الحكومة العراقية تعيد تشغيل مصفاة بيجي وتحجم عن ملاحقة المسؤولين عن توقفها

ميليشيا قيس الخزعلي فككت المصفاة وباعت معداتها الثمينة كخردة.
السبت 2024/02/24
ما خلفه زلزال داعش عصف به إعصار الميليشيات

الإعلان في العراق عن إعادة تشغيل أكبر مصفاة للنفط بما يحمله من بشرى للعراقيين ولأبناء محافظة صلاح الدين على وجه الخصوص، لم يخل من منغصات تمثّلت في إفلات الجهة المسؤولة عن تدمير المصفاة ونهب معدّاتها من أي نوع من أنواع المحاسبة والعقاب، وما ينطوي عليه ذلك من ضعف الدولة العراقية وعدم قدرتها على  فرض قوانينها وحماية ممتلكاتها.

بغداد - لم يترافق إعلان الحكومة العراقية الجمعة عن إعادة تشغيل مصفاة بيجي لتكرير النفط مع أي إجراءات قانونية ضدّ الجهات التي تسببّت في توقّف المصفاة الواقعة بمحافظة صلاح الدين شمالي العاصمة بغداد طيلة أكثر من عشر سنوات، وما نتج عن ذلك من خسائر مادية كبيرة للدولة.

واكتفت حكومة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني بالإعلان عن قيام الأخير بافتتاح المصفاة التي أعيد ترميمها وتجهيزها، وتصنيفه الخطوة ضمن مساعي تحقيق الاكتفاء الذاتي للبلاد من المشتقّات النفطية.

وكان السبب المعلن لتوقّف المصفاة الأكبر من نوعها في العراق منذ منصف سنة 2014 هو الدمار الذي لحق بها جرّاء احتلالها من قبل تنظيم داعش والمعارك التي دارت داخلها لاستعادتها منه.

لكنّ العديد من المصادر العراقية بما في ذلك أحزاب سياسية ونشطاء في مجال مكافحة الفساد لم تتأخّر في الكشف عن السبب الحقيقي الذي حال دون ترميم المصفاة وعودتها إلى الإنتاج في فترة زمنية معقولة، وهو قيام الميليشيات التي شاركت في معركة استعادتها من داعش بتفكيك جميع معدّاتها سواء منها المتضرّرة أو السليمة وبيعها كخردة مقابل حوالي 300 مليون دولار بينما يبلغ السعر الحقيقي لاقتنائها وتركيبها بضعة مليارات من الدولارات.

عمر الجنابي: استعادة معدات المصفاة خسارة كبيرة للسراق المجاهدين
عمر الجنابي: استعادة معدات المصفاة خسارة كبيرة للسراق المجاهدين

وتوجّهت الاتهامات بشكل مباشر لميليشيا عصائب أهل الحقّ بقيادة قيس الخزعلي التي قامت بالدور الرئيسي في معركة المصفاة ورفضت مغادرتها بعد ذلك بذريعة حمايتها من عودة التنظيم إليها، فيما كان عمّال وتقنيون يعملون دون انقطاع تحت إشراف مسلّحيها على تفكيك المكائن وسائر المعدّات الأخرى وفرز السليم من المتضرّر وتحميلها في شاحنات لنقلها باتّجاه إقليم كردستان العراق.

وكشفت المصادر أنّ الوجهة النهائية لمعدّات مصفى بيجي كانت إيران إلاّ أن عملية تهريبها إلى هناك تأخّرت لأسباب لوجستية وأمنية، وتم العثور على الجزء الأكبر منها مخزّنا لدى تاجر في محافظة أربيل.

وفي أغسطس من العام الماضي نشر الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي عبر حسابه في فيسبوك “معلومات عن المصفى المسروق” كشف من خلالها عن استخدام ستين شاحنة لإعادة المواد التي نهبت من المصفاة ونقلها من أربيل إلى محافظة صلاح الدين.

وأكّد في منشوره أن جهات في مجلس الوزراء ووزارة النفط كانت تعرف بمكان المواد المسروقة منذ العام 2017، وقد شكلت لجانا لإعادة تلك المواد المسروقة ولكنها لم تنجح لأن شخصيات مشاركة في اللجان اختلفت في ما بينها حول العمولات التي ينبغي الحصول عليها.

وقال المرسومي إنّ إعادة معدّات المصفاة تمت بناء على وصية من التاجر الذي اشتراها، قبيل وفاته، لكن مصادر نيابية قالت إنّ العملية تمت في إطار صفقة عقدتها حكومة السوداني وتعهّدت فيها بعدم القيام بأي ملاحقات أو فرض تعويضات على الجهات المتورّطة في نهب المصفاة والمشاركة في محاولة تهريبها إلى خارج البلاد.

وجاءت الصفقة، بحسب نفس المصادر، بضغط من قبل ميليشيا عصائب أهل الحق وكتلة صادقون النيابية الممثلة لها تحت قبة مجلس النواب والتي أصبحت مشاركة في الحكم بشكل مباشر باعتبارها جزءا من الإطار التنسيقي الجامع لأبرز القوى السياسية الشيعية المشكّلة للحكومة الحالية.

وفسّر الإعلامي العراقي عمر الجنابي عدم مغادرة معدّات المصفاة للتراب العراقي بأنّ “الشركة المصنعة لها صنعتها خصيصا لمصفاة بيجي لذلك لم يتمكن هؤلاء من بيعها لأي دولة أو شركة وأصبحت خردة في نظر الجميع”، وقال مستهزئا “هذه تعد خسارة كبيرة للتجار وللسراق المجاهدين”.

وأضاف متسائلا في تعليق عبر حسابه في منصّة إكس “الحكومة الحالية اشترت تلك المعدات ونقلتها مجددا إلى بيجي، والسؤال بكم عادت، ومَنْ الوسيط، وكم العمولة، وهل بقيت تعمل بعد هذه السنوات من الإهمال”.

ورغم الكشف المبكر عن الجهة المتورّطة في نهب معدات أكبر مصفاة للنفط في العراق، فإنّ أيا من قيادات ميليشيا العصائب لم يخضع لأي نوع من أنواع المساءلة بشأن القضية، بل إنّ زعيم الميليشيا قيس الخزعلي ظل على مدى السنوات الأخيرة يزداد تمكّنا ويوسّع نفوذه داخل أجهزة الدولة.

وكان الكشف عن تورّط العصائب في القضية قد جاء من داخل العائلة الموسّعة للأحزاب والفصائل الشيعية التي ينتمي إليها الخزعلي.

وكان من أوائل من اتّهم العصائب بسرقة معدّات المصفاة، قياديون في تيار الحكمة بزعامة عمّار الحكيم. وقد أقدموا على ذلك نكاية في الخزعلي الذي أقدمت الميليشيا التابعة له على قتل صاحب مطعم في بغداد ينتمي إلى التيار، الأمر الذي فجّر معركة سياسية تردّدت أصداؤها في الإعلام التابع لكلا الطرفين.

ونشر تيار الحكمة رسالة باسم شبابه موجّهة للخزعلي مما ورد فيها “إن كنت حريصا يا شيخ على هذا الوطن فالأولى بك أن تحاسب أتباعك الذين نهبوا مصفى بيجي ومعداته التي تقدر بالمليارات.. حاسبهم إن كنت صادقا على سرقتهم لبيوت المسيحيين واستيلائهم عليها في الكرادة وزيونة، وقائمة الموبقات تطول”.

كما وجّه التيار الصدري بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر اتهاما مباشرا للعصائب بسرقة معدات المصفاة. وقال في منشور عبر حساب صالح محمد العراقي المكنى بـ”وزير القائد” في فيسبوك خاطب من خلاله كتلة صادقون النيابية التي عبر عنها باسم كتلة “كاذبون”، “نحن حاسبنا فاسدينا ولم نتعدَّ مثلكم على مصفى بيجي”.

وكان تدمير المصفاة، وتوقفها عن الإنتاج، قد شكّل ضربة إضافية لمحافظة صلاح الدين التي طال بُناها الأساسية دمار كبير بفعل ما شهدته مناطقها من حرب ضارية ضدّ تنظيم داعش بما انعكس على أوضاع السكان الذين اضطر العديد منهم إلى النزوح عن ديارهم وواجهوا بعد ذلك مصاعب كبيرة في العودة إليها بفعل ما لحقها من تخريب شمل أيضا مصادر الرزق ومواطن العمل.

وكانت المصفاة تمثّل أهم منشأة اقتصادية في صلاح الدين وتشغّل عددا كبيرا من الأيدي العاملة وتساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تحريك عجلة الاقتصاد في المحافظة التي يتحدّر منها الرئيس الأسبق صدّام حسين زمن حكم حزب البعث وعرفت في عهده ازدهارا عمرانيا واقتصاديا كبيرين، لكّن سكانها بدأوا منذ سنة 2003 يشتكون التهميش ويقولون إنّ حركة التنمية شبه متوقّفة فيها منذ ذلك التاريخ، بل في تراجع بفعل فقدها حتى المنجزات الموروثة عن فترة ما قبل الاحتلال الأميركي للعراق، وعدم صيانة وتجديد البنى التحتية القائمة في المحافظة.

وتعتبر محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار ونينوى، وهي المواطن الأساسية لأبناء الطائفة السنية في العراق، في حكم المنكوبة بالحرب ضدّ تنظيم داعش، حيث أتت المواجهات الضارية بمختلف أنواع الأسلحة على نسبة كبيرة من بناها الخاصة والعامّة.

وسيطرت فصائل الحشد الشعبي، المشكّل من العشرات من الميليشيات الشيعية، خلال حرب داعش على مناطق شاسعة من تلك المحافظات وتمسّكت بمواقعها داخلها بعد نهاية الحرب. وفرضت عصائب أهل الحق سيطرتها على مصفاة بيجي واعتبرت نفسها مسؤولة عن تأمينها ومنعت إدارة محافظة صلاح الدين أو أي جهة تابعة لوزارة النفط من الدخول إليها بحجة وجود ألغام وعبوات ناسفة داخلها، غير أن ما جرى لاحقا أثبت أن الميليشيا كانت تأتي بطواقم فنية بغية تفكيك منشآت المصفاة ومعداتها بأسرع وقت ممكن.

3