نجيب محفوظ هام بالإسكندرية في حياته وأدبه

أهدت مؤخرا أم كلثوم نجيب محفوظ ابنة الأديب المصري الحاصل على جائزة نوبل في الأدب مكتبته الخاصة لمكتبة الإسكندرية الضخمة المطلة على البحر المتوسط تمهيدا لإتاحة إرث الكاتب الراحل للباحثين والدارسين والمهتمين بالشأن الأدبي. وتأتي هذه الخطوة لما للإسكندرية من مكانة في حياة وأدب محفوظ كما سنرى.
ترتبط الإسكندرية عند نجيب محفوظ بالصحة والحركة والحيوية، وهي أساس في حياته، مثلما الجمّالية (مسقط رأسه بالقاهرة) أساس، ويعلن عن حزنه عندما يغادرها في أوائل فصل الخريف، بعد أن يمضي فيها أسابيع في فصل الصيف.
يقول محفوظ: “أقسى عقوبة أن تودع الإسكندرية في مجلّى خريفها الأبيض، ونسائم الخريف المرطبة ببرودة حنونة منعشة تلاعب الستائر، وفي المساء قطعان مبعثرة من السحائب، وكنوزها التي في قاع البحر ولا يعلم أحد عنها شيئا. البحر طلسم، وإذا فككنا رموز هذا الطلسم ظهرت لنا الكنوز الموعودة، وأعلنت عن نفسها. لذا كنت أحيانا أتشبث بالبقاء في الإسكندرية، ولكن دواعي عملي وذكريات طفولتي كانت تستدعيني للعودة – مرغما – إلى القاهرة. إن الإسكندرية أساس في حياتي، مثلما الجمّالية أساس، والإسكندرية عندي مرتبطة بالحركة والصحة”.
ملجأ الصيف
في الإسكندرية كانت لمحفوظ ذكريات مع توفيق الحكيم وفيها خصَّص وقتًا للتأمل في البحر والسماء الزرقاء الصافية
عن جو الإسكندرية يقول “أنا حقيقة يعجبني جو الإسكندرية، لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة، ولكن في غضباته الموسمية، عندما تتراكم السحب، وتنعقد جبال الغيوم، ويكتسي لون الصباح المشرق بدُكنة المغيب، ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب، ثم تتهادى دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة الخطيب؛ عند ذلك يتمايل غصن، أو ينحسر ذيل، وتتتابع الدفقات، ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون، ويدوي عزيفها في الآفاق، ويجلجل الهدير، ويعلو الزبد حتى حافة الطريق، ويجعجع الرعد حاملا نشوات فائرة من عالم مجهول، وتندلع شرارة البرق، فتخطف الأبصار، وتكهرب القلوب، وينهمر المطر في هوس، فيضم الأرض والسماء في عناق ندي. عند ذلك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها، كأنما يُعاد الخلق من جديد، عند ذاك فقط يحلو الصفاء ويطيب، إذا انقشعت الظلمات، وأسفرت الإسكندرية عن وجه مغسول وخضرة يانعة، وطرقات متألقة، ونسائم نقية، وشعاع دافئ، وصحوة ناعمة”.
ويتعجب محفوظ من أنه عندما يسافر إلى الإسكندرية ينام نومًا عميقًا، لا يجده في القاهرة، ولذلك يذهب إليها بين فترة وأخرى حتى يستمتع بالنوم، وبزرقة البحر اللانهائية. ويحزن عندما يعرف أن أحد أصدقائه لا يعرف الطريق إلى الإسكندرية. ويتعجب من أن هناك أحدًا لا يذهب إلى الإسكندرية.
إن لديه خريطة داخلية للإسكندرية التي – يرى أنه – لن يستطيع أحد سرقة شهرتها على مدى الأزمان. ويبدو أنه كان يشير بذلك إلى المشروعات العشوائية ورجال الأعمال الذين يدمرون الإسكندرية ويبقرون بطنها من أجل الثراء الفاحش، مشوهين بذلك جمال الثغر وصفاء بحره.
ويعتقد محفوظ أن للإسكندرية أزمنة وشخصيات وأمكنة. وقد أحبَّ ميدان الرمل حبًّا جمًّا، فهو مسرح دائم لحاملات الأناقة والشعور الذهبية الملتفعات بمعاطف المطر. وكلما جاء ترام – إلى محطة ترام الرمل – انطلقت أسراب الحسن تبهج الخاطر وتسكر اللب وتعزف بسيقانها مختلف الألحان.
ويتذكر محفوظ أن عمره كان 9 سنوات (أي في عام 1920) حينما اصطحبه والده لقضاء إجازة الصيف في ضيافة صديقه محمد بك عمرو، وله سرايا كبيرة في سان استفانو (في حجم ميدان بيت القاضي، وفي ارتفاع القلعة، ولها حديقة مثل حديقة الحيوان). ولم يكن في الإسكندرية الكورنيش الموجود حاليا الذي شيد عام 1930. كانت حمامات السباحة في منطقتين فقط؛ سان استفانو، والأنفوشي أو الشاطبي، وكانت أمواج الأنفوشي أكثر هدوءًا من أمواج الشاطبي؛ وبالحمَّام قسمان، الأول للرجال، والآخر للسيدات، ونظرًا لصغر سنه كانوا يسمحون له بدخول حمام السيدات، وكانت نساء الطبقة الراقية يرتدين “المايوه” ويضعن قبعات على رؤوسهن.
مثلما عرف صاحب “ميرامار” الإسكندرية صيفًا عرفها أيضا في الشتاء وقد كانت تستبد أحيانا بعاشقها الكاتب
الأوقات الجميلة كان يقضيها محفوظ في الإسكندرية يقول عنها “أمضيت أوقاتًا جميلة لا أنساها في الإسكندرية، فهي فضاء الغوايات، لكني لم أتحرر منها بعد، منذ أن وقعت في غرامها بعد أن عدت إليها ثانية، عقب نجاحي في البكالوريا عام 1930، وحصولي على مكافأة من والدي قدرها عشرة جنيهات، لأقضي إجازة الصيف في الإسكندرية، فعارضتْ أمي، وأُصيب عمي بالذهول وقتها لضخامة المكافأة (حيث كان مرتب الموظف الحاصل على البكالوريا لا يزيد على ستة جنيهات)، وعاتب والدي بشدة، لأنني عندما أتوظَّف لن أحصل على مثل هذا المبلغ”.
منذ ذلك الوقت وهو يقضي الصيف في الإسكندرية، ويتغدى عند “حميدو” يوميا. ويقول: “حميدو” عندما يجد مصيفين عنده يترددون عليه يوميا، يعتبرهم زبائنه، ويقدم لنا طبقا هدية من المحل عبارة عن سمكتي بوري من الحجم الكبير”.
ويتذكر محفوظ أنه دخل يومًا مطعمًا ألمانيا فخما جدا، كان فسيحا ومن طابقين (مكانه الآن معرض عمر أفندي)، في شارع شريف (صلاح سالم حاليا) بالقرب من المنشية، فوجد أربعة جرسونات يرتدون أزياء مهيبة، جلس، فوجد واحدًا يضع أمامه الطبق، الثاني يضع الفوطة، الثالث قدم له قائمة الطعام، الرابع ….، عندما وجد هذا الاحتفاء، انتهز فرصة ابتعادهم عنه وانسحب، خرج بسرعة إلى الشارع، بعد أن عرف أن هذه “الأكلة” ستكلفه جنيها كاملا، في وقت كان يقضي فيه شهرا كاملا في الإسكندرية بعشرة جنيهات.
كان يسهر مع شلة الأصدقاء. في الصباح؛ هم يذهبون إلى البحر، يسبحون، وهو يمشي على الشاطئ، على الأقدام من شارع السلطان حسين الذي كان ينزل في بنسيون به، حتى الشاطبي، وفي اليوم التالي يبدأ من الشاطبي إلى الإبراهيمية، وفي اليوم الثالث من الإبراهيمية حتى كليوباترا، وهكذا إلى أن يذهب إلى سان استفانو.
كان يدخر جنيها كل شهر من مرتبه إلى أن يأتي الصيف فيجد بحوزته ميزانية مناسبة للسفر، وقضاء شهر في الإسكندرية، ولم يمنعه عنها سوى سنوات الحرب العالمية الثانية. وما أن انتهت الحرب عام 1945 إلا وعاد محفوظ من جديد لمحبوبته الإسكندرية، التي لم يفارقها صيفًا، حتى عندما أصابه مرض الحساسية، ونصحه الأطباء بعدم النزول إلى البحر، والابتعاد عن جو الإسكندرية المشبع بالرطوبة، والذهاب إلى منطقة صحراوية حيث الهواء الجاف، لم يعمل بالنصيحة، فكان يذهب إلى الإسكندرية وتتورم عيناه، ولا يتنازل عن شهر الصيف بها. بل ازداد تعلقًا بالإسكندرية عندما تزوَّج من إحدى بناتها.
المدينة والإبداع
رغم حب محفوظ للإسكندرية، فإن تأثيرها لم يظهر في رواياته الأولى لأسباب موضوعية، يشرحها هو فيقول: “لم يكن من المعقول أن يأتي ذكرُها في ‘الثلاثية‘ لأن أجواء الإسكندرية لا تتفق مع شخصية ‘السيد أحمد عبدالجواد‘ الحادة الصارمة المنعزلة عن أسرته، فلم يكن من المقبول أن يصحب أسرته أو أحد أبنائه وبناته إلى الإسكندرية مثلا. وكانت المرة الوحيدة التي سافر فيها عبدالجواد خارج القاهرة، كانت إلى بورسعيد، بسبب تجارته”.
ويبين أن الإسكندرية ظهرت بشكل واضح في رواية “السمان والخريف” وفي رواية “ميرامار”، وكانت في الروايتين بمثابة الملجأ والمفر من المشاكل التي يتعرض لها الأبطال، خاصة عامر وجدي في “ميرامار”. كما ظهرت في “الطريق” حيث يقول الكاتب عن صابر الرحيمي (الابن): “لم ترتح عيناه لحظة واحدة من التهام الوجوه، ولم يشعر في دوامة الاستطلاع بخطى الخريف، حتى أيقظه مطر مباغت عند لسان الكورنيش الموغل في البحر، فانسحب مسرعًا إلى الميرامار، ورفع عينيه إلى سماء أظلت جو الظهيرة بقطع من الليل.. وتساءل: ماذا بقي في الإسكندرية؟”.
وعندما رحل عنها رآها مدينة الأطياف مغروسة في حلم الخريف تحت مظلة هائلة من السحب، وهواء بارد معبق بمطلع نوفمبر اللطيف المنشط، يجوب شوارعها الأنيقة شبه الخالية. وقال للعجوز صاحب فندق “القاهرة”: أراهن على أنك تحب الإسكندرية.
في الإسكندرية كان نجيب محفوظ يتحدث الفرنسية أكثر من القاهرة، لأن المتعاملين معه في البنسيون أو في المحلات كانوا يتحدثون الفرنسية، فكان يجاريهم.
وفي الإسكندرية كانت له ذكريات مع توفيق الحكيم. وفيها خصَّص وقتًا للتأمل في البحر والسماء الزرقاء الصافية. وكثيرا ما تولَّدت الأفكار في ضوء القمر، وخاصة أثناء ليالي البحر القمرية في الإسكندرية.
ولم تكن روايات “السمان والخريف” و”ميرامار” و”الطريق” فقط هي التي استلهم فيها محفوظ الإسكندرية، ولكنه استلهم أيضا شخصية سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان لصياغة روايته “اللص والكلاب”.
ويقول في هذا: “كان من الممكن أن يأخذ كاتب ما حكاية سفاح الإسكندرية، ويجعل منها رواية مغامرات أو قضية محكمة أو رواية بوليسية ممتعة، لكن بالنسبة لي اخترتها، لأعبر عن ذاتي. الفرق بين ‘اللص والكلاب‘ وحكاية محمود أمين سليمان، هو الفرق بين الفن والواقع. وأنا أعتقد أن أي فن يفقد صلته الحقيقية بالواقع، ليس من الفن في شيء، فحتى أحلامنا الجنونية هي واقع بالنسبة لنا في حالة جنون. ولكن أحيانًا يتراجع الواقع حتى يتوارى وراء الأفق”.
في الإسكندرية التقى نجيب محفوظ المنتج رمسيس نجيب والمخرج حسام الدين مصطفى من أجل إنتاج وإخراج فيلم “السمان والخريف” فقال: “اتصل بي المنتج رمسيس نجيب وأخبرني أنه في الإسكندرية مع حسام، ويريدني أن أنضم إليهما في فندق سيسل. أبلغته أنني في القاهرة، ولم يبدأ موسمي الصيفي بعد لكي أذهب إلى الإسكندرية. قال إن هذه الأيام هي أجمل أيام الإسكندرية التي لم تزدحم بعد بالمصطافين، الربيع يتنفس فيها شبابا رائقا. وإنني لن أندم لو انضممت إليهما، حيث يوجد ما لذَّ وطاب من مأكولات ومشروبات وأحاديث، ويوجد السمَّان على مائدة العشاء الشهية، حيث السمان والربيع، وليس السمان والخريف. ولكي يقطع عليَّ أيَّ رد قال: سأرسل لك من يأخذك بسيارته ويعيدك في اليوم التالي لو أحببت، وأنه سيحجز لي غرفة في سيسل”.
على مضض وافق محفوظ، ولم يخبر أحدًا سوى زوجته عطية الله، وتوكل على الله.
دخل محفوظ حجرته المحجوزة له، وسارع إلى شرفتها ليشاهد تمثال زعيم الأمة، سعد زغلول باشا، الذي أبدعه المثّال الفنان محمود مختار. فقام بتحية الزعيم الذي لم يره في حياته رأي العين، رغم حبه الجارف له، فاكتفى برؤية وتحية تمثاليه في الإسكندرية والقاهرة.
ها هو البحر يترامى أمام عيني محفوظ في عظمة كونيَّة حتى يغوص في الأفق، ويستمد من أبريل حكمة ودماثة، ويتسع المجال للتفكير.
على مائدة العشاء اجتمع الثلاثي رمسيس نجيب وحسام الدين مصطفى ونجيب محفوظ، واختار جلسته على المائدة بما يسمح له أن يرى سعد زغلول والحديقة التي يتوسطها التمثال.
أثناء مناقشة الوضع المتأزم الذي يمر به عيسى الدباغ (بطل الرواية) بعد أن حوكم من رجال الثورة، وقاموا بفصله من العمل بعد إعادة الهدايا التي كان يتلقَّاها في مكتبه أو خارجه، غادر القاهرة ليعيش في الإسكندرية لعله يجد في جوار البحر هواءً منعشًا يجدد له حياته الخانقة. نظر إلى السماء المتوارية وراء ظلمات السحب. وقال: إن الخريف في الإسكندرية روحٌ من أرواحِ الجنة، وهو مغسلٌ لجميع الأحزان.
وفي هذه الجلسة يخيل لنجيب محفوظ أنه يرى عيسى الدباغ بشحمه ولحمه يجلس منفردًا في هذا الليل تحت تمثال الزعيم. أغلب الأرائك خالية، والهواء البارد في غير قسوة يتجوَّل في الرحبة الفسيحة لاعبًا بالنخيل، والنجوم تومض في القبة الهائلة، والليل راسخٌ كالأبدية، لم يكن عيسى قد نجا بعد من ذكريات الشباب الناشبة في مخيلته، ولكنه صمَّم على أن يرسم للمستقبل خطة. ولم يكد يستغرق في أحلامه حتى شعر بشخص يجلس إلى جانبه.
ويسترسل محفوظ في خياله ويتساءل: لكن مَن هذا الشخص، إنه غير الشخص الذي تحدث عنه في الرواية. هل يستأذن من المنتج والمخرج ويقترب من الدباغ والشخص الذي معه ليرى الموقف بوضوح قبل أن ينتصف الليل؟ تعلَّل أنه ذاهب لشراء علبة سجائر من محل الخردوات الذي بجوار الفندق. فقال رمسيس نجيب فلندع أحد شباب الفندق يحضرها لك. وعزم عليه حسام الدين مصطفى بسيجارة “كِنْت” من علبته، ولكنهما لاحظا إصراره على الخروج في تلك اللحظة، فتركاه وشأنه، قال لهما: لن أغيب.
تسلَّل محفوظ إلى الحديقة ووقف في مكان لا يراه الدبَّاغ ومن معه، فإذا به يرى أن الذي يتحدث مع عيسى الدباغ هو الرسام محمود سعيد، وليس الشاب الموجود في الرواية، فأخذه العجب.
في الإسكندرية كان محفوظ يجلس في حديقة فندق سان استفانو أو في الكازينو التابع له يوميا، مرة وحده ومرات مع الأصدقاء، من أدباء الإسكندرية أمثال الدكتور يوسف عزالدين عيسى ومحمد الجمل وسعيد سالم ومحمود حنفي ومحمود عوض عبدالعال وعبدالمنعم الأنصاري وفوزي خضر ونعيم تكلا، وعبدالله الوكيل، وغيرهم ممن يأتون من القاهرة، وينضمون إليهم في “القعدة”.
الإسكندرية كانت تستبد أحيانا بعاشقها نجيب محفوظ، وتتسلط عليه فيقول: “لقد تسلطت الإسكندرية على نفسي في وقت من الأوقات، فكان لا بد من أن أتحرر منها بالكتابة عنها وفك الأسر”
وقد تنقل هذا الجمع في أكثر من مكان مثل كازينو بترو، وكازينو الشانزليزيه. لكن بعد وفاة توفيق الحكيم في 26 يوليو عام 1987 عادوا مرة أخرى إلى كازينو سان استفانو قبل التغيير الكبير للفندق لصالح إحدى الشركات الكبرى.
يتذكر نجيب محفوظ جلسته الصباحية في “بترو” في صحبة الأستاذ توفيق الحكيم ويصفها بأنها كانت نزهة روحية في النزهة السنوية بالإسكندرية. وقبل هذا اللقاء التقى محفوظ الحكيم في القاهرة، وسأله الحكيم عما إذا كان يسافر إلى الإسكندرية لقضاء الصيف ومتى؟ فأبلغه أنه يسافر في شهر سبتمبر بانتظام، طلب منه مقابلته في مقهى بسيدي بشر. انتظر محفوظ حتى سبتمبر 1948 كي يلتقي الحكيم في الإسكندرية. في طريقه له في المقهى الذي حدَّده، اكتشف محفوظ مقهى آخر أجمل وأنسب، اسمه “بترو”، كان أقرب إلى البيت الذي يسكن فيه توفيق الحكيم، فعرض عليه أن ينتقلوا إليه، وينشئ ركنًا باسم “ركن الحكيم” فوافق.
أما في كازينو جليم فقد كان يقضي حوالي ساعتين (من السادسة حتى الثامنة مساء) بلا جمهور أو ندوات، حيث كان الوقت مخصصًّا للتأمل والاستغراق في الذات وقت نزول الشمس في بحر الإسكندرية. كانت جلسة هادئة وديعة، لا يحيد نظره عن تموجات سطح البحر الذي انتشرت عليه الرغاوي كأفواه ضاحكة. ها هو البحر يترامى في عظمة كونية حتى يغوص في الأفق، حيث يستمع إلى سيمفونية الكون الساحرة، يتأمل محفوظ بقايا غيوم تلوَّنت ما بين الأحمر القاني والأصفر الذهبي، واشتبكتْ مع بقايا الضوء الواهن. وقال: “أعجب كيف لا يخرج سكان الإسكندرية كلهم ليروا تلك اللحظة الخالدة المتجددة. عندما تخيلت المنظر أذهلني هذا العدد من البشر وهم يتزاحمون على الكورنيش وقت الغروب. حمدت الله أني وحدي هنا في معظم الأيام. كم أنا مبتهج بوحدتي، مع أني أحب العيش وسط البشر”.
من المقاهي الأخرى في الإسكندرية التي كان يرتادها محفوظ قهوة ديانا وقهوة اللوفر التي كانت تقدم أفضل قهوة في الإسكندرية. يقول: كنا نذهب إليها ونجلس فيها حتى الساعة العاشرة مساء لنشاهد كل يوم سيارة النحاس باشا التي كانت تمر على الكورنيش، وهو جالس في مؤخرتها ليشم الهواء المنعش المحمَّل برائحة البحر، فلم يكن يستطيع الخروج من بيته أثناء النهار، وكانت السيارة تتهادي به فوق أرض الشوارع السنجابية حتى الميناء الشرقي ثم تعود به ثانية.
كان محفوظ – أثناء وجوده في الإسكندرية – يرتاد قاعات السينما، وكانت هناك سينما اسمها “ماجستيك” تفصل بين المصريين والأجانب، وكان الأجانب كثيرين في الإسكندرية، وينظرون إلى المصريين كشعوب منحطَّة حيث كانت توضع يافطة – قبل إلغاء الامتيازات – تقول هذا المكان لأهل البلد، وبقية المكان للخواجات. ورأى محفوظ في هذا احتقارا لنا.
إسكندرية الشتاء
الإسكندرية كانت تستبد أحيانا بعاشقها نجيب محفوظ، وتتسلط عليه فيقول: “لقد تسلطت الإسكندرية على نفسي في وقت من الأوقات، فكان لا بد من أن أتحرر منها بالكتابة عنها وفك الأسر”. فكان وهو في القاهرة يشتاقها. وقال على لسان عامر وجدي في “ميرامار”: “الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع”.
ومثلما عرف صاحب “ميرامار” الإسكندرية صيفًا، عرفها شتاءً. وقال عنها في “الطريق”: “إني لأعرفك يا إسكندرية الشتاء. تُخلين ميادينك وشوارعك مع المغيب فيمرح فيها الهواء والمطر والوحشة، وتعمر حجراتك بالمناجاة والسمر. الإسكندرية ليس كمثلها شيء”.
كما قال: “ما أجمل الإسكندرية في الشتاء حين تبدأ النوة، ويُغلق البوغاز وتتطاير أمواج الغضب من البحر الصارخ فتجتاح الكورنيش، وتكفهر السحب كقطع الليل، ويشتد البرق كالصواريخ، وتنهمر الأمطار ككائنات هاربة من غضب السماء. إسكندرية الشتاء متقلبة دائما كامرأة جميلة”.
كندرية أو عائد منها، فقد تلقى خبر وفاة الرئيس جمال عبدالناصر فور عودته من مصيفه بالإسكندرية يوم 28 سبتمبر، وتلقى خير مقتل الرئيس السادات يوم 6 أكتوبر 1981 وهو في طريقه مع ابنته إلى دار سينما مترو بالإسكندرية، وتلقى خبر انفصال الوحدة بين مصر وسوريا، وهو في صالون حلاقة بالإسكندرية، حيث سمع نبأ الانفصال في الراديو، فشعر بهزة في أعماقه وتشاؤمٍ عارم، وكأن صعيد مصر هو الذي انفصل عنَّا وليست سوريا. واستمع في الراديو وهو عائد من الإسكندرية إلى وصف جنازة أم كلثوم في فبراير 1975. قال: “ونحن عائدون من الإسكندرية مع العائلة بالتاكسي فتح السائق الراديو، وهم يصفون جنازة أم كلثوم، فبكى وبكينا كلنا”.
وكان في الإسكندرية وقت أن صدر قرار الرئيس جمال عبدالناصر عام 1962 بتعيينه رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة السينما (التي أصبح اسمها المؤسسة المصرية العامة للسينما) فاستدعاه وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة في ذلك الوقت ليتولى المنصب الذي رشحه له.
ومثلما امتلك أمير الشعراء أحمد شوقي بيتًا صغيرًا في الإسكندرية في منطقة الإبراهيمية أطلق عليه “درَّة الغوَّاص”، استطاع أمير الرواية نجيب محفوظ أن يستأجر شقة صغيرة في سان استفانو لها حكايتها، فقد كان معتادًا على استئجار شقة في الإسكندرية خلال شهر سبتمبر من كل عام ليمضي فترة الصيف مع أسرته، وكان إيجارها في المتوسط 25 جنيها شهريا، وذات يوم وهو في مكتبه بمؤسسة السينما عام 1969، وصله خطاب من أحد الأصدقاء – في شهر مايو – يخبره بضرورة حضوره إلى الإسكندرية لمعاينة شقة جديدة في سان استفانو، لكي يستأجرها – بصفة دائمة – إذا أعجبته.
خرج محفوظ من مكتبه إلى الإسكندرية ظهر الخميس مباشرة، وقابل صديقه، وكان له بيت مكون من طابقين. وقرر الاكتفاء بالطابق الأول له ولأسرته، وتأجير الطابق الثاني لإحدى الأسر طول العام، بدلا من شهور الصيف فقط، خاصة أن الرجل كان متدينًا، وعنده بنات، فخشى من تأجيرها للطلبة أو لأحد العزَّاب، وطلب منه 80 جنيها في السنة كلها، كإيجار للشقة بما فيها نفقات المياه والكهرباء وأجرة البواب، فأعجبته، ووجدها فرصة جيدة، وكتب عقد الإيجار في صباح اليوم التالي. كانت الشقة مكونة من حجرتين صغيرتين ومطبخ وصالة ومرافق وبلكونة ترى البحر، وتطل على حديقة وقصر قديم. وقد أعادها محفوظ إلى صاحبها بعد أن تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة مساء الجمعة 14 أكتوبر 1994 وأدرك إثرها أنه لن يستطيع الذهاب إلى الإسكندرية بعد ذلك، وكأن الطعنة لم تُصب صاحب “أولاد حارتنا” فحسب، ولكنها أصابت الإسكندرية أيضا التي حُرمت من عشيقها نجيب محفوظ.