كاتب بلجيكي يجمع بين عالمين عبقريين: الأدب والشطرنج

لعبة الشطرنج التي انتشرت بين الملوك انتشرت أيضا بين مختلف الطبقات الأخرى لاحقا، ولكن اهتمام الأدباء بها منذ القدم كان ظاهرة تدعو إلى التعمق فيها بأشكال مختلفة. الغوص في عوالم الشطرنج أتقنه الكاتب البلجيكي جان فيليب توسان، الذي خاض أيضا رحلة البحث في عوالم لعبة كرة القدم. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتب حول نظرته إلى الكتابة وإلى الشطرنج بما تمثله من عالم عبقري.
ولد جان فيليب توسان في بروكسل عام 1957. هو كاتب ومخرج سينمائي ومصور فوتوغرافي، منذ نشر “غرفة الحمام” سنة 1985 عند منشورات مينوي الشهيرة في باريس، أصدر مجموعة من الأعمال الأدبية القوية فنيا تحصل بفضلها على جوائز كثيرة من بينها جائزة ميديسيس لعام 2005 عن رواية “الهروب” وجائزة ديسمبر 2009 عن رواية “الحقيقة عن ماري”.
زفايغ والكتابة العفوية
• العرب: نشرتَ في أغسطس الماضي كتابين جديدين عند ناشرك التاريخي مينوي: رواية تحت عنوان “رقعة الشطرنج”، وترجمة جديدة لرائعة ستيفان زفايغ “أقصوصة لعبة الشطرنج”. كيف تمكنت من استلهام هذا المنشور المزدوج؟
جان فيليب توسان: في بداية عام 2020 لم يكن لدي أيّ مشروع كتابة. كنتُ أخططُ للسفر والقيام بالأعمال التحضيرية لرواية جديدة.
ثم جاءت جائحة كورونا، واضطررت إلى التخلي عن كل ما خططت له. ماذا كنت سأفعل؟ كنت قلقا، وأردت أن أتجنب أن أجد نفسي خاملاً في شقتي في بروكسل. عندها عادت إلى ذهني فكرة ترجمة شيء ما، وهي فكرة كانت تراودني قبل ثلاثين عامًا عندما كنت أعيش في برلين.
إلى جانب الترجمة أردتُ أيضًا أن أكتب كتابًا، لم أعرف ما هو بالضبط، يوميات ترجمتي، يوميات الحجر، تأملات في الإخفاقات؟ أصبح هذا الكتاب “رقعة الشطرنج”. كنتُ أكتبُ في الصباح وأترجمُ بعد الظهر، كتبت كل يوم من مارس 2020 إلى يوليو 2020.
في الواقع، اكتشفتُ الكتاب أثناء كتابته. بالنسبة إلي، عادة، لا توجد مسودة أولى أبدًا، إذ أني لا أذهب إلى الأمام إلا عندما أعتبر أن الفقرة انتهت. لكن الكتابة بشكل عفوي دون إعادة قراءتها لا تعني أنني لم أُعِدْ قراءتها بعد ذلك. ثم استغرقت إعادة القراءة مني عامين كاملين.
• العرب: لماذا ستيفان زفايغ وليس أديبا آخر كتب عن الشطرنج؟
جان فيليب توسان: إذا اخترتُ في نهاية الأمر ترجمة نص لزفايغ، وليس لأي شخص آخر، فهذا أولاً وقبل كل شيء، بالطبع، إجلالًا له. إنه تكريم، من خلال الكلمات ولعبة الشطرنج، من كاتب إلى كاتب آخر، إنه تكريم أخوي ومتواطئ ومحترم لما كان عليه رجل السلام والتسامح، الذي سحقه التاريخ.
وبما أنني لا أستطيع إلا أن أربط زفايغ بوالدي (في روايتي “العواطف”، ربطتُ وفاة زفايغ بوفاة والد الراوي، وبالتالي بوفاة والدي)، يبدو لي أيضًا، أبعد من التكريم الأدبي، فعل التبني والسلالة الأدبية.
• العرب: ما الذي تعتقد أنه مثير للاهتمام في “أقصوصة لعبة الشطرنج” لستيفان زفايغ إلى درجة أن يجعل منه تحفة فنية؟
جان فيليب توسان: إنه أحد الكتب النادرة جدا التي تتحدث حقا عن الشطرنج. بصرف النظر عن دفاع نابوكوف عن لوجين، لا يوجد الكثير من الأعمال المماثلة في الأدب، حيث تكون شخصية واحدة أو أكثر من لاعبي الشطرنج.
من الكرة إلى الشطرنج
• العرب: لقد نشرتَ “ميلانخوليا زيدان” في عام 2006 و”كرة القدم” في عام 2015 (انظر “العرب” بتاريخ 20 مارس 2016)، كيف تفسر هذا التحول من رياضة معروفة بأنها تحظى بشعبية كبيرة إلى لعبة الشطرنج التي تقع على النقيض من ذلك؟
جان فيليب توسان: في كلا الكتابين هناك علاقة خاصة جدًا بالزمن. هنا شاهد من كتاب “كرة القدم”، حيث أتحدث عن كرة القدم ولكن يمكن قول الشيء نفسه عن الشطرنج:
“إن اهتمامنا بمباراة كرة القدم يرجع أساسًا إلى علاقة خاصة جدا مع الوقت، علاقة الملاءمة الدقيقة، والتزامن التام بين حدوث المباراة ومرور الوقت. لا يمكن لكرة القدم أن تتسامح مع أصغر فجوة، أصغر هوة، وذلك على وجه التحديد لأن كرة القدم تمتزج بشكل مثالي مع تدفق الوقت، فهي تتبع مروره إلى هذا الحد، ولأنها تسكنه عن كثب، فبينما ننظر إليها، إنه يجلب لنا نوعا من الرفاهية الميتافيزيقية التي تصرفنا عن بؤسنا وتسحبنا من فكرة الموت. بينما نشاهد مباراة كرة قدم، خلال هذا الوقت المحدد للغاية الذي يمر ونحن في الملعب أو أمام تلفزيوننا، فإننا نتطور في عالم مجرد ومطمئن، عالم كرة القدم المجرد والمطمئن، نحن، بينما تدوم اللعبة، في شرنقة من الزمن، محفوظة من جراح العالم الخارجي، خارج طوارئ الواقع وآلامه وإحباطاته، حيث يبدو الزمن الحقيقي، الزمن الذي لا يمكن علاجه والذي يجذبنا باستمرار نحو الموت، مبنجا وكأنه مخدر” (“كرة القدم”، منشورات مينوي، 2015).
• العرب: مربع تلو الآخر، من الأول إلى الرابع والستين، أنت نفسك تنجح في “جهاز كشف الكذب للحصان” الذي يتحدث عنه جورج بيريك في رواية “الحياة: دليل الاستعمال”. هل يمكن أن نقول إن جمبازا فكريا معينا يثير اهتمامك في “لعبة الملوك”؟
جان فيليب توسان: لم أتمكن من تشكيل بنية الكتاب على الفور. وخلال عملية الكتابة أصبحت لعبة الشطرنج هي الموضوع الرئيسي للكتاب. هناك إشارة واضحة إلى مدرسة الأوليبو لكنها تكاد تكون خدعة. الأمر شكلي من الخارج، ولكنه ضارب في الحرية من الداخل. مربعات الفصول في”رقعة الشطرنج” ليست بنفس الحجم، ولا تتناول نفس الموضوع، ولكنها ضاربة في الحرية من الداخل، وهي كذلك قابلة للتوسيع بالكامل.
وما يلفتُ انتباهي أيضًا هو أنها تُذكرني بروايتي الأولى المنشورة “غرفة الحمام” (منشورات مينوي، 1985). إنه الشيء نفسه، مظهر من الجمود مع ترقيم الفقرات، لكن ما يسبق كل شيء هو الحرية.
• العرب: غالبًا ما يُنظرُ إلى لعبة الشطرنج على أنها شكل من أشكال العبقرية التي يمكنها التحول إلى الجانب المظلم من القوة في أي لحظة. ومع ذلك، منذ ألكسندر أليخين، يبدو أن اللاعبين قد هدأوا. لا شك أن ماغنوس كارلسن شخص عبقري، وفوق طاقة البشر تقريبًا، لكنه لا يُظهر أي شكل من أشكال الجنون أو الخرف في المستقبل. وينطبق الشيء نفسه على محاورك الممتاز في المقابلة التي أجرتها معكما “مجلة الفلسفة”، ماكسيم فاشيي – لاغراف، الذي لا تضاهي ثقافته في الشطرنج إلا معرفته الأدبية والإنسانية الكونية. هل يمكنك أن تخبرنا عن مشاعرك تجاه خط الصدع الذي يلتصق بجلد لاعبي الشطرنج والشطرنج كلعبة؟
جان فيليب توسان: يمكن أن نعتبر لاعب الشطرنج الذي يُصَابُ بالجنون صورة نمطية أو حتى عبارة مبتذلة، ولكن يجب أن ندرك أن لاعبي الشطرنج غالبًا ما يكونون مصابين بالهوس.
• العرب: من هو بطل الشطرنج المفضل لديك؟
جان فيليب توسان: حتى لو كنت لا أحب الشخص، فإن بوبي فيشر هو حقًا بطلٌ استثنائي.
كتابة متناهية
• العرب: أخيرًا، إذا كان عليك اختيار نص لك سيترجم إلى لغات أخرى، العربية على سبيل المثال، أي واحد ستختار ولماذا؟
جان فيليب توسان: اليوم، أود أن أقول”رقعة الشطرنج”، بالطبع! ولكن يمكننا أيضًا أن نبدأ بنص قصير، على سبيل المثال “اللحظة المحددة التي يدخل فيها مونيه المرسم” أو “اختفاء المناظر الطبيعية”.
ربما تبدو بعض إجابات جان فيليب توسان مقتضبة إلى حدّ مّا، لكنها تعكس فعل الكتابة لديه، فهو من كتاب جيل الثمانينات الذين تتلمذوا على يد مدرسة “الرواية الجديدة” التي احتضنتها منشورات مينوي منذ الخمسينات مع أدباء أمثال صموئيل بيكيت وألان روب غريي وناتالي ساروت وكلود سيمون المتحصل على جائزة نوبل سنة 1985.
يمكن بالفعل تسمية كتابة جان فيليب توسان بالمتناهية، بمعنى أنها ضاربة في الصغر وأنها تجعل من هذا الصغر حقلا لامتناهيا للكتابة أو بالتحديد للإيحاء أو للتصوير عبر الإيحاءات، وبالتالي تصير مربعات رقعة الشطرنج الأربع والستين نقطة الانطلاق لعالم بأسره يتسع لكوكب الأرض وللنظام الشمسي ولدرب اللبانة ككل.
هذا فعلا ما يخبرنا به جان فيليب توسان في حواره مع أحد أفضل لاعبي الشطرنج في العالم اليوم، الفرنسي ماكسيم فاشيي – لاغراف، حيث ينبهه إلى هذه الحقيقة العلمية: “توجهتُ إلى الشطرنج والأدب في العشرينات من عمري. وجدت مع الرواية إمكانية الهروب إلى الخيال. مع لعبة الشطرنج، لديك أيضًا انطباع بأنك مبدع ألعابك الخاصة، بناءً على قواعد بسيطة. هناك ستة وعشرون حرفًا في الأبجدية، ولكن من خلال الجمع بينها يمكنك ملء المكتبات. هناك أربعة وستون مربعًا على رقعة الشطرنج، لكن حسابات شانون تُشير إلى أن هناك عشرة ضارب مئة وعشرين لعبة محتملة: 10120.
هكذا، تتجلى لنا العلاقة بين الأدب والشطرنج على أنها فنية محضة، فهي كسر للحدود وتجاوز للواقع، زيادة على أنها إبداع متواصل وشحذ لملكة العقل والجسد على حد السواء.