الركحي” بقفصة (جنوب غرب تونس)، نطق بعمق الكلمة وكان صوته مؤثرا وناقدا في زمن الدكتاتورية. سخّر كل جهوده من أجل أن يراوح بين المتعة والإبداع في عالم المسرح الذي قل من ينازعه فيه. نحن أمام “العملاق” عبدالقادر مقداد، هكذا يلقّب في عالم الثقافة والفن التونسي نظير تجربته الطويلة في منجزها، القصيرة في زمنها الخالد والمثير للريبة والشك حول سبب الغياب والتواري عن الأنظار.
مسيرة فنية
ولد الممثل التونسي عبدالقادر مقداد يوم 1 فبراير 1951 بقفصة، وهو أصيل مدينة قبلي، وشغف مبكرا بهواية المسرح وهو في مقاعد الدراسة وعشق أيضا الموسيقى وقارب احتراف العزف، لكنه اختار الخشبة تأصيلا لإبداعاته وحبا للمغامرات المحترفة التي خاضها.
كانت بداياته مع المسرح وهو يزاول تعليمه الابتدائي، إذ شارك في العديد من المسرحيات المدرسية على غرار مسرحية “حادث المقهى” و”غرام يزيد”. تقول عنه التقارير وكل من درسوا عنه بعض الأثر إنه أحب الموسيقى كثيرا وتعلّم العزف بإتقان على آلة الكمنجة وكان قد فكرّ جديّا بالتخصص في الموسيقى. لكن بعد ما حقّقه من نجاح في تجسيد الأدوار التي تقمصها في عدّة مسرحيات غيّر وجهته من الموسيقى إلى المسرح والتحق عام 1969 بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس حيث تحصّل على الدبلوم (الإجازة) ثمّ سافر إلى فرنسا ليدرس هناك.
كما قام مقداد بعدّة دروس تخصصية في أوروبا الشرقية وبالتحديد في بلغاريا وإيطاليا وبلجيكا وروسيا، وإثر عودته من الخارج في سبعينات القرن الماضي كانت قد تكونت “فرقة الجنوب بقفصة” فانضمّ إليها وشارك في كل عروضها المسرحية التي كانت من إخراج المخرج الفذ الفاضل الجعايبي.
صانع الفرجة
صنع عبدالقادر مقداد ملحمته المسرحية من العدم. عمل الفنان التونسي بجهد ومثابرة كبيرين ليبلغ القمة. حين كانت للنظام عين لا تغفل عن المبدعين والفنانين والمنتقدين، ظل مقداد يصدح بصوته معبرا بكلماته عن هموم الكثير من المهمّشين في بلده. انتقد الإدارة وسير عملها في مسرحية “جواب مصوقر”، وجّه سهام كلماته للمسؤولين في الدولة. يروي الكثيرون أنه تعرض للعديد من المضايقات خلال فترة حكم زين العابدين بن علي لكنه لم ينحن أو يستسلم من أجل فضح بعض الممارسات السلبية التي كانت تأتيها السلطة آنذاك ضد كل من يحاول أن ينتقدها أو يوجه لها اللوم.
يتوفر في سجل مقداد العديد من الأعمال التي لا تزال تُروى إلى اليوم ومنها الأعمال الدرامية الخالدة التي شارك فيها ببراعة الممثل وسجل حضوره باتزان الفنان. مسلسلات درامية لا يزال التونسيون يحنون إلى إعادتها رغم أنها لا تغيب عنهم طوال العام. عبدالقادر مقداد الشخصية التي دخلت البيوت بابتسامتها العريضة وصوتها الغليظ هو تجسيد مثالي لابن الجنوب الذي لا ينحني.
يكاد لا يصدق المتابع لجل أعمال عبدالقادر مقداد في المسرح والدراما أن هذا الفنان سيكون يوما وراء الكواليس وينتهي فعليا عطاؤه. جيل كامل من التونسيين يتحسّر على أعمال يكرّرها يوميا ويتابع بشغف حضور هذا الواعد على الشاشة الصغيرة بلا تردّد.
حين يحضر مقداد في مختلف الأعمال التي صنعها بحرفية الفنان وعمق الكلمة يتحقق المُراد ويكون الجميع أمام طاقة كبيرة من العطاء العميق وفنان احترف عمق الكلمة وطوّع منطوق اللسان للنقد الهادف. تكلّم مقداد زمن كان فيه النقد ممنوعا وصدع صوته السلطة التي أرهبها في أغلب الأعمال المسرحية التي كانت إما من صنيعه (كاتبها ومخرجها) وإما مشاركا فاعلا فيها على الخشبة. أعمال مسرحية منها “فئران الداموس” و”صاحب الكلام” و”عمار بالزور” و”السوق” و”صلاح الدين الأيوبي” و”المجنون رقم” و”جواب مصوقر” و”كلاب فوق السّطوح”… وغيرها الكثير.
كانت جل هذه الأعمال شاهدة على إبداعات الجنوبي (نسبة إلى ابن الجنوب) الذي لا يراوغ ولا يهادن ويرفض الاستسلام إذا ما تعلق الأمر بالعمل الهادف. يبرز مقداد على الشاشة في أغلب الأعمال المسرحية التي شارك فيها ملوّحا ومبرزا عمقه وأصله بالكلمة المعبرة والتجسيد الركحي المضبوط، فتجتمع الكلمة المعبرة والأداء البارز ليمتع متابعيه ويشدهم بعمق إلى أعماله التي فيها من الإمتاع الشيء الكثير.
أما على مستوى الدراما فقد كانت لعبدالقادر مقداد أيضا قدرة رهيبة على التعامل مع النص وكيفية تطويعه ليكون عميقا هو الآخر أداء ومعنى. شاهد جميع التونسيين أعماله في مسلسلات لا يزال التلفزيون التونسي يكرّر إعادتها باستمرار وتتحلق حولها العائلات متحسرة ومستنكرة كيف لهذا المبدع أن يتوارى عن الأنظار في زمن قلّت فيه الحرفية وتراجع فيه الأداء. الدراما التي جسدها مقداد في مسلسل “الدوار” و”ابحث معنا” و”حبّوني وادللت” و”حمة الجريدي” وغيرها تعكس القدرة الكبيرة لهذا الفنان على التكيّف مع الواقع التونسي واستنطاقه نحو الأفضل.
المثقف المنسي في وطنه
ماذا حدث؟ لماذا يرفض نجم الشاشة الأول الحضور الإعلامي؟ ما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ هناك اتهامات لعبدالقادر مقداد بكونه محتكرا للخشبة، هذا ما تقوله صديقته ورفيقة دربه لطيفة القفصي التي لازمته في الكثير من الأعمال المسرحية والدرامية التي تشاركا فيها، مفسّرة بعض الأسباب الرئيسية التي تقف حائلا أمام عدم الظهور الإعلامي للفنان التونسي ولماذا اختار أن يكون بعيدا عن الأضواء.
وتضيف القفصي أن هناك “اتهامات وجهت إلى عبدالقادر مقداد بالفساد والمحسوبية وهناك من اتهم عائلته وأولاده أيضا. لكننا لم نسكت عن ذلك وقد بادر الكثيرون ومنهم شخصي المتواضع بالدفاع عن الفنان والرد على كل المشككين في نزاهته وصدقه”.
وتؤكد القفصي في تصريح خاص لبعض القنوات الإذاعية أن المشكلة لا تتعلق بالأعمال التي قدمها أو سواها مثلما يكون الحال في بعض الدول العربية التي عرفت تنافسا بين الممثلين والمبدعين في مجال الثقافة، لكن في تونس هناك بعض الأشخاص الذين كما أكدت القفصي كانوا وراء لجوء مقداد إلى الانسحاب من المشهد طوعا والذي نرفضه جميعا ونؤكد أنه غير منطقي كونه يفتح الباب أمام تأويلات ربما يكون أغلبها خاطئا.
ويشاطرها الممثل والفنان التونسي يونس الفارحي الرأي ليقول عن الفنان القدير إن “المعركة الأولى كانت من أجل الكرسي وافتكاك المنصب”، ويضيف الفارحي أن “عبدالقادر مقداد كان حلما لجيل كامل.. لكنه حلم ما فتئ أن تبخر فجأة وصار من الماضي البعيد”. ويعرج الفارحي بالتساؤل من الذي يمنع وزير الثقافة من التنقل وزيارة عبدالقادر مقداد في منزله؟ لماذا لا يحاول مسؤولو الثقافة القيام بنوع من المصالحة وجبر الخاطر لهذا الفنان الكبير في عيون الجميع؟ ويختم بأن “عبدالقادر مقداد يحتاج إلى من يعيد له الاعتبار”.
أحيانا يحتاج المبدع أن يكرّم في بلده لا أن يرحل هكذا في صمت. أمثال مقداد كثيرون، منهم من اختار الركون إلى عالم المواطنة والابتعاد عن المشهد الإعلامي ومنهم من رحل تاركا إرثا كبيرا من الأعمال. لا يحتاج القائمون على قطاع الثقافة في تونس إلى رسائل مضمونة في حق هذا أو ذاك ليتحركوا إنصافا للحق ودرءا للنقد، أو أن ينتظروا لحظة تأبين ليقولوا كلمة حق في هذا المبدع أو سواه من الذين سجلوا أسماءهم بحروف من ذهب على الشاشة الصغيرة. عبدالقادر مقداد واحد من الذين طُمسوا في بلدهم وتوجّب أن يُعاد إليه الاعتبار قبل فوات الأوان. تحضر الأعمال الرمضانية كل موسم بعناوين لمسلسلات وسيتكومات لم تعد تحرّك في التونسي أي إحساس بالجديد، فيما تحافظ القناتان الفضائيتان الأولى والثانية في تونس على إعادة بعض الأعمال الخالدة. وبدا أن الأمر لا يتعلق بشهر الصيام فحسب، بل يستمر أيضا على مدار الموسم. السؤال الذي يُطرح هنا: لماذا يتم ذلك وبكيفية روتينية؟
الجواب بكل بساطة هو غياب المنتج الإبداعي الذي يشدّ الجمهور الواسع من التونسيين الباحث عن “اللمّة العائلية”. وحده مقداد وأمثاله الكثيرون من ظلوا يشدون الجمهور إلى الشاشة بأعمالهم وصنيع ما أنجزوا طوال فترات من الزمن الجميل الذي انفتحت فيه قوارح بحثهم المعمّق والنصوص الوازنة التي تضيف إلى الفنان رصيدا أكثر مما تسحب منه.
هو واحد من الذين حافظوا على العطاء الغزير وبلا تردد أو ملل في جل الأدوار التي قدمها بروح المغامر وثقافة المحب لعمله أداء وأسلوبا ومعنى. لكنه في المقابل عُومل بقسوة كبيرة كغيره من المبدعين الذين رحلوا في صمت، لكن عزاء مقداد الوحيد أنه مازال على قيد الحياة.
كثيرون من يعيشون مرارة الفقد في وطنهم تونس التي استحال فيها الفنان والمبدع يعيش على الحواف وينتظر لحظة تكريم قد تأتي أو لا تأتي. قد نبارك هذه اللحظة التي تسرد كل جميل في الفنان التونسي القدير عبدالقادر مقداد إنصافا له كمبدع خلق الفرجة والمتعة معا في عيون جمهور واسع يتابع أعماله بنهم، لكننا قد لا نُبارك أي جهد نبيل في حقه يأتي متأخرا من أهل الميدان اعترافا له بما قدمه وذوْدا ودفاعا عن الذات المبدعة التي قد لا تتكرر.
إن المطلوب اليوم هو لمسة وفاء في حق هذا الفنان القدير اعترافا له بما قدم يحق تعميمه على أبناء جيله من الفنانين الكبار اقتداء ببعض البلدان التي لا تنسى مبدعيها وتتنكّر لهم. وسيظل عبدالقادر مقداد واحدا من الذين يفتقدهم المسرح التونسي بمرارة الغيب ولو كره الكارهون.

◄ فنان صنع ملحمته المسرحية من العدم