دعاة تقليص الحضور العسكري الأميركي في الشرق الأوسط يطلقون بالونات اختبار بشأن سحب القوات الأميركية من العراق

مآل وجود القوات الأميركية على الأراضي العراقية والذي دفعت به إلى الواجهة مجدّدا الأحداث المرتبطة بالحرب في غزّة لا يمثّل موضع إجماع في الساحة الأميركية التي لا تخلو من تيار يرى ضرورة سحب تلك القوات باعتبارها عبئا على صانع القرار وعائقا أمام البحث عن طرق أخرى لبسط النفوذ أكثر أمانا وأقلّ تكلفة.
بغداد- تمثّل مواقف تصدرها دوائر سياسية أميركية بشأن موضوع تواجد القوّات الأميركية في العراق بالونات اختبار تهدف إلى جسّ نبض إدارة الرئيس جو بايدن والتعرّف على مخطّطها للتعاطي مع هذا الموضوع وثيق الصلة بنفوذ الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط.
ولا تخلو تلك المواقف من محاولة تأثير على مسار الحوار العراقي – الأميركي الذي أعلن عن انطلاقه مؤخّرا لبحث موضوع تواجد قوات التحالف الدولي، ومن ضمنها القوات الأميركية، ضد تنظيم داعش على الأراضي العراقية.
وبينما تطلق إدارة بايدن إشارات بشأن التشبّث بالحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في العراق بهدف عدم إخلاء الساحة أمام إيران لبسط هيمنتها بشكل كامل على البلد، ترى دوائر أميركية أنّ لواشنطن خيارات أخرى للحفاظ على نفوذها ومقارعة النفوذ الإيراني في العراق، لا تشمل بالضرورة الحفاظ على وجود عسكري مباشر في مناطقه الواقعة في مرمى نيران الميليشيات الشيعية التي كانت قد شرعت بعد انطلاق الحرب بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي في استهداف مواقع تمركز القوات الأميركية في سوريا والعراق.
ويحكُم أصحابَ هذا المنظور هاجس الحفاظ على أرواح الجنود الأميركيين إلى جانب تقليص الإنفاق بالتحكّم في مدى انتشار القوات الأميركية في المنطقة والعالم.
وعبّر عن هذا التوجّه مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر في مقال له بمجلة فورين بوليسي حمل عنوان “مغادرة العراق قد تكون خيار واشنطن الأكثر حكمة”.
ومن ضمن الخيارات التي يطرحها شينكر في مقاله اتخاذ إقليم كردستان العراق الذي يتمتّع بحكم ذاتي ضمن دولة العراق الاتّحادية، مركزا أساسيا لنفوذ الولايات المتّحدة ومقرّا بديلا للقوات الأميركية التي قد يتمّ سحبها من باقي المناطق العراقية لتكون في مأمن من ضربات الميليشيات العراقية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
وقلّصت الولايات المتّحدة عدد قواتها المتواجدة في العراق إلى 2500 فرد مهمتهم المعلنة تقديم المشورة ومساعدة القوات العراقية على مواجهة فلول تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر في عام 2014 على مناطق شاسعة من البلاد.
وتتوزّع تلك القوات على عدد من القواعد أهمها قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار غربي العراق، بالإضافة إلى قاعدة حرير قرب مطار أربيل في إقليم كردستان.
وبدا أنّ سيناريو التعويل الأميركي على التحالف بين واشنطن وسلطات إقليم كردستان العراق في ظلّ ما أظهرته حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من رغبة في إنهاء التواجد العسكري الأميركي في العراق، واقعيا بل في طور التنفيذ وذلك من خلال توجيه إدارة بايدن دعوة لرئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني لزيارتها.
ومثّلت الزيارة التي بدأها بارزاني الأحد لواشنطن عودة أميركية للاهتمام بالإقليم بعد فترة من الإهمال النسبي له وتركه عرضة لضغوط شديدة سياسية واقتصادية ومالية وأمنية سلّطها عليه حلفاء إيران المتحكّمون في زمام السلطة في العراق.
كما لم تخل الزيارة بحسب مراقبين من ضغط سياسي على السلطات الاتحادية العراقية من خلال التلويح باتخاذ إقليم كردستان حليفا بديلا عنها، ما يعني خسارتها لميزات ومنافع كثيرة يوفرها لها تعاونها مع واشنطن لاسيما على صعيد اقتصادي ومالي.
ويقول المراقبون إنّ تمادي إدارة بايدن في إهمال إقليم كردستان العراق كان سيقود إلى استسلام آخر جيب في العراق لا يزال يبدي ممانعة للنفوذ الإيراني.
وعلى هذه الخلفية اعتُبرت زيارة بارزاني لواشنطن بالغة الأهمية في توقيتها ومحتواها، حيث لم يخل ما صدر من مواقف أميركية على هامشها من تعبير عن اهتمام الولايات المتّحدة بدعم الإقليم وحمايته من ضغوط إيران وحلفائها.
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إثر لقائه رئيس وزراء الإقليم إنّ “الولايات المتحدة لا تزال تدعم إقليم كردستان الصامد باعتباره حجر الزاوية في علاقتنا مع العراق”، واصفا حكومة الإقليم بأنّها تمثّل “عاملا للاستقرار في المنطقة ولها أهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية التي ترى أنّ من المهم أن يكون إقليم كردستان ناجحا وأن يكون الأكراد متحدين وعلى وفاق”.
كما عبّر عضو مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور ليندسي غراهام بوضوح عن فكرة حماية الولايات المتّحدة للإقليم من الضغوط قائلا خلال لقائه بارزاني إنّه يدعم وجود كردستان قوي ويدافع عن حماية أمن الإقليم واستقراره وضمان حقوقه وتأمين مستحقاته المالية وحصته من الموازنة العراقية واستئناف تصدير نفطه واحترام كيانه الدستوري.
وكذلك شدّد السيناتور كريس فان هولن على أهمية الحفاظ على علاقة قوية بين حكومة الولايات المتحدة وحكومة إقليم كردستان العراق وتطويرها.
ويتوقّع مراقبون أن لا يكون تمادي حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني المرتبطة بشكل وثيق بأحزاب وفصائل شيعية مقرّبة من إيران ومنحازة إليها في صراع النفوذ الذي تخوضه ضدّ الولايات المتّحدة، في مسار إخراج القوات الأميركية من العراق من دون تأثير على علاقة تلك الحكومة بالإدارة الأميركية، على اعتبار أن مغادرة تلك القوات ستمثّل انتقاصا من النفوذ الأميركي في البلد وإخلاء للساحة أمام إيران.
ويمكن للولايات المتّحدة أن تجد في إقليم كردستان الذي يتمتّع بحكم ذاتي وقفت الولايات المتّحدة وراء إنشائه، ساحة مناسبة للحفاظ على نفوذها في العراق.
ودفع شينكر في مقاله بسيناريو سحب معظم القوات الأميركية من العراق ونقلها إلى إقليم كردستان معتبرا أن ذلك لا يتعارض مع وجود نفوذ أكبر لواشنطن في بغداد من دون الحاجة إلى وجود قوات عسكرية.
ولم تتوان الولايات المتّحدة في الردّ على استهداف الميليشيات الشيعية لمواقع تواجد قواتها في سوريا والعراق، وقامت بردّ قوي إثر سقوط ثلاثة من جنودها في هجوم شنته تلك الميليشيات على قاعدة لها على الحدود السورية – الأردنية، وأوقعت ضربات نفذها طيرانها الحربي قتلى وجرحى في صفوف الميليشيات.
ومع ذلك لم يسلم الدخول في نزاع مسلّح ضدّ الفصائل التابعة لإيران من نقد على اعتبار أنّ ذلك خروج كبير عن تكتيك ضبط النفس الذي تحاول وزارة الدفاع الأميركية الالتزام به كعامل مرافق لانتشار قواتها على نطاق واسع عبر العالم لتجنب الدخول في صراعات وخسارة أرواح جنود ومعدّات تقدر قيمتها بملايين الدولارات.
واعتبر شينكر أنّ بعد مرور عشرين عاما على غزو العراق حان الوقت لإدارة بايدن كي تبدأ بالتفكير في أفضل السبل لتقليص البصمة العسكرية الأميركية في البلد. فالولايات المتحدة في رأيه لا تستغل وجودها هناك لصد توسع النفوذ الإيراني في بغداد أو لقطع خط الاتصال بين طهران وميليشيا حزب الله الوكيلة لها في لبنان.
وبينما تعمل القوات الأميركية في كردستان العراق كحلقة أساسية في الدعم اللوجستي للقوات المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، فقد لا يُعد هذا الوجود في رأي شينكر ضروريا أيضا إذا سحبت واشنطن وحدتها العسكرية الصغيرة من سوريا. وحتى لو بقيت القوات الأميركية على الأرض السورية فقد تتمكن واشنطن من الإبقاء على وجود صغير لها في المنطقة الكردية في العراق لدعم مهمة مكافحة الإرهاب. وخارج إطار الوحدة العسكرية في كردستان تتراجع أكثر فأكثر فوائد استمرار الانتشار العسكري الأميركي في العراق.
ولا يريد دعاة تقليص الحضور العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، والعراق وسوريا تحديدا استعادة سيناريو الانسحاب المتسرع والفوضوي على غرار ما حدث في أفغانستان بما من شأنه أن يضر بمصداقية الولايات المتحدة، لكنّهم يحذّرون في المقابل من أن رحيل القوات تحت النيران من شأنه أن يعزز التصور الإقليمي الضار الذي مفاده أن الولايات المتحدة تنسحب عسكريا في ظل التحول نحو آسيا.
تمادي إدارة بايدن في إهمال كردستان يقود إلى استسلام آخر جيب في العراق لا يزال يبدي ممانعة للنفوذ الإيراني
والأسوأ من ذلك، بحسب شينكر، أن السفارة الأميركية الضخمة في بغداد ستكون أكثر عرضة للهجوم في غياب القوات الأميركية في الجوار وهو مصدر قلق حقيقي للغاية بالنظر إلى ميل الحكومة العراقية إلى تجاهل التزامها بموجب اتفاقية جنيف بالدفاع عن المنشآت الدبلوماسية. لكن عملية التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق اكتملت إلى حد كبير، والوجود المستمر للقوات الأميركية لا يساهم في منع التقدم الذي تحرزه إيران نحو فرض هيمنتها على العراق. وفي الوقت نفسه تُقَدَّم القوات الأميركية المتواجدة هناك كرهائن لإيران والميليشيات المحلية العميلة لها يمكنها مهاجمتهم عن قرب بشكل أكثر دقة.
ومن الممكن أن يساعد وجود بصمة أخف وموحدة في الحد من هذا التهديد مع الحفاظ على قدرات كافية إذا اختار الجيش العراقي مواصلة المشاركة العسكرية الثنائية والتي تشمل التدريبات الروتينية المشتركة.
ومن المفارقات، يقول الدبلوماسي الأميركي السابق إن نقل غالبية القوات الأميركية بعيدا عن الخطر في العراق قد يحسّن وضع واشنطن في نظر الحكومة العراقية الخاضعة للهيمنة الإيرانية خاصة إذا بقيت القوات في كردستان، حيث لا تزال الولايات المتحدة موضع ترحيب. وعندما تتحرر واشنطن من المخاوف المتعلقة بحماية قواتها، ستتمتع بمجال أكبر للتواصل مع العراق بشأن علاقته مع إيران وخرق العقوبات والفساد المستشري.
أما عن البدائل التي تمتلكها واشنطن في حال تخلت عن خيار التعويل على القوة العسكرية، فيرى شينكر أنّه سيتعين على واشنطن الاعتماد على أدوات أخرى خاصة النفوذ الاقتصادي إذا ما أرادت دعم مصالحها في العراق في المرحلة القادمة.