ملك الفاصوليا

من الصعب أن تتأثر مدينة بكاملها لوفاة صاحب مطعم، لكن ما حدث في بنغازي مع "ملك الفاصوليا" بعد الإعلان عن وفاته قبل يومين، يؤكد أن أشخاصا عاديين وطبيعيين من الممكن أن يتحولوا إلى أيقونات تتبرك بها الأرواح وتنبض لها القلوب بأدعية السكينة والسلام.
أتحدث عن الحاج محمد الربع هويدي العقوري الشهير بـ"أحميدة فاصوليا"، صاحب أشهر مطعم للأكلات الشعبية في بنغازي، والذي ضجت وسائل التواصل الاجتماعي لرحيله، ونعته الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب بالتشديد على أنه "مثّل جزءا أصيلا من تاريخ المدينة الشعبي والثقافي والاجتماعي وكان مطعمه معلما بارزا يجمع الكل بكل معاني طيب النفس، فعلى مائدته تربت أجيال على الاحترام المتبادل والود والصداقة وحب المدينة".
أهم درس يمكن التوقف عنده، أن الحاج أحميدة الذي افتتح كشكا صغيرا لبيع أطباق الفاصوليا في العام 1962 بمنطقة سيدي حسين، عاصر مختلف الأنظمة التي مرت على البلاد، من الملكي إلى الجمهوري فالجماهيري وصولا إلى الفوضوي الانتقالي، وكان دائما محل تقدير واحترام من الجميع. عاصر أزمنة صاحب الجلالة والأخ قائد الثورة، وكتب له أن يغادر دنيانا في زمن المشير. ولا أحد كان بإمكانه أن يحاسبه على قرار، أو يلومه على موقف، نظرا لأن حياته كانت خلطة من بهارات المحبة التي يرشها على طبق الفاصوليا لتضفي عليه نكهة الحياة الصافية الجميلة.
رغم صغر حجم محل ملك الفاصوليا، إلا أنه كان على الدوام قبلة الزائرين سواء القادمين من بنغازي وضواحيها أو من بقية المدن الليبية، فزيارة ثاني أكبر مدن ليبيا لا تكتمل دون تذوق أطباق الحاج أحميدة، وهو ما يحرص عليه فنانون وأدباء وكتاب وصحافيون ودبلوماسيون وغيرهم، وحتى كبار المسؤولين يكلفون من يذهب إلى المطعم ليجلب لهم وجبة الفاصوليا إلى مكاتبهم. حصل هذا على امتداد حوالي ستة عقود.
اللافت في الموضوع، أن طبق الفاصوليا في محل الحاج أحميدة هو الأرخص سعرا ليس في بنغازي فقط، وإنما في ليبيا كلها، وحتى في دول الجوار، حيث لا يتجاوز سعره دينارين (0.41 دولار أميركي)، وتصاحبه ابتسامة عريضة رحل صاحبها لكنها لا تزال تلمع في ذاكرة المدينة بمعاني الطيبة والنقاء.