تونس: السلطة واتحاد الشغل وما بينهما

اتحاد الشغل حريّ به اليوم أن يعيد ترتيب أوراقه من جديد إذا كان جادا فعلا في أن يكون شريكا في البناء على قواعد وأسس الجمهورية الجديدة التي يريد الرئيس سعيد إرساءها.
السبت 2024/03/02
"الاتحاد معندوش مناش يخاف "

رسائل الاتحاد العام التونسي للشغل لا تقرأها السلطة. رسائل المنظمة الشغيلة في كل الاتجاهات، لكن صوتها خافت على عكس ما جرت عليه العادة. بيانات مقتضبة، عناوين عريضة على الصفحة الرئيسية لصحيفة “الشعب” لسان حال المنظمة النقابية. فيما تتوارى قيادات الصف الأول عن الأنظار منذ مدة. ماذا يحدث داخل كواليس الاتحاد؟ لماذا تراجعت نبرة بعض القياديين وشراستهم في الفترة الأخيرة خصوصا بعد حملة التوقيفات والمحاسبات التي طالت رؤوسا كبيرة ومست المنظمة النقابية؟ 

الاتحاد العام التونسي للشغل يمر بوضع استثنائي، هذا معلوم ولا شك فيه. أكبر منظمة نقابية في تونس تعيش اليوم حالة قطيعة تامة مع السلطة، وهي التي يرى مناصروها أنها لعبت دورا أساسيا في كل المحطات التي عاشتها تونس في السنوات الأخيرة. فقد مثل الاتحاد رقما صعبا لكل الحكومات المتعاقبة، حتى أنه لا يمكن تشكيل حكومة جديدة من دون موافقته. لكن الوضع الآن تغيّر مع الرئيس قيس سعيد، على الرغم من كل الترحيب الذي تظاهر به قادته وأولهم أمينه العام نورالدين الطبوبي الذي بارك التغيير الذي حصل في تونس بعد 25 يوليو 2021 ثم عارضه بالتوازي مع حملة التوقيفات التي طالت بعض رموز الأحزاب وقياديين في حركة النهضة في قضية ما يعرف بالتآمر على أمن الدولة ليستقر على موقف رمادي غير مفهوم.

الاتحاد يريد أن يظهر بمظهر قوة من جديد، ويريد أن يرسل إلى السلطة إشارات مفادها أن المنظمة النقابية مازالت حاضرة في المشهد السياسي وتقوم بدورها

“الاتحاد معندوش مناش يخاف” (الاتحاد لا شيء يخيفه) هذا ما نطق به الطبوبي ذات يوم بعد الحملة التي دعت إلى أنه لا أحد فوق القانون وطالبت بمحاسبة كل من يثبت تورطه في قضايا فساد، بمن في ذلك منتسبو المنظمة الشغيلة. لكن الواقع يوحي بغير ذلك؛ الاتحاد بات من الماضي وفق ما يقر به مناصرون للرئيس قيس سعيد. حاول الطبوبي أن يحافظ على رباطة جأشه وينتصر للعنفوان الذي تظاهر به وفرضه على جميع الحكومات التي قادت البلاد والإقرار بأن الاتحاد موجود ويقوم بدوره على أكمل وجه. لكن تلك النبرة خفت بريقها الآن بعد ضربة “المعلم” التي وجهها الرئيس سعيد إلى كل من حاول أو يفكّر في ضرب وتعطيل المسار السياسي للبلاد.

تفاقمت الأزمة ووصلت إلى ذروتها مع فتح ملفات الفساد ضد بعض النقابيين وسط خفوت لصوت قيادات الاتحاد التي يرى البعض أنها في موقف ضعف لم تعرفه منذ أحداث ثورة يناير 2011. موقف السلطة من المنظمة برز أيضا في كلمة للرئيس سعيد قبل أشهر أكد فيها بلا مواربة أن “الحق النقابي مضمون، لكن لا يمكن أن يتحول إلى غطاء لمآرب سياسية” ودعا إلى “ضرورة اتخاذ إجراءات ضد من يتآمرون على الأمن القومي أو ضد الشركات العامة”.

لكن يبدو أن المنظمة الشغيلة، التي تؤكد بعض المصادر أنها تعيش حالة انقسام داخلي بين شق يظهر انسجاما مع رؤية الرئيس سعيد وتوجهاته الإصلاحية فيما يميل الشق الثاني إلى الاستماتة في الدفاع عن رؤيته وهي رؤية متماهية مع الماكينة القديمة، لم تستوعب الدرس جيدا ومازالت تطمح إلى البحث عن تموقعها بعد كل القرارات والمراجعات التي قام بها الرئيس سعيد بخصوص النقابات والعمل النقابي.

الاتحاد الذي دعا إلى وقفة احتجاجية لأعضائه بساحة القصبة يوم السبت 2 مارس مثلما عنونته الصفحة الأولى لجريدة “الشعب”، “دفاعا عن الحوار الاجتماعي وتنديدا بضرب الحق النقابي”، يريد أن يظهر بمظهر قوة من جديد، ويريد أن يرسل إلى السلطة إشارات مفادها أن المنظمة النقابية مازالت حاضرة في المشهد السياسي وتقوم بدورها.

يبدو أن المنظمة الشغيلة لم تستوعب الدرس جيدا ومازالت تطمح إلى البحث عن تموقعها بعد كل القرارات والمراجعات التي قام بها الرئيس سعيد بخصوص النقابات والعمل النقابي

يحاول الاتحاد فرض الطاعة على الدولة من باب الزيادة في الأجور وهو يدرك الوضعية التي تمر بها تونس، ويعلم أيضا أن باب الحوار الذي يدعو إليه لا يمكن طرقه في هذه الظرفية بالذات. وضعية العمال وآليات التشغيل، ومطلبية الأجور التي كلّما علا صوت المنظمة النقابية إلا وكانت حاضرة في ديباجته، كلها مطالب لا يمكن للسلطة أن تغفل عنها. لا بل إن الرئيس سعيد سارع إلى التأكيد على أن هذا الملف الحيوي من ضمن أولوياته لقطع الطريق على كل المزايدات بشأنه. وشدد الرئيس سعيد مؤخرا على ضرورة وضع حدّ لما يسمى بالمناولة والتي اعتبرها “نوعا من أنواع الاتجار بالبشر”، مؤكدا أن “العمل حق لكل مواطن ومواطنة، وعلى الدولة أن تتخذ التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف”.

كما دعا الرئيس سعيد بحسب بيان أوردته رئاسة الجمهورية إلى “ضرورة وضع حدّ للعقود المحدودة في الزمن لأن العامل له الحق في الاستقرار ومن حقّه الطبيعي أن تكون الآفاق أمامه واضحة. فكما من حقّ صاحب العمل أن يكون مستقرا آمنا من حق العمال أيضا الأمن والاستقرار والجراية العادلة”.

ما بين اتحاد الشغل والسلطة بات واضحا اليوم دور الدولة وكيفية اشتغالها. إما أن نكون في مستوى الإرادة والعزيمة لنعيد تونس إلى ما كانت عليه وإما أن يكون القانون هو الفيصل على الجميع. يتحرك الرئيس سعيد في كل الاتجاهات، في زيارات معلنة وأخرى غير معلنة من أجل تحقيق هذا الهدف؛ من الثقافة إلى الرياضة إلى الصحة إلى التعليم والنقل إلى المعالم الدينية بحثا عن تشخيص الخلل في كل منشأة يرى أنها جديرة بإعادة الروح إليها. في المقابل لا يزال الاتحاد يشتغل وفق مقاربة قديمة لم تجدد أفكارها لتكون متسقة مع الواقع الجديد والمرحلة الدقيقة التي تعيشها تونس.

هذا الهامش بين السلطة واتحاد الشغل آن الأوان لكي يزول. حريّ بالمنظمة الشغيلة اليوم أن تعيد ترتيب أوراقها من جديد إذا كانت جادة فعلا في أن تكون شريكا في البناء على قواعد وأسس الجمهورية الجديدة التي يريد الرئيس سعيد إرساءها.

9