خرج - والمفروض - يعد.. عن هجرة المصريين للخليج

العلاقة المرتبكة بين المكان والآخر وملاحظة العابرين لتغير منطقة الخليج العربي.
الثلاثاء 2024/02/27
هكذا رأى الأبناء غربة آبائهم

كيف ينظر المهاجر المصري إلى دول الخليج؟ وما هي العلاقة التي ينشئها مع المكان؟ وكيف يؤثر فيه ويتأثر به؟ هذه الأسئلة وأكثر يحاول معرض “خرج – والمفروض – يعد.. عن هجرة المصريين للخليج” الإجابة عنها، من منظور أبناء المهاجرين ونظرتهم التأملية لتجربة الآباء في الغربة.

إلى أي مدى قد يكون المكان البعيد لدى المهاجر، أكثر رسوخا في تعريفه، من الطريقة التي يحاول من خلالها سكان المكان تعريفه والتماهي معه؟ هذا كان السؤال الجوهري الذي بقي يدور ببالي طويلا وأنا أتجول بين الأعمال التفاعلية التي عرضها معرض “خرج – والمفروض – يعد.. عن هجرة المصريين للخليج” الذي جاء أخيرا بنسخته الثانية إلى إمارة أبوظبي بجامعة نيويورك أبوظبي في الفترة بين نهاية يناير حتى السابع من فبراير الجاري، حيث تتركز فكرة المعرض على استعراض العلاقة المرتبكة بين المكان والآخر لمجموعة من الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين المصريين الذين نشؤوا في الخليج قبل أن يعودوا إلى مصر، مستشعرا العلامة الفارقة سلبا أو إيجابا التي يحتمل الخليج أنه قد وصمهم بها.

كنت قد اطلعت على تفاصيل المعرض قبل سنة، وأذكر أنني أثناء القراءة انتبهت لفكرة كون العابر أكثر قدرة على وصف المكان الخليجي سريع التغير خصوصا في الفترة التي أعقبت سنوات الطفرة الحضرية، العابر وهو المفهوم الذي لطالما وصم المهاجرون به أنفسهم على الرغم من السنوات الطويلة وتعاقب الأجيال في المكان، كون الاعتراف ولو حتى الضمني بفكرة الاستقرار في المكان يعني انتفاء شرط العودة المأمولة إلى الوطن البعيد.

بوكس

هذا بالإضافة إلى فكرة التوازي المربكة مع الآخر، فنحن نكاد نكون عبارة عن “غيتوات” منعزلة في مدن اليوم الحديثة، تعيش كل جماعة وفق تصورات مفترضة عن الجماعة الأخرى في ذات المكان دون أن يحدث احتكاك حقيقي في مجال الأفكار والرؤى والتصورات والآمال. ولعل هذا المعرض الفريد في فكرته، هو مساحة احتكاك مثيرة للتأمل، قد تقربُ عالما من آخر، وتساهم في فهمنا لهذا المكان. مكاننا الخليجي الذي نظن.

من الأعمال اللافتة في هذا المعرض عمل “الشيالة” لآية بنداري وهو العمل الذي يعرض حقيبة سفر من الحجم المتوسط تخرج منها حبال ممتدة إلى السقف وتحمل هذه الحبال الرفيعة مجموعة من اللافتات الورقية الصغيرة التي تحمل كلمات مثل (الكفيل، عمرة، حرام، عيب) وغيرها، تشير تلك الكلمات/ الأوصاف/ المفاهيم إلى الفترة التي عاشت فيها والدة آية في المملكة العربية السعودية في الفترة الممتدة بين الثمانينات وصولا إلى بدايات الألفية، يكون من المربك بداية كون تلك المفاهيم مجتمعة قد ساهمت على امتداد عقود في تشكيل الصورة النمطية عن السعودية، وتلتبس بدورها في غياب المرأة أيا كانت جنسيتها هنا عن الفضاء العام، وباستثناء مفردة الكفيل المربوطة بنظام الإقامة الطويلة في الخليج والتي شكلت أكثر عنصر من عناصر عدم الاستقرار ربما، كانت الكلمات الأخرى مرتبطة بأي امرأة.. قد تكون عاشت تلك المرحلة في المملكة، الأمر الذي جعلني أتأمل في فكرة ملحة أخرى، فما الذي أبقى حاجزا عازلا بين سيدة خليجية وأخرى مصرية أو سورية أو فلسطينية أو سودانية، وكيف لم يحدث أن التقت تلك السيدات في فضاءاتهن الخاصة القسرية، ليقربن وجهات النظر، لماذا تضاعف عنصر الوحدة، وحدة الهجرة وعزلة الغياب عن الفضاء العام، وهل يختلف شكل الهجرة اليوم في شكل المملكة الجديد عن الفترة السابقة؟

في الكتاب تذكر بنداري أن هذا العمل شكل تعبيرها الوحيد عن الفترة التي عاشتها في الخليج مع أسرتها، وفي ظل مراقبتها الحثيثة لأمها، شكلت هذه الحقيبة بتشكيلها الضمني الذي أشار إلى وضع المرأة المهاجرة ربة الأسرة، إنها فترة ملتبسة على آية، كان الهروب منها هو الحل للعودة إلى تعريف جديد لهويتها العائدة والحاضرة بشكل صاخب في الفضاء العام المصري، وفي الكتاب أيضا هناك اقتباس من كتاب الكاتبة المصرية فاطمة قنديل “أقفاص فارغة” الذي أشارت فيه إلى فترة عيشها في الخليج بالفترة الملغية من الذاكرة، وهو الأمر الذي يعيدني إلى عجز بنداري عن التعبير عن تلك المرحلة في كون أن كيانات السيدات الملغية من الحضور في الفضاءات العامة، قد تسربت إلى الذاكرة بدورها.

كومة صغيرة من الصناديق الورقية المكدسة، بجوار كرسي صالون مصري الطراز كتلك التي شاهدناها مرارا في تمثيليات الثمانينات من القرن الماضي، يغطيه شرشف أبيض في دلالة على المهجور من المكان، هذه كانت المعالم الرئيسية التي قدمها عمل لينة شامي التي تشير إلى الرابط الجوهري بين الهجرة والاستهلاك، وسد علاقة الغياب القسري عن المكان، بأشياء، الكثير من الأشياء التي أتت على هيئة أجهزة كهربائية وقطع أثاث وملابس وغيرها، تتكدس في انتظار العودة المأمولة لأصحابها والتي ما إن تحدث بعد سنوات هذا إن حدثت بالطبع، قد تحولت إلى مواد بالية غير قابلة للاستخدام في ظل التطور السريع للاستهلاك والموضة المرتبطة به، لينتهي الأمر بحياة “مكرتنة” (معلبة) هامشية، تشير إلى فترة غامضة، كان فيها المستقبل هو ما ستتم العودة إليه من ملذات استهلاكية، لا أعرف مقدار خيبة الأمل الذي يعيش فيه أولئك الأشخاص اليوم، لكنها خيبة يعالجها عدم التخلص من تلك الملذات.

وحين أعود إلى فكرتي الأولى في ما يراه الآخر عن المكان، فإنه يستطيع أن يختزل المكان ببساطة إلى المكان الذي تأثث من خلاله عالمك البعيد، وهو تعريف مباشر ومرتبط بالظروف وثابت في عدم إدراكه – قصدا – للتحولات التي يمر بها المكان الخليجي بدوره وبشكل استهلاكي متسارع جزئيا، إلا أنه أيضا اجتماعي تحاول أن تلحق به أجيال خليجية ترتبك جيلا بعد آخر بعلاقتها مع المكان المتحول وهوياته المتشظية.

◙ العمل المؤثر لسالي أبوباشا، يقدم معضلة الوجود والمكان الأخير في هيئة مخطط هندسي لمنزل ومجموعة من الرسائل والصور والأوراق
العمل المؤثر لسالي أبوباشا، يقدم معضلة الوجود والمكان الأخير في هيئة مخطط هندسي لمنزل ومجموعة من الرسائل والصور والأوراق

في حين تؤكد الصناديق الكرتونية العودة والتعامل معها كخيبات مؤجلة، يأتي العمل المؤثر لسالي أبوباشا، ليقدم معضلة الوجود والمكان الأخير في هيئة مخطط هندسي لمنزل ومجموعة من الرسائل والصور والأوراق الثبوتية التي أشارت إلى رحلة والدها التي بدأها في العام 1979 في الكويت والتي انتهت أيضا فيها بعد مرضه بفايروس سي ووفاته ودفنه هناك عن 75 عاما فقط، مرحلة تخللها العمل على البيت المأمول في مصر، والذي لم يكمله ولم يعد إليه، ليكمله الأبناء من بعده.

تلخص تلك القصة المربكة، تلك المراوحة الهائلة بين مكانين أحدهما يمثل الشك والآخر هو اليقين، فلا بيت ثابتا في الخليج ولا حياة تتمثل بالاستقرار على الرغم من المدة، البيت هو المكان المصري أولا والحياة هي الحياة الأكيدة هناك أخيرا، لكن ماذا لو تدخل القدر؟ ما هو شكل الحياة التي يمكن وصفها هنا؟ وهل يكون المكان الحقيقي هو المكان الذي ننتهي إليه بدون أي امتيازات، مثوى الجسد بعد الموت؟

أفكر بالبيت، الذي يمثل الفكرة القائمة على ما قد تبنيه الغربة، غرفة بعد أخرى، تؤثثها في النهاية الغيابات المتتابعة، في مفارقة أن استخدام مفردة هجرة لدى المصريين تحديدا، لم يعن أبدا استقرارا نهائيا بالمعنى المادي والمعنوي، فهل يعود ذلك إلى الحمولة الثقافية الهائلة لدى المصريين والتي تمثلت في الشخصية المصرية بدورها خصوصا لدى أجيال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي وما تلاها، حيث المنتهى هو دائما مصر، أم أن مفهوم الهجرة الناقصة مرتبط فقط بالمكان الخليجي، الذي يبقى فيه الآخر دائما آخر مؤقت الوجود وفق منظومات الإقامة والعمل في الخليج؟

هناك كتاب مهم لعالم الاجتماع السويدي زيغمونت باومان بعنوان “غرباء عند بابنا”، وهو في تناوله يحلل الجدران الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تطيح بها منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات المصاحبة في الألفية الجديدة.

فكرت في هذا الكتاب وأنا أتجول بين الأعمال والأفكار التي تشعرك بأنك كنت تعلم دائما بوجودها متحاشيا النظر إليها، وكيف أنه على الرغم من حضور وسائل التواصل اليوم في عوالم الشباب الخليجي والعربي، إلا أن مفهوم المكان الخليجي وعلاقته بين الأنا والآخر لا يزال ملتبسا، وفكرة الغربة والغرابة لا زالت إفرازات متنامية في منطقة عربية تعاني في الكثير من مناطقها من عدم الاستقرار، لا تزال الحواجز قائمة رغم الإدراك الظاهري، ولا أعرف حقيقة، ما هو شكل الحوار المأمول، لفك كل تلك الالتباسات وتحقيق التواصل الإنساني العميق المجرد من أي صور نمطية يكونها الآخر عنا أو نكونها نحن بدورنا عن حياة الآخر.

 أقول لباومان إن المشوار لتحلل الجدران لا يزال طويلا وأقول لمشروع أنثروبولجي بالعربي والورش التي ينتجها عن مفهوم الهجرة والمكان الخليجي أن المواصلة هي الحل المبدئي لمحاولة الفهم.

لوحة

لوحة

لوحة

 

14