فهم ماهية العنف شرط أساسي لإصلاح النظام التربوي

الأنظمة الشمولية التي ابتلي بها العالم العربي لعقود طويلة مازالت تنطلق من مفهوم توظيف التاريخ، المُدلس في أغلب الأحيان، لتديم أيديولوجياتها التي تسوقها باسم الأمجاد العربية الغابرة، وبالتالي فقد انسحب هذا التدليس على أنظمة التربية والتعليم وثقافة الطفل أيضا، وجرى التركيز على البطولات العربية وإضفاء الملامح الأسطورية على شخصية البطل العربي المستل من التاريخ، من دون الالتفات للجوانب النفسية وتأثيراتها على سلوكية الطفل وتنشئته.
وبقدر تعلق الأمر بالعراق على سبيل المثال، فقد سادت مثل تلك السلوكيات المشينة كممارسات تربوية يومية إبان الحرب العراقية – الإيرانية، عندما كان المعلم أو المعلمة عند مفتتح اليوم الدراسي يأمر التلاميذ بنطق كلمة “قيام”، أي النهوض احتراما له، فيردد التلاميذ بصوت واحد “قادسية صدام”، وعندما يأمرهم بالجلوس يرددون بالطريقة نفسها عبارة “يسقط الفرس المجوس”، ناهيك عن انتشار المسائل الحسابية التي تعتمد عدد الدبابات والمدافع والبنادق في الصور المصاحبة وانتشار الأسلحة كلعب أطفال في الأسواق.
إن مثل تلك السلوكيات التي يعرفها أغلب من عاصر تلك الأحداث تمثل لنا نموذجا فاضحا للتأثير المدمر على وعي الطفل العراقي وبنيته النفسية آنذاك، وهو الأمر الذي سينتج عنه لاحقا الكثير من الممارسات الخاطئة والعنيفة بالنسبة إلى الأجيال الجديدة التي تشكل عماد شريحة الشباب حاليا.
◄ أحمد أبوالغيط دعا إلى ضرورة إصلاح المنظومة التعليمية والمناهج الدراسية وتصحيح الخطاب الديني، من خلال تنقية التراث العربي مما علق به من خرافات وأفكار مشوشة
ولم يكن الأمر لينصلح بعد الاحتلال والمتغير الكبير الذي حصل في العراق بعد العام 2003، إذ عمت الفوضى وتراجع مستوى التعليم بطريقة مهولة، وانتشرت حمى الأهواء الطائفية للساسة والمشرفين على النظام التربوي برمته، وتراجع دور المؤسسات الثقافية المعنية وانعدمت الرقابة التربوية على المدارس الخاصة، لاسيما ذات التوجهات الدينية منها، وراحت الكثير من دور النشر العراقية، سواء في بغداد أو بعض المحافظات الأخرى، تنشر كتبا وكراسات للأطفال مليئة برموز العنف والقصص التاريخية المُدلسة وإقحام القصص والشخصيات التاريخية المختلف عليها أصلا في تلك الكتب المزودة بالرسومات الشنيعة التي تتضمن تقطيع الأطراف والرؤوس وكل ما يوحي بالعنف (انظر إلى الصور المصاحبة لهذا التقرير على سبيل المثال وليس الحصر).
وفي المقابل راحت بعض دور النشر ذات التوجهات الدينية، التي تعتقد خطأ بأن توجيه التلميذ وجهة إسلامية مبكرة وبأي طريقة هو واجب شرعي، من دون أن تعي ماهية وأسس علم النفس الحديث الخاص بالطفل، يصاحب كل ذلك عدم اكتراث أو تجاهل من الجهات الرقابية في الكثير من البلدان العربية، إما بسبب عدم الاختصاص أو بسبب المحاباة والرضوخ للأمر الواقع.
ولا يقتصر الأمر على انعدام الرقابة الفكرية والنفسية وحسب، بل يتجاوزه إلى عدم تخصص الكثير من المشتغلين في الكتابة للطفل أو المشرفين على وضع الأسس الخاصة بأنظمة التربية والتعليم في الوطن العربي، ومن بديهيات الكتابة للطفل على سبيل المثال توفر المهارة والدربة واللغة الخاصة لدى الكاتب، ناهيك عن قدرته على تأطير المضمون الذي يمنح للطفل مفاتيح التخيل وتنمية طاقة الحلم لديه، وكل ذلك وفق اشتراطات صارمة أخرى ليس أقلها الابتعاد عن كل ما يتصل بعالم الكبار من موبقات وأهواء ومعتقدات وعقد، وبنظرة تأملية لهذه الأطر أو الاشتراطات، ندرك على الفور صعوبة تحقيقها أو توفرها بسهولة، ووفق هذه الرؤية أصبحت الكتابة للطفل واحدة من أعقد وأصعب الممارسات في عصرنا الحالي.
ونظرا إلى صعوبة إيجاد جهة رقابية عامة وموحدة في العالم العربي، نتيجة لاختلاف أنظمة التربية والتعليم والثقافات، فإن الحد الأدنى المطلوب في هذه المرحلة هو تفعيل الجهات الرقابية الوطنية في كل بلد من البلدان على حدة وتشذيبها من التأثرات الأيديولوجية والفكرية والدينية المتزمتة، وإلزام المدارس الخاصة ورياض الأطفال بمناهج تعليم مركزية ومدروسة ومصممة وفق أسس علمية متينة على أيدي خبراء تربية وعلم نفس متخصصين، وإلزام دور النشر الأهلية باستحصال الموافقات المسبقة لنشر كتب الأطفال على الأقل، وتفعيل دور المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) التابعة لجامعة الدول العربية للنهوض بدورها الحقيقي، بعد أن ظل عملها على مدى عقود مقتصرا على عقد المؤتمرات والاجتماعات الدورية ورفع التوصيات بسبب وقوعها تحت التأثيرات السياسية هي الأخرى.

◄ ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
بالتأكيد لن يكون الأمر سهلا بالنسبة إلى تحديد مفهوم العنف وتأثيره على ذهنية الطفل العربي وتكوينه النفسي، ومازال الأمر خاضعا للكثير من الشد والجذب، لاسيما وجود مدارس متعددة ومختلفة الرؤى والتنظيرات في هذا الجانب، فهناك مدارس في الغرب تعتقد بأن روح المغامرة والمشاكسة والشقاوة نوع من أنواع الجذب بالنسبة إلى الأطفال من فئات عمرية معينة، ومدارس أخرى لا تؤمن بالجانب التربوي لأدب الطفل وتحصر مهمته في تنمية الخيال الجامح لدى الأطفال، وتترك قضية التربية للمدارس وهكذا.
إن مثل هذا الاختلاف في توصيف معنى العنف بالنسبة إلى الأطفال يوضح لنا مدى صعوبة وخطورة القضية، وعلى سبيل المثال، ماذا نصنف تلك الضفدعة التي رأت حجم البقرة الكبير وأرادت أن تصير مثلها، فراحت تنفخ وتنفخ حتى انفجرت وتطايرت أشلاء، هل نعد تطاير الأشلاء هنا عنفا أم أن المغزى الذي أراده واضع منهاج القراءة في ستينات القرن الماضي والخاص بفكرة القناعة وعدم السعي للتشبه بالآخرين مبرر كاف لإدراج تلك القصة في كتاب القراءة للصفوف الأولى؟
في الواقع هناك الكثير من تلك القصص والمقارنات التي تزخر بها كتب الأطفال سواء كانت تربوية خاصة بالمدارس أو قصصا تصنف ضمن أدب الطفل، مثل قصص الشطار والعيارين التي حُولت في مرحلة من المراحل إلى الأطفال وفيما إذا كانت قصصا مشوقة وممتعة وتحفز الخيال لدى الأطفال، أم تستمرئ مفاهيم الخديعة والنصب والاحتيال؟
ما أريده من سَوق هذه الأمثلة البسيطة هو التنبيه إلى أن المهمة لن تكون سهلة على الإطلاق، ومحفوفة بالمخاطر والخلاف وخاضعة لرؤى وقناعات متداخلة ومفاهيم وأهواء عدة، وعلى الرغم من أن الأمر متروك في النهاية للأسرة وفهمها وقدرتها على اختيار وتحديد ما تراه صالحا ومناسبا لأطفالها، إلا أننا لا نستطيع التعويل بالمطلق على هذا الجانب، نتيجة لاستشراء الأمية وعدم توفر التعليم الجيد لنسبة كبيرة من الآباء والأمهات في العديد من البلدان العربية، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها تلك الأسر وانشغالها المتواصل بتوفير لقمة العيش لأبنائها كأولوية تفوق بالتأكيد أولية الثقافة والتعليم، الأمر الذي يرمي الكرة في المحصلة في ساحة الدولة متمثلة بالمدارس ورياض الأطفال.
نقطة أخرى مهمة للغاية على هذا الصعيد هي اختلاف مستويات التعليم والتوجهات التربوية في البلدان العربية، ففي الوقت الذي كان نظام التربية والتعليم في العراق إبان سبعينات القرن العشرين على سبيل المثال يعد واحدا من أفضل نظم التربية والتعليم في المنطقة، راح هذا النظام يتدهور بشكل مهول في العقود الأخيرة حتى وصل إلى مستوى مريع في السنوات الأخيرة.
وفي الوقت الذي كانت أنظمة التربية والتعليم في الخليج شبه معدومة مطلع الستينات والسبعينات من القرن الماضي صارت اليوم واحدة من أفضل النظم في المنطقة بسبب الاهتمام المتزايد بهذا الجانب والعناية به ورصد الميزانيات اللازمة لتطويره واعتماد أفضل الخبراء والمتخصصين لترصينه، بينما ظلت مثل هذه الأنظمة في المغرب العربي تتفاوت بين السعي للتعريب، الذي شهد فورة ملحوظة في ستينات وسبعينات القرن العشرين بفعل المد القومي آنذاك، والعودة إلى أنظمة التعليم الفرانكفونية الكفؤة لكن غير العربية أيضا.
◄ بعد الاحتلال والمتغير الكبير الذي حصل في العراق بعد العام 2003، عمت الفوضى وتراجع مستوى التعليم بطريقة مهولة
وكي لا أكون متجنيا على المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، فقد بُذلت بعض الجهود المتفرقة هنا وهناك على هذا الصعيد، منها المؤتمر الذي عُقد في تونس في شهر مايو 2016 الخاص باستخدام البيئة التعليمية مسرحا لتحقيق مآرب تتنافى والقانون الدولي الإنساني، فقد أصدر المؤتمر العديد من التوصيات والقرارات بشأن ترسيخ العمل العربي المشترك في مجالات التربية والعلوم والثقافة، بما في ذلك شجب العنف والتطرف في المدارس.
ومما جاء في بيان المنظمة، “إن الألكسو إذ تدين بشدة هذه الانتهاكات إيمانا منها بأهمية تربية الطفل على الانتماء العربي والمواطنة، وحقه في التعليم في جو من الأمن والاطمئنان، وتؤكد وتعلن تجريمها للأعمال التخريبية التي توجه لأبنائنا وبناتنا الطلاب والطالبات في أي جزء من وطننا العربي الكبير، بما في ذلك ما تتعرض له المدارس الفلسطينية تحت الاحتلال. كما تعلن مساندتها الكاملة لكل ما من شأنه تحقيق الاستقرار والانتظام للمدارس والمؤسسات التعليمية في البلدان العربية وأن تكون بمنأى عن التيارات والصراعات السياسية والفكرية”.
من جهته دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط إلى ضرورة إصلاح المنظومة التعليمية والمناهج الدراسية وتصحيح الخطاب الديني، من خلال تنقية التراث العربي مما علق به من خرافات وأفكار مشوشة تدعو إلى العنف، داعيا إلى البحث عن القيم الوسطية والاعتدال والمساحات المشتركة بين الناس، بما يتلاءم مع روح العصر ومقتضيات الحياة، وذلك من خلال إبعاد الجهلة والمتطرفين عن المنابر، وكافة مراكز التأثير وتشكيل الرأي العام العربي، وهو ما ندعو إليه في الحقيقة، لكن تبقى المعضلة الرئيسة هي أن قرارات وتوجيهات الجامعة العربية ومنظمتها للتربية والثقافة والعلوم، قرارات غير ملزمة وليست ذات تأثير مباشر على ما يحدث من مشاكل ومخالفات وموبقات جارية على قدم وساق في العالم العربي.