البيغ داتا تغربل مشاعر البشر ومعلوماتهم وتتحكم فيهم

"الإنسان العاري" تحذير صارخ من الدكتاتورية الرقمية.
الاثنين 2024/04/08
أصبحنا ما يشبه أشباحا رقميين

وعد العالم الرقمي خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي، بالتأسيس لتواصل أكثر فاعلية واتساعا وسرعة، وهو ما حدث بالفعل، لكن الغايات كانت أبعد من ذلك بكثير، حتى أن تلك الوعود انقلبت إلى الضد تماما، وحول العالم الرقمي البشر إلى كائنات وحيدة وانعزالية ومحبطة إلى حدود مخيفة، علاوة على استغلاله الخطير للمعلومات الذاتية لتحقيق أرباح ضخمة.

يعالج كتاب “الإنسان العاري الدكتاتورية الخفية للرقمية” موضوع الواقعي والافتراضي، إذ بات إنسان اليوم افتراضيا بنسبة كبيرة قياسا إلى معايشته للواقع الحقيقي من خلال هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على فكره وسيكولوجيته وحياته عموما، فهو يبحث عن كم من الأصدقاء، ولكنهم في فضاءات جغرافية بعيدة عنه، ويبقى وحيدا أو يكاد ربما في حياته الواقعية، فالبيغ داتا وهي التسمية عن الشركات متعددة الجنسيات، تسيطر على أدمغة الناس وتوجههم الوجهة التي يراد لها مصلحتها بالاحتفاظ بمعلوماتهم والاستفادة الربحية منها.

يرى مؤلفا هذا الكتاب مارك دوغان وكريستوف لابي أنّنا في حضرة تخزين كلي لمعطيات العالم فكل شيء يمر عبر البيغ داتا، الصور العائلية والموسيقى ولوحات شهيرة وقصائد وروايات، ووصفات الطبخ ..إلخ.

العالم في شاشة

◙ على عكس ما هو شائع فإن فيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي تعزز العزلة وليس العلاقات الاجتماعية
◙ على عكس ما هو شائع فإن فيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي تعزز العزلة وليس العلاقات الاجتماعية

يتعلق هذا بضبط شامل يمكن من معيرة الحياة الإنسانية في أدق تفاصيلها، إذ ترسل في كل لحظة حوالي 300000 تغريدة و15 مليون رسالة قصيرة و204 مليون رسالة إلكترونية في العالم، وترقن مليوننن من الكلمات المفاتيح في محرك غوغل. وتعد الهواتف المجهولة وسمارتفونات أخرى أدوات تحصل من خلالها البيغ داتا على معطياتنا الشخصية، كما لا يوجد أي قطاع في منأى من هذا التقطير.

وإذا كان مصدر 70 في المئة من هذه المعطيات هم المبحرون أنفسهم، فإن الشركات الخاصة هي التي تستغلها، وهكذا فإن آبل وميكروسوفت وغوغل أو فيسبوك يمتلكون 80 بالمئة من المعلومات الشخصية الرقمية للإنسانية، ويشكل هذا المنجم، الذهب الأسود الجديد. ففي الولايات المتحدة وحدها يصل رقم المعاملات العالمية للبيغ داتا – الكلمة لم تدخل القاموس إلا في عام 2008 - إلى 8.9 مليار دولار بنسبة تصل إلى نحو 40 بالمئة كل سنة، ويمكن أن يتجاوز 24 مليار، كما أنّ الشركات غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون قد نجحت في الاستحواذ على مجموع العالم الرقمي.

ويشير المؤلفان أنّ البيغ داتا عندما تسنن العالم إنما تضع شاشة بيننا وبين الواقع، تقوم بغربلة انفعالاتنا، تلك الإفرازات الإنسانية غير الخاضعة للنمذجة، والتي تجعل سلوك الإنسان في السراء والضراء غير متوقع، على عكس ما يحدث في الكومبيوتر، لذا فإن مقولة الأصالة تتبخر، وهي التي كانت قيمة أساسية عند اليونان القدامى، فالأصالة عندهم هي أن يعرف الإنسان نفسه وأن يقبل بوعي الوجود كما هو، كما أنّه في البيغ داتا الزائف يحل محل هذه الأصالة، إنّه زمن المزيف حيث لا شيء أصيل، لا الديكور ولا الذات، ويأتي المؤلفان بمثال واقعي عن مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الحياة الواقعية للإنسان المعاصر، هذا المثال تجسد بأنه في 21 مايو 2011 ولدت في مصر فتاة أطلقوا عليها اسم فيسبوك.

وفيما يتعلق بالإنترنت يرى المؤلفان أنّ آثارها الجانبية ليست مدمرة بالكامل، كما كان عليه الحال في "الشتاء النووي"، ولكنها فضاء ماكر بحيث يؤثر على القيم الأساسية من قبيل الحرية الفردية، لقد أعلن الخلط بين الخدمات والاستخبارات وبين المؤسسات التجارية للبيغ داتا عن ميلاد شكل جديد من الحكومة العالمية غير المنتخبة، وهذا وحده بنظر المؤلفين يشكل تهديدا للديمقراطية.

ومن أجل التدقيق في بيانات كل زبون، يجمع الفيسبوك كل المعلومات المودعة في المواقع الشريكة، وأصبح منذ فترة يستعمل أداة ثورية اقتناها من ميكروسوفت سنة 2013 تمكن من اقتفاء المبحرين اسمها "أطلس"، وتستطيع تتبع كل فرد في الشبكة الاجتماعية، وتقوم بذلك بطريقة أحسن مما كانت تفعله الكوكيات cookies، أولئك المبحرون الذين عندما نبحر في النت يلتصقون بالعنوان ip لأجهزتنا كما تفعل ذلك المحارات على حافة الباخرة، وسيكون لمستعمل النت هو المستهدف من “أطلس” وهذا معناه التعرف عليه واقتفاء آثاره كيفما كان السند الذي يستعمله، كومبيوترا ثابتا أو محمولا أو لوحة أو سمارتفون، وهكذا فإن الفيسبوك يقتفي آثار مليار و500 مليون من البشر أينما كانوا على النت.

أشباح رقميون

◙ عالم رقمي شبيه
◙ عالم رقمي شبيه 

يشير المؤلفان إلى أنّه لم يعد دماغنا المتصل باستمرار والمفعم بدفق من المثيرات العصرية قادرا على الاستيعاب، ففي هذا الكون الرقمي الذي هو كون الآنية والتراكيب وتشظي المهام، تصاب فيه الأعصاب بالإنهاك، ونكون قد دخلنا مع الانترنت عصر المهام المتعددة، فقد تعددت الاهتمامات، ولم نعد اليوم مكيفين فيسيولوجيا مع ذلك، وهذا من شأنه أن يحدث عندنا تشظيا في التفكير.

وقد تيقن اليوم علماء الأعصاب من ذلك، فالقيام بأكثر من ثلاث عمليات متزامنة يؤدي إلى إصابة الذهن بالإنهاك، وتنجم عن هذا مراكمة الأخطاء، بل اكتشف باحثون بريطانيون تغيرا للبنية الدماغية عند الأشخاص الذين يستعملون بشكل مكثف ومتزامن أجهزة كهربائية، ووجدوا أيضا نقصا هاما في المادة الرمادية في المنطقة التي تعالج الانفعالات، إنه تأثير قد يكون - حسب العلماء - مرتبطا بعطب انفعالي من قبيل الانهيار العصبي وأشكال أخرى من القلق.

الخلط بين الخدمات والاستخبارات والمؤسسات التجارية للبيغ داتا أفرز شكلا من الحكومة العالمية غير المنتخبة

ويقول المؤلفان بأنه على النقيض من أنّ الفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي تعزز العلاقات الاجتماعية، كما هو واضح من اسمها "وسائل التواصل الاجتماعي"، فإنها تعزز العزلة ويوصفانها بأنها أقنعة للعزلة الرقمية، فاللوغاريتمات المسؤولة عن العلاقات تضخم من الرغبة العاطفية من خلال إيهامنا أنّ الصداقة كم، وبهذه الطريقة تردعنا عن الذهاب للبحث في الحياة الحقيقية، عن أصدقاء حقيقيين، لقد سحرتنا الشبكة وأحطنا أنفسنا بمظاهر صداقة، وأصبحنا ما يشبه أشباحا رقميين، وقد ننكفئ على أنفسنا أكثر وأكثر إذ لا حد للاتصال ولكن لا حد للعزلة أيضا.

لقد أصبح العالم فضاء مفتوحا، هذا الفضاء الذي يقدم صداقة مزيفة، إنّ هذه العزلة التي أغلقت علينا فيها البيغ داتا فضاء اجتماعي حقيقي، إنها عزلة عقيمة، إنها نسيان للذات لا يقدم لا تراجعا ولا تباعدا، إننا نضيع في نظرة الآخرين الباحثين عن شعبية مصطنعة، عوض أن ينظروا إلى أنفسهم، ويجربوا الصحو، لقد تكسرت المرايا في العالم الرقمي ولا جدوى فيه من التأمل، بالمعنى الحرفي، فهو مزعج وقد يكون مخربا، وهذه السعادة دون مثال ولا جهد ولا أمل، ودون أفق هي التي يصفها نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت".

يذكر أن كتاب "الإنسان العاري الدكتاتورية الخفية للرقمية" لمارك دوغان وكريستوف لابي جاء بترجمة سعيد بنكراد، وصدر مؤخرا عن المركز الثقافي للكتاب بيروت - الرباط.

12