الدمج والدعم المالي خطة الحكومة التونسية لإنقاذ "دار الصباح" و"سنيب لابراس"

تتقدم أعمال دمج مؤسستي "دار الصباح" و"سنيب لابراس"، اللتين تصدران صحفا ورقية وتعتبران من أعرق المؤسسات الإعلامية في تونس وتشغلان العشرات من الصحافيين والموظفين، في إطار حل الأزمة المالية التي تعيشها المؤسستان. لكن الدمج وحده لا يكفي في عملية الإنقاذ أمام تراجع الجرائد الورقية وتطور العالم الرقمي.
تونس - أكد مسؤولون في مؤسستي “دار الصباح” والشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر (سنيب لابراس) التونسيتين أن أعمال الدمج بينهما بلغت مرحلة متقدمة وستنتهي في غضون ستة أشهر، في إطار خطة إنقاذ لحل أزمة المؤسستين المالية والاجتماعية جذريا. وأفاد مفوض “دار الصباح” الهاشمي بلوزة لوكالة تونس أفريقيا للأنباء بأن دمج المؤسستين، اللتين تعيشان منذ فترة أزمة مالية خانقة، “بلغ مرحلة متقدمة. وسيكون في حدود الستة أشهر القادمة وفي إطار شركة جديدة”.
ومن المقرر أن تعقد لجنة القيادة المكلفة بإعداد برنامج الدمج الأربعاء اجتماعا للنظر في مخطط العمل وبحث نوعية الشركة التي ستنبثق عن عملية الدمج، وأوضح بلوزة أن هناك توجها نحو تأسيس شركة جديدة تأخذ أصول الشركتين وتكون في شكل منشأة عمومية. وأضاف أن تقارير الخبراء النهائية يفترض أن تكون في مراحلها الأخيرة للانطلاق في عملية متطلبات الدمج.
وكلفت لجنة القيادة مكاتب دراسات وخبراء مختصين في القانون والمالية للقيام بعمليتي الدمج والانتقال الرقمي، وبين بلوزة أن الدمج وحده لا يكفي في عملية الإنقاذ أمام تراجع الجرائد الورقية وتطور العالم الرقمي. وذكر أن العملية تتطلب بعض الوقت بالنظر إلى اختلاف وضع كل شركة عن الأخرى من حيث الاستقلالية والصبغة الإدارية والقانون الأساسي المنظم لها.
وتعد مؤسستا “دار الصباح” و”سنيب لابراس”، اللتان تصدران صحفا ورقية، من أعرق المؤسسات الإعلامية في تونس وتشغلان العشرات من الصحافيين والموظفين. وتصدر “دار الصباح” ثلاث صحف، اثنتان منها يوميتان وواحدة أسبوعية. وتأسست سنة 1951 من قبل الحبيب شيخ روحه ثم آلت إلى أبنائه من بعده قبل التفريط فيها لصخر الماطري، صهر الرئيس الأسبق بن علي، ثم تمت مصادرتها بعد الثورة.
ويقول أستاذ التاريخ المعاصر خالد عبيد إن جريدة “الصباح” كانت في نشأتها “اللسان غير الرسمي للحركة الوطنية التونسية، وتحديدا حزب الدستور الجديد”. وأضاف أنها عبرت عن هموم التونسيين الرازحين تحت الاستعمار وتعرضت للمنع والتضييق أكثر من مرة، مؤكدا إدراجها ضمن الخط الوطني التحريري الرامي إلى استقلال تونس معتمدة على نقل ما يحدث في تونس من تجاوزات وجرائم.
وذكر أنها فتحت أعمدتها مبكرا لرواد الثقافة التونسية الملتزمة والواعية بقضايا شعبها وهو ما حرصت الجريدة على الالتزام به منذ تأسيسها إلى الآن رغم كل الصعوبات التي تعرضت لها. أما مؤسسة “سنيب لابراس” فهي تصدر جريدتي “لابراس” و”الصحافة اليوم” اليوميتين، وتشغل حوالي 240 شخصا منهم 90 صحافيا كاتبا ومصورا وتقنيا.
وكانت جريدة “لابراس” صدرت لأول مرة في سنة 1936، حيث أكد عبيد أنها كانت في البداية اللسان المعبر عن الفرنسيين في تونس، لكنها أصبحت منذ سنة 1967 اللسان الناطق باسم الدولة التونسية بعد أن وقعت مصادرتها من مؤسسها هنري سماجة. وأضاف أن الدولة حرصت آنذاك على القيام بكل الإصلاحات واتخاذ القرارات الضرورية حتى تكون هذه الجريدة واجهة لسياسات الدولة ونافذة لنشر الوعي لدى التونسيين بضرورة بناء الوطن.
وقررت الحكومة دمج المؤسستين نهاية شهر يوليو 2023 في إطار خطة إنقاذ لحل أزمتيهما المالية والاجتماعية جذريا. وعقد رئيس الحكومة في 27 مارس 2024 جلسة عمل وزارية خصصت لمتابعة برنامج إعادة هيكلة ودمج المؤسستين ونتائج أعمال مختلف الفرق المكلفة بذلك. كما اجتمع الرئيس قيس سعيد في 28 مارس الماضي بالمدير العام للشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر ومفوض “دار الصباح” وأكد على أنه لا مجال للتفريط في المؤسستين.
وكان قيس سعيد زار في يونيو الماضي “دار الصباح” وقال إن المطلوب حفظ الذاكرة الوطنية ولا مانع في أن يصبح هذا الصرح تابعا للدولة، متابعا “إذا فرطنا في ‘دار الصباح’ يعني كأننا فرطنا في متحف باردو”.
ويقول سفيان شعبان كاتب عام النقابة الأساسية بمؤسسة “سنيب لابراس” إن قرار الدمج كان “مفاجئا” لكنه جاء تتويجا وامتدادا لعمل نقابي تواصل حتى بعد زيارة الرئيس إلى المؤسسة. وأضاف أن من حق أبناء المؤسسة تحسين أوضاعهم والحصول على حقوقهم، لكن لا بد من المضي بالتوازي في معالجة بعض الملفات على غرار وضعية البناية، التي أفاد بأن آخر تقرير أثبت أنها “لم تكن آيلة للسقوط وأنها تستوجب فقط عملية إصلاح وترميم”.
وقال الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار محمد قنطارة إنه يؤيد عملية الدمج بين المؤسستين، رافضا إبقاء كل مؤسسة على حدة. وأبرز أهمية أن تكونا في إطار مؤسسة واحدة تتمتع بالشمولية والتكامل ولها قيادة واضحة وتصور ورؤية إستراتيجية وإطار قانوني بما يضمن ديمومة المؤسستين.
وبشأن الوضع الحالي أكد مفوض “دار الصباح” الهاشمي بلوزة أن المؤسسة تلقت العام الماضي دعما ماليا من الحكومة بما مكنها من تأمين الأجور والتزود بالورق والحبر، مشيرا إلى أنه تقرر مؤخرا تمديد هذا الدعم لمدة 6 أشهر إضافية، أي إلى حين موعد الدمج.
بدوره أكد كاتب عام النقابة الأساسية بمؤسسة “سنيب لابراس” وجود تحسن نسبي في وضعية المؤسسة بعد تأمين الحاجيات المالية المتأكدة للمؤسسة وإدراج الأجور في ميزانية سنة 2024 والتمكن من استرجاع بعض الديون المتخلدة بالذمة.
وعانت مؤسسة “سنيب لابراس”، التي تأسست سنة 1973 من أزمة هيكلية خانقة لسنوات عمقتها، وفق المهنيين، طريقة تعاطي السلطة سابقا مع الملف ومع مطالبهم المتعلقة بعدة مستحقات مالية من أجور متأخرة ومساهمات في الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية ووضع حد لتوتر المناخ الاجتماعي. أما “دار الصباح” فكانت مهددة بالتوقف عن الإصدار بعد العجز عن التزود بالورق ومستلزمات الطباعة، وبقاء 128 موظفا، بين صحافيين وإداريين وفنيين، دون أجور؛ ما جعلها تصدر شهر يونيو 2023 باللونين الأبيض والأسود في عددها الورقي وتعنون صفحتها الأولى بـ”دار الصباح في خطر”، تعبيرا عن الأزمة التي تعيشها.
◙ ما تعيشه الصحافة الورقية التونسية هو نموذج مجهري من أزمة عالمية أثرت على مؤسسات الصحافة التي تراجعت عائدات إعلاناتها
ويرى خبراء في مجال الإعلام أن ما تعيشه الصحافة الورقية التونسية هو “نموذج مجهري” من أزمة عالمية اقتصادية أثرت على مؤسسات الصحافة التي تراجعت عائدات إعلاناتها وانخفضت قاعدة توزيع نشرياتها ومطبوعاتها.
وفي تونس انطلقت أزمة الصحافة المطبوعة منذ سنة 2012 وتفاقمت لاحقا بسبب ارتفاع تكاليف الإصدار وتراجع حجم المبيعات ومداخيل الإشهار الخاص والعمومي، ما تسبب في توقف صحف يومية أو أسبوعية ومجلات شهرية ونصف شهرية بلغ حد التوقف النهائي أو الانتقال إلى الرقمي بسبب تضاعف كلفة الإنتاج. ويعتبر عضو لجنة أخلاقيات المهنة بمجلس الصحافة فطين حفصية، أن ما تعيشه الصحافة الورقية التونسية ليس بمعزل عن الأزمة العالمية للقطاع.
وقال حفصية إن الصحف المتبقية هي في “صراع بقاء” مع “الزحف” التكنولوجي والرقمي، الذي جعلها سجينة الوقت والأحداث التي تجاوزها هذا الزمن الاتصالي الحديث. وأضاف أن أزمة كورونا وارتفاع تكاليف الورق والطباعة وتناقص الإعلانات وضيق سوقها فضلا عن حالة “الفوضى والهشاشة” التي يشهدها القطاع ضاعفت أخبار “نعي” الصحف. وأشار إلى احتجاب جملة من العناوين التي رسخت في الذاكرة الصحفية الجمعية كـ”الأنوار” و”المصور” و”البيان” و”أخبار الجمهورية” و”الصريح”، لتمس الأزمة عمادين من أعمدة الصحافة المكتوبة وهما شركة “سنيب لابراس” ومؤسسة “دار الصباح”.
ويقول محمد قنطارة إن المشكلة بصفة عامة هي مشكلة إستراتيجية وبناء وتصور كيف ستبقى هذه المؤسسات قائمة، مشيرا إلى أن الصحافة المكتوبة لم تندثر في العديد من الدول كفرنسا وإيطاليا، وظلت قائمة رغم النقص في كميات السحب وغياب الصدى الذي كانت تحظى به في السابق، ما يؤكد أن للصحافة المكتوبة مجالا للبقاء.
وأكد قنطارة على ضرورة وجود سياسة عمومية للإعلام، على غرار الصحة والتعليم، مبرزا أن الإعلام ركن أساسي في أي مجتمع وله دور تثقيفي وتوعوي ويقدم خدمات عامة للمواطنين على غرار الدور الذي لعبه في فترة كورونا.
وانتقد ما يروج عن التونسي من “مغالطات” بأنه لا يقرأ الجرائد، في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك والدليل، وفق قوله، نفاد جريدة “الصباح” منذ الصباح الباكر يوم نشرت نسخة مقترح الدستور التي أعدتها اللجنة المكلفة بذلك من قبل رئيس الجمهورية. وأشار إلى أن أزمة القطاع تتطلب رؤية إستراتيجية شاملة لتحقيق الشمولية والتكامل ودراسة السوق ومتطلباتها ومتغيراتها، خاصة في ظل وجود سوق ضيقة وحجم إشهار ضعيف.
ولئن رحب بعملية الدمج بين مؤسستي “دار الصباح” و”سنيب لابراس”، فإنه تساءل عن الإستراتيجية المستقبلية للمؤسستين على مستوى الطباعة والتسويق والقيادة والتصور والرؤية. وأكد أستاذ الصحافة أهمية تدخل الدولة بتحديد القواعد في الإدارة والهيكلة والقانون والتكوين، وأن تأخذ ذلك على عاتقها للارتقاء بالمضمون دون التدخل في الخط التحريري.
وقال إن ضعف رأس المال من مشاكل المؤسسات الإعلامية، وعملية الدمج ستحقق “الرسملة”، أي توسيع رأس مال المؤسستين في إطار مؤسسة واحدة بما يمكنها من القيام بعدة خدمات ومشاريع دون مخاوف.