الإعلام المصري يسترضي السلطة بتجميل صورة الواقع الاقتصادي

يبالغ الإعلام المصري في تصوير تحسن الواقع الاقتصادي في البلاد دون أن يلمسه المواطن ما جعله فاقدا للمصداقية والتأثير، فيما يشتكي الجمهور من استمرار المنابر في التضخيم من الإيجابيات ويطالب بنقل همومه ومشاكله بدلا من الواقع الخيالي.
القاهرة - “الأسعار لا تنخفض بنسب خيالية إلا في التلفزيون والصحف والمواقع الإخبارية”.. هكذا يمكن تلخيص الواقع في مصر مقابل ما يتم الترويج له إعلاميا من تراجع غير مسبوق في أسعار السلع، كمبرر لعودة الاصطفاف خلف الحكومة عقب نجاحها في أهم ملف جماهيري مرتبط بضبط السوق بعد فترة من قفزات الأسعار.
أصبحت بعض وسائل الإعلام تركز على الانخفاض في الأسعار بما يخالف الحقيقة في الأسواق أحيانا، دون النزول إلى أرض الواقع لنقل الصورة كاملة بالتقصي الميداني، ما أثار غضبا لدى قطاعات من الجماهير، لأن الإعلام في هذه الظروف يساند الشارع وينقل معاناته إلى الحكومة، لا دعمها والترويج لما يناقض الحقيقة.
وشهدت أسعار بعض السلع تراجعا طفيفا بعد تدخل الحكومة بحسم والتلويح بمزاحمة الدولة للقطاع الخاص في استيراد وبيع السلع بتكلفة منخفضة، لكن الانخفاض الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام بدا مبالغا فيه، فإذا كانت الأسعار هبطت بنحو 10 في المئة لسلع بعينها، فبعض المنابر الرسمية قالت إن النسبة وصلت إلى 50 في المئة.
وقد لا ينفصل الترويج الإعلامي لنجاح الحكومة في ضبط السوق عن العتاب الذي وجهه الرئيس عبدالفتاح السيسي لوسائل الإعلام لتناولها ارتفاع أسعار المواد الغذائية على مدار اليوم، عندما قال في إحدى المناسبات “لي عتاب على الإعلام.. أنتم ليه بتظهروا الناس مرعوبين على الأكل والشرب وإن الحاجة غالية، وكأن الدنيا آخرها زيادة الأسعار.. هذا لا يصح”.
ويعد ملف الأسعار من أكثر القضايا المؤرقة للحكومة المصرية، وكان السبب وراء بعض المطالبات الإعلامية والبرلمانية والشعبية لرحيل الحكومة، لأنها لم تنجح في ضبط السوق، بينما تعتقد دوائر رسمية أن إقناع الناس بهبوط الأسعار بشكل ملحوظ، كفيل بالرضا الشعبي على الحكومة، وهذا لن يتحقق سوى من خلال الإعلام.
وتظل أزمة بعض الصحف والمواقع والبرامج التلفزيونية في الاعتماد على شريحة معينة من كبار التجار للحصول على المعلومات الخاصة بتراجع الأسعار، مع أن هذه الفئة لها مصلحة في الترويج لنجاح الحكومة في ضبط السوق، بعد أن أظهرت الأخيرة “العين الحمراء” في وجه التجار والمستوردين وألزمتهم بنزول الأسعار بنسب كبيرة.
ويلوم الجمهور على الإعلام أنه ينقل الواقع من وجهة نظر واحدة ولا يتقصى وراء معرفة الحقيقة والنزول إلى الشارع واستطلاع رأي المواطنين أنفسهم، والتجول في الأسواق كجزء من التغطيات الميدانية التي يتم الرد من خلالها على ما يتم ترويجه من قبل أصحاب المصلحة أو بعض الدوائر الحكومية التي لا ترى الحقيقة كاملة.
ويرى مراقبون أن المشكلة ترتبط بالتراجع في ممارسة الإعلام لدوره الرقابي على الأداء الحكومي بشكل عام، والاكتفاء بما يتم تقديمه من بيانات ومعلومات مرتبطة بقضايا معينة، ولا توجد محاولات لنقل وجهة النظر الأخرى التي تلامس نبض الرأي العام، ما يجعل الكثير من المنابر الإعلامية متهمة بفقدان المصداقية.
وعندما تروج بعض وسائل الإعلام إلى أن سعر رغيف الخبز الحر سينخفض بنسبة 50 في المئة، ولا يرى الناس هذا الانخفاض فهذا أقل ما يوصف به أنه ترويج لواقع خيالي، بحسب محروس مصطفى، وهو رب أسرة قاهري، قال إنه أصيب بالملل من متابعة أخبار عن قضايا جماهيرية، لا يراها في الواقع.
وكغيره من المصريين، اتهم رزق الحكومة بأنها تستغل الإعلام لتوصيل رسالة للناس بأن الواقع أفضل من الماضي، معقبا “كل مساء، أتابع البرامج الحوارية لأعرف التفاصيل، أشاهد بعض المذيعين يروجون لإيجابيات خيالية، وأعضاء غرف تجارية يتحدثون عن انهيارات في الأسعار”.
بعض المنابر تصر على أن تبحث عن كل إيجابية لتبرير وقوفها خلف الحكومة بشكل بات مستفزا للجمهور
ولا ينكر رزق، أن أسعار بعض السلع تراجعت، لكن ماذا يحدث إذا تحدث الإعلام بواقعية ورصد التحسن التدريجي دون تضخيم، فإذا نزل أي صحافي أو مذيع وتحدث مع الناس سيقولون له هناك انخفاضات محدودة ونأمل في المزيد، لكن الإعلام منفصل عن الشارع ولا يعطيه الميكروفون كي ينفّس عن همومه.
ويبدو لشريحة كبيرة من الجمهور أن هناك خطة لدى وسائل الإعلام بالتركيز على الرسائل التي تبعث التفاؤل وترفع الروح المعنوية للمواطنين، لكن المعضلة أن الطرف المتلقي للرسالة يريد أدلة تعزز لديه مصداقية ما يصل إليه من معلومات، وهذا جزء لا تتحمله الحكومة بقدر ما يرتبط بمصدر الرسالة وآليات توصيلها.
وتقتنع بعض الأصوات الإعلامية بأنها عندما تروج لنجاح الحكومة بشكل ساحق في ملف مثل ضبط الأسعار، فهي بذلك ضمنت رضاء دوائر السلطة عليها، بما يجعلها في مأمن من الإقصاء، مع أن الرئيس السيسي دأب على مطالبة الإعلام بالتوازن في القضايا محل النقاش بلا تهويل أو تهوين لتكريس المصداقية.
يستبعد بعض خبراء الإعلام أن تكون الرسائل المبالغ فيها التي تخرج للناس في الآونة الأخيرة مصدرها توجيهات رسمية، لأن النظام في غنى عن ذلك، طالما أن هناك بالفعل تحسنا إيجابيا ولو نسبيا، بدليل أن رأس السلطة نفسه اعتاد على مصارحة الناس وطالبهم بالصبر، لأن الظروف لن تتحسن في وقت قصير.
ما يثير امتعاض شريحة معتبرة من المصريين أن الإعلام تجاوز حدود تجاهل نبض الشارع
إذا كان هناك توجه رسمي نحو إلزام الإعلام بخداع الناس، لماذا تحدث رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قبل أيام عن شعوره بوجود شبهة تعمد لتحقيق أرباح غير مشروعة بالسوق على حساب المواطنين، وأكد الرئيس السيسي أن الأزمة الاقتصادية مستمرة بعض الوقت والدولة ترصد الغلاء وتفعل كل ما بوسعها.
ما يثير امتعاض شريحة معتبرة من المصريين أن الإعلام تجاوز حدود تجاهل نبض الشارع، ويتحدث عن أن الوضع في مصر أفضل حالا من حيث توافر السلع والمحروقات، بينما تشهد العديد من الدول أزمات حادة، كمحاولة لإقناع الناس بأن الاصطفاف خلف الحكومة فرض عين طالما نجحت في المهمة.
تصر بعض المنابر على أن تبحث عن كل إيجابية لتبرير وقوفها خلف الحكومة بشكل بات مستفزا للجمهور، مع أنها لو تعاملت بواقعية ونقلت وجهتي النظر الإيجابية والسلبية بلا إيحاء بأن الأوضاع في مصر أفضل من نظيرتها في بعض الدولة المحيطة بها لما وصلت علاقتها مع الناس إلى شبه قطيعة.
قال الخبير الإعلامي محمد شومان، وهو عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية في القاهرة، إن “أي إعلام يخالف مبدأ التوازن يضر بصورته عند الجمهور، والتعامل مع القضايا الشعبية يفترض أن يكون بحكمة وعقلانية ومهنية عالية”.
وأضاف لـ”العرب” أن مصداقية الخطاب الإعلامي في القضايا الجماهيرية تزداد بالتحليل والتفسير والتعمق والتقصي وراء المعلومات المتاحة، وكلما كانت هناك أدلة للرسالة يسهل تصديقها، مؤكدا أن رفع الروح المعنوية للمواطنين هو جزء من دور القوى الناعمة، لكن بخطاب منطقي كي يتحقق الهدف.
بقطع النظر عن إمكانية تحقيق ذلك، فإن الإعلام المصري مطالب أكثر من أي وقت مضى بالتعامل مع الجمهور على أنه ليس ساذجا بالقدر الذي يدفعه إلى تصديق واقع مصطنع، لأن الاستمرار على وتيرة التضخيم من الإيجابيات التي تضاعف من صعوبة ترميم العلاقة بين الطرفين في ذروة حاجة الدولة إلى إعلام متوازن ومؤثر.